السبت، 22 يونيو 2013

خطبة بـ عنوان: "الوقاية من الفتن الفكرية"

عباد الله, إننا في زمنِ فتنةٍ تنبأ بهَا النبيُّ r فَقَالَ فيما صَحَّ عنه: بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ فِتَنٌ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُمْسِي الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، وَيُصْبِحُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا. أي إنها فِتنٌ تجعل المرءَ يخرُجُ من دينه, فتن الشبهات, الفتن الفكرية, ونحن نَرَى مِصدَاقَ ذلك فيما يكتَبُ ويُنشَرُ على مواقعِ التواصل, فالبعض يكتب, والكل يقرأ, يصبح الرجل مؤمناً فإذا أمسى كتب تغريدة أو خاطرة تقدح في الدين وثوابته وما علم منه بالضرورة فأمسى بها كافراً أو يمسي مؤمناً فإذا أصبح كتب تغريدة مما سبق فأصبح بها كافراً, يكتبونَ الكفر وكلمةَ الكفر استهزاء وإلحادا وإنكارا, في سطرين أو ثلاثة وَيَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ. فما السلامةُ من ذلك؟ السلامةُ في أمور:
أولاً: سؤالُ الله الثباتَ على الدين. عَنْ أَنَسٍ t قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ r يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ قَالَ: نَعَمْ، إِنَّ القُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ.
لا يدري الإنسان ربما يقع في قلبه زيغٌ فيَهَلَك. فنسأل الله أن يثبّتَ قلوبَنَا على دينه.
ثانياً من وسائل السلامة: اعتزالُ مواطِنِ الفتنةِ, وتدبروا قصةَ أصحابِ الكهف, لَمَّا أصابت قومَهُم فتنةُ الشركِ ماذا صَنَعَ الفتية؟ قال تعالى{وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} فاعتزالُ مواطِنِ الفتنةِ مرغَّبٌ فيه شرعاً, لأنه نجاةٌ وسلامة, فلما اعتزلوا موطِنَ الشرك, قال تعالى: {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا}. وكذلك نحن لنعتزِل على الإنترنت مواقِعَ الإلحاد والكفرَ البواح ومتابعةَ كتابات مَنْ يكتب في الكفرِ بالله, فهذا مأمورون به شرعاً والدليلُ حديثُ جَابِرٍ أَنَّ عُمَرَ أَتَى النَّبِيَّ r بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصَبْتُ كِتَابًا حَسَنًا مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ, فَغَضِبَ النَّبِيُّ r وَقَالَ: أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ يعني أَمُتَحَيِّرُونَ؟ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً .. ولَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي. إن كُلَّ مُفكّرٍ أو كاتِبٍ أو مؤلّفٍ تقرَأُ لَهُ سيترُكُ أثَرَاً في فكرِك وقلبِك وتوجُّهِك, فلا تقرأ يا أخي إلا لذي عِلمٍ ودين قال ابنُ سيرين رحمه الله: إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ، فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ.
ثالثاً من وسائِلِ السلامة: المبادرةُ إلى العملِ الصالِحِ فإنَّ له ثمرةً عظيمةً في الحمايةِ من الفتنة, قَالَ بعضُ السلف إِنَّ لِلْحَسَنَةِ نُورًا فِي الْقَلْبِ. هذا النورُ هو الفرقانُ الذي يُميّزُ بِهِ الطائعُ بين الحقّ والباطل, قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا}. قال المفسرُ ابنُ كثير مَنِ اتَّقَى اللَّهَ بِفِعْلِ أَوَامِرِهِ وَتَرْكِ زَوَاجِرِهِ وُفِّقَ لِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ مِنَ الْبَاطِلِ وإنَّ من أخص الأعمال الصالحة وأقواهَا أثراً الصلاة فهي الحِرْزُ المكين والحِصْنُ الحصين, الواقي من الفتن, وتأملوا هذا الحديث, عن أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ r قَالَتْ: اسْتَيْقَظَ النبيُّ r لَيْلَةً فَزِعًا يَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، مَاذَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الخَزَائِنِ؟ وَمَاذَا أُنْزِلَ مِنَ الفِتَنِ؟ مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الحُجُرَاتِ؟ - يُرِيدُ أَزْوَاجَهُ لِكَيْ يُصَلِّينَ - رُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ فِي الآخِرَةِ. فأخبَرَ بالفتنِ النازلةِ ثم حرصَهُنَّ على الصلاة فهي الواقية بإذن الله من تلك الفتن.
أسأل الله أن يثبتنا وإياكم على دينه, وأن يصرف عنا وعنكم الفتن..
عباد الله أولادُكم أمانةٌ في أعناقكم, فلا يقرؤوا ولا يتابعوا إلا ما يُقَوِّي دِينَهُم وينفعهُمُ في دنياهم, والوقايةُ خيرٌ من العلاج, فلقنوهم أولاً دعاءَ يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ. وحصّنُوهُم ثانياً بالقرآنِ تلاوةً وحفظاً وتدبُّراً, بالله عليكم مَنْ مِنَّا حرَّص أولادَه على النظرِ في القرآن كما ينظرون في الجوالات والفضائيات؟ مَنْ مِنَّا حرَّص أولادَه على قراءةِ القرآن كما يقرؤونَ في مواقع التواصل ويتابعون اليوتيوب وغيرَهُ؟ هل حصَّنَّاهُم بالقرآن؟ هل جلسنا معهم لدقائق نتدبَّرُ معهم بعضَ آياتِ القرآن؟ الفرصةُ الآن مواتية فأنتم في الإجازة الصيفية, فَحريٌّ أن يكونَ لأبنائكم فيها نصيبٌ مع القرآن فإنه الهدى والنجاة ومن لم يتأثر بالقرآن ويؤثر فيه فلا قلب له جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ قبل إسلامِهِ يحكي موقفاً له مع القرآن كان سبباً في إسلامِهِ, يقول: سَمِعْتُ النَّبِيَّ r يَقْرَأُ فِي المَغْرِبِ بِالطُّورِ، فَلَمَّا بَلَغَ: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لاَ يُوقِنُونَ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ المُسَيْطِرُونَ} قَالَ: كَادَ قَلْبِي أَنْ يَطِيرَ. كَانَ سماعُهُ للقرآن من فم النبيّ r سبباً لدخولِهِ في الإسلام, قلوبٌ حيّةٌ أثَّرَ فيها القرآن فهداهَا لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ. فربُّوا أولادَكُم على مائدةِ القرآن, فإنه السلامةُ لكم ولَهم من فتنِ الشبهات, ثم صلوا وسلموا رحمكم الله..

الجمعة، 14 يونيو 2013

خطبة بـ عنوان "لباس النساء في مناسبات الزواج"

عباد الله, نفرَحُ بإقامةِ مناسباتِ الزواجِ لمَا فيها من تآلُفٍ وتواصُلٍ ولربما أنَّ البعض لا يرى صديقه أو قريبه إلا في مناسبةِ عرس, ويتأكد هذا أيضاً في حق النساء فمناسبات الأعراس فرصة لهن للتلاقي والتواصل إلا أن مما يلوث تلك المناسبات ويُسِئُ لَهَا ويشوهُ جمالها ويعكرُ أجوائها ما تلبسه بعضُ النساء فيها من ملابس خادشة للحياء فيها من التعري أكثر من السِّتر ملابس تعري أكثر مما تستر ملابس لا تلبسها المرأة إلا في غرفة نومها مع زوجها ومع هذا تلبسها أمامَ النساءِ في الأعراس بدونِ تحرجٍ أو حياءٍ أو خوفٍ من الله.
عباد الله, إنَّ اللهَ تعالى برحمته أنزلَ علينَا لِبَاسَاً يُوارِي عوراتنا ويستُرُها, وتَستُّرُنا بها من تمامِ تقوانا للهِ, قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ.. يعني عوراتِكم .. وَرِيشًا.. وهُوَ مَا يُتَجَمَّلُ بِهِ ظَاهِرًا.. وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ}.
المرأةُ المتسترَةُ في مناسبات الأفراح أطاعت ربها, وحققت التقوى بتستُّرِهَا في لباسِها, وأحسنَت إلى نفسِهَا وإلى أسرتِهَا وإلى مَن دعاها, أمَّا المتبذلةُ التي تلبسُ العاري ولا تسترُ من جسدِها إلا القليل, فإنها عَصَت ربَّهَا وأساءَت إلى نفسِها وإلى مَن دعاها, وقبلَ ذلك أطاعت الشيطانَ الحريصَ على إظهارِ العَورات وإبداءِ السوءات, الذي سَعَى في إخراجِ أبينَا آدَم مِنَ الْجَنَّةِ, وَتَسَبَّبَ فِي هَتْكِ عَوْرَتِهِ بَعْدَمَا كَانَتْ مَسْتُورَةً عَنْهُ، قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} الشيطانُ حريصٌ على إقناعِ المرأة بأن جمالَهَا ومستقبلَها وإعجابَ النساءِ بها مُرتَهَنٌ بما تُبديه من مفاتِنِهَا, مما تغري الناظِرَ لَهَا قَالَ تَعَالَى: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا} فَمَنْ أبدَت مَفَاتِنَهَا وما تسترت في لباسها, فقد انتكست فِطرتُهَا, ووقعت في فَخِّ شيطانِهَا وعرَّضَت نفسَهَا لعقابِ اللهِ, في حديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا, نِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مَا عِقَابُهُنَّ يا رسولَ الله؟ لَا يَدْخُلْنَ الجَنَّةَ وَلا يَجِدْنَ رِيحَهَا. قَالَ العُلَمَاء: كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ يَلْبَسْنَ ثِيَابًا رِقَاقًا تَصِفُ مَا تَحْتَهَا فَهُنَّ كَاسِيَاتٌ فِي الظَّاهِرِ, عَارِيَاتٌ فِي الْحَقِيقَةِ. وإن مما يُدمي قلبَ كلِّ غيورٍ أن لا تَرَى في أسواقِ الأزياء وألبسةِ الأفراحِ إلا العاري أو الضيق أو القصير الفاضح وكلَّها لا حشمةَ معها ولا حياءَ عندَ من تلبسُهَا, ومتى رُؤِيَ العُري والتعرِّي جمالاً وذوقاً وتقدماً فقولوا على الفطرةِ والقِيَمِ والأخلاقِ السلام ألَاَ فعلموا نسائكم أن يَجتنِبن اللباسَ المنهيَّ عنه في الأعراسِ, مما يَكشِفُ العورات، ويُبرز المفاتن ويُحجّم الأعضاء كالملابس الشفافة أو الضيقة أو المفتوحة من النحر والصدر والظهر أو ما يُظهر الساقين أو نصف الفخذين, أو ثوبِ شهرةٍ, فبعضُ النساء هداهن الله تتفنن في تفصيلِ فستانٍ تحضرُ بِهِ عُرْسَاً لتشتهِرَ بِهِ, وتُلفِتَ أنظارَ النساءِ له, فهذا ثوبُ شهرةٍ مُحرَّمٌ لِبسُهُ, وتأثم من تلبسُهُ, والمسلمةُ التي رضيت بالله رباً, وبالإسلام ديناً, وبمحمدٍ r نبياً, لا تلبسُهُ أبداً, ولو أمام النساء. قَالَ النبيُّ r: مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ فِي الدُّنْيَا، أَلْبَسَهُ اللَّهُ ثَوْبَ مَذَلَّةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ أَلْهَبَ فِيهِ نَارًا.
فاتقوا الله رحمكم الله, وَقومُوا بواجِبِكُم وجَدِّدُوا شُعورَ الغَيرةِ في قلوبكم, وانصَحُوا نسائَكُم وذكِّرُوهُنَّ أَنَّ السترَ في اللباس ليس عيباً, وأن الحشمةَ في اللباس ليس عاراً, السِترُ في اللباس فضيلةٌ ربانية, والعُريُّ في اللباس خطيئةٌ شيطانية, السترُ علاجٌ ربانيٌّ لكثيرٍ من أمراض الشهوات والعريُّ داءٌ شيطانيٌّ وسببٌ لانتشارِ الأمراضِ النفسية والأدواءِ الروحية والعينِ والحسدِ والسحر بين أوساط النساء, فاللهم استرنا ولا تفضحنا..
عباد الله, كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ, وَالرَّجُلُ منكم رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وعن زوجته وبناتِهِ, فليحرص على أن لا يخرُجْنَ من بيتِهِ إلا محتشماتٍ بلباسِ السترِ والإيمان, وأن لا ينخدعن بما يُسمَّى الموضة فإنها مكيدةٌ شيطانيةٌ يهودية, انتقلت إلى بلاد الإسلام وللأسف على أيدي مسلمين ويتسابَقُ النساءُ عليهَا بجهلٍ وَسَفَه, فحفظوهُنَّ واحموهُنَّ من ملابِسِ الفِسقِ والفِتنة. كَمَا لَاَ يَمنَع أحدَكُم حَيَاؤُهُ أن يُضَمِّنَ كرتَ دعوتِهِ أو رسالةَ جواله لحضورِ مناسبةِ الزواج يُضَمِّنَهَا سَطْرَ تذكيرٍ للنساء الحاضرات أن يَلتزِمن لباسَ السّترِ والحشمة وأن يَحذَرْن التعري الذي يُسخِطُ الله ويُجلِبُ الشياطينَ ويمحَقُ بركةَ تلك الليلة. هذا أقلَّ واجب نقومُ به, ولا حياءَ في ذلك, والناصِحُ المذكّرُ لقومِهِ ونساء قومه مأجورٌ إن شاء الله. ثُمَّ صَلُّوا على مُعلّم البشريةِ الخير والفضيلة ومُحذِّرِهِم من الفاحشة والرذيلة.. يَا رَبِّ صَلِ عَلَى المُختارِ سيدِنا  مَا غنَّت الطيرُ في دَوحٍ بألحانِ
                       وَالآلِ والصَّحبِ ثُمّ التابعينَ لَـهُ     وَاجْعَلْ مَحبتَهُم رُوحِي وَرَيْحَانِي

الجمعة، 7 يونيو 2013

خطبة بـ عنوان: " تذكر حر جهنم بحر الصيف"

عباد الله, الله تعالى حين خلق في الدنيا الحرَ والبرد, والصيفَ والشتاء, والأماكنَ المعتدلة الجميلة والمُفرطةَ الحارة, أرادَ بهذا أن نربِطَ بين الدارين, التي نعيشُها والتي ننتقلُ إليها فما في الصيف من حر وسمومٍ وسعي للظِّلَال وشُربِ البارد الزُّلَال هذا يوقظ القلوبَ الغافلة, والضمائرَ النائمة, كيف يُوقِظُهَا؟ يُذَكّرُهَا بالدارِ الآخرة { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}.
في الصحيحين, قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ: رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الحَرِّ من نفس جهنم في الصيف، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ من نفس جهنم في الشتاء.
عباد الله, القلبُ الحي, والضميرُ اليقظ هو من يتذكَّرُ بِحَرِ الصيف حَرَّ جهنّم, فيستعيذُ باللهِ منها هذا منهجُ الصالحين العارفين يربطونَ بينَ مايشعرونَ به في الدنيا بالآخرة لأنهم يوقنون أنهم سينتقلون من الدنيا إليها فما يرونه في الدنيا من حَرٍّ مُفرِط يذكرُهُم بجهنم
قلوبُ العارفينَ لَهَا عيونٌ      تَرَى مَا لَاَ يَراهُ النَّاظِرُونَا
وتأمَّلُوا هذه الأخبار, كان في الشام بيوتٌ مهيأةٌ للاستحمام والتنظف بالماء الدافيء وتسمى عندهم الحمام, وقد تكون دافئة حارة, وهذه تذكر السلف بنار الآخرة, دَخَلَهَا أحدُهُم فَسَمِعَ تَالياً يتلو فيها: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ} فغُشِيَ عَليه.
وتزوَّج صِلَةُ بْنُ أَشْيَمَ فدخل الحمام عريساً ثم دخل على زوجته تلك الليلة فقام يصلي حتى أصبَح وقال: دخلتُ بالأمس بيتاً ذكرني النار يعني الحمام, ودخلتُ الليلة بيتاً ذكرتُ بِهِ الجنة يعني على عروسِهِ, فلم يزل فكري فيهما حتى أصبحت.
عباد الله, ونحنُ في حياتنا هناك ما يذكرنا بنار الآخرة, في الظهيرة تشتد الحرارة, هل تعلمون لماذا؟ لأن أبواب جهنم تُفتح كُلُّها فيها لتتنَفّس, فنشعر نحنُ بزيادة الحر في الظهيرة, فهل تَذكَّرنا بهذا نارَ جهنم؟ النَارُ التي نشعلها جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ, قال الصحابة: يَا رَسُولَ اللَّهِ, إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً, يعني لكفى حرُّهَا في الإحراق والتعذيب, فَقَالَ: فُضِّلَتْ جهنَّمُ عَلَيْهِنَّ بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا كُلُّهُنَّ مِثْلُ حَرِّهَا. فهل تَذكرنا بهذا نارَ الآخرة؟ الشمسُ الجرمُ الدائري المُشِعُّ سِرَاجًا وَهَّاجًا, خُلِقت من النار, وفي القيامة إليها تعود, فهل ذكرنا حرُّها ولفحُ سمومِهَا بنارِ جهنم؟ كَانَ بَعضُ السلفِ إِذَا أصابَهُ لَفْحٌ حَارٌّ يقول: يا بَرُّ يا رَحيم مُنَّ علينَا وَقِنَا عذابَ السموم. وصَبَّ بعضُ الصالحين على رأسه ماءً فوجدَهُ شديدَ الحَرِّ فبَكَى, وقَالَ: ذَكرتُ قولَهُ تعالى: {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ}.
فلمَاذا لا نتذكّرُ كمَا تذكروا؟ ولماذا لا نخافُ كمَا خافوا؟ ولماذا لا نَهرُبُ من النار كمَا هربوا؟ قَالَ الحسن: كُلُّ حَرٍّ أهلَكَ شيئاً فهو مِن نَفَسِ جهنَّم.
فاتقوا الله رحمكم الله, ومكة شرفها الله عُرِفَت بالأجواءِ الصيفيةِ الحارة, فقد تعدت درجاتُ الحرارةِ خلال الأسبوع الماضي الخمسين, وما خلق اللهُ الحرَّ والأجواءَ الساخنة إلا تذكرةً بنار جهنم, وتخويفاً, فشدةُ الحر من آياتِ الله التي لا ينبغي أن تمر هكذا دونَ توقف أو تذكر, قال تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} فلتكن هذه الأجواء نجاةً لنا ومُخلِّصَةً لنا من حر نار الآخرة فنجتنب من الأعمال والأقوال ما يكون سبباً لدخولِها كإضاعةِ الصلوات, واتباعِ الشهوات, وأكل الربا, والرشوة, والعقوق, وشهادة الزور, وظلمِ العباد, وأكل أموالهم بالباطل, وأذيتِهِم, والإضرارِ بهم, وإشاعة الفاحشة فيهم, والاستهزاءِ بالدين, والنميمة, فاللهم أجرنا ووالدينا وأمواتنا من النار .. إلخ
عباد الله, من منعَهُ الحرُّ عن أداءِ الطاعات كحضورِ صلاةِ الجماعة, والجُمَع, واتباعِ الجنائز والصومِ والصدقةِ على المساكين والأرامل, والخروجِ للدعوةِ في سبيل الله, وطلبِ العلمِ وبذلِهِ, وحضورِ دروسه ودوراتِهِ, من امتنع عن تلك الطاعات بلا عذر شرعي بل حُجَّتُهُ الحر, فقد تشبَّهَ بالمنافقين فإنهم قالوا لبعضهم لما استنفرهم النبيُّ r لغزوةِ تبوك قالوا لبعضهم: {لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ} أي لا تخرجوا في هذا الحر الشديد, فَقَالَ اللهُ لنبيّه: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} أي قل لهم إن كانت حرارةُ الطقسِ منعتكم عن الجهاد فتقصيرُكم فيه وامتناعُكم عنه سيوردُكم إلى نارٍ حرُّها أشدُّ من حر الدنيا. فيا عبد الله تذكر بحرِّ الصيف حَرَّ الآخرة, {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ. وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ}
يَا رَبِّ صَلِ علَى المختارِ سيدِنا .. ما غنَّت الطيرُ في دَوحٍ بألحانِ.
وَالآلِ والصحبِ ثُمّ التابعينَ له.. واجعَل مَحبتَهُم رُوحِي وريْحَانِي