عباد الله, الله تعالى حين خلق في الدنيا الحرَ والبرد, والصيفَ والشتاء, والأماكنَ المعتدلة الجميلة والمُفرطةَ الحارة, أرادَ بهذا أن نربِطَ بين الدارين, التي نعيشُها والتي ننتقلُ إليها فما في الصيف من حر وسمومٍ وسعي للظِّلَال وشُربِ البارد الزُّلَال هذا يوقظ القلوبَ الغافلة, والضمائرَ النائمة, كيف يُوقِظُهَا؟ يُذَكّرُهَا بالدارِ الآخرة { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}.
في الصحيحين, قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ: رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الحَرِّ من نفس جهنم في الصيف، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ من نفس جهنم في الشتاء.
عباد الله, القلبُ الحي, والضميرُ اليقظ هو من يتذكَّرُ بِحَرِ الصيف حَرَّ جهنّم, فيستعيذُ باللهِ منها هذا منهجُ الصالحين العارفين يربطونَ بينَ مايشعرونَ به في الدنيا بالآخرة لأنهم يوقنون أنهم سينتقلون من الدنيا إليها فما يرونه في الدنيا من حَرٍّ مُفرِط يذكرُهُم بجهنم
قلوبُ العارفينَ لَهَا عيونٌ تَرَى مَا لَاَ يَراهُ النَّاظِرُونَا
وتأمَّلُوا هذه الأخبار, كان في الشام بيوتٌ مهيأةٌ للاستحمام والتنظف بالماء الدافيء وتسمى عندهم الحمام, وقد تكون دافئة حارة, وهذه تذكر السلف بنار الآخرة, دَخَلَهَا أحدُهُم فَسَمِعَ تَالياً يتلو فيها: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ} فغُشِيَ عَليه.
وتزوَّج صِلَةُ بْنُ أَشْيَمَ فدخل الحمام عريساً ثم دخل على زوجته تلك الليلة فقام يصلي حتى أصبَح وقال: دخلتُ بالأمس بيتاً ذكرني النار يعني الحمام, ودخلتُ الليلة بيتاً ذكرتُ بِهِ الجنة يعني على عروسِهِ, فلم يزل فكري فيهما حتى أصبحت.
عباد الله, ونحنُ في حياتنا هناك ما يذكرنا بنار الآخرة, في الظهيرة تشتد الحرارة, هل تعلمون لماذا؟ لأن أبواب جهنم تُفتح كُلُّها فيها لتتنَفّس, فنشعر نحنُ بزيادة الحر في الظهيرة, فهل تَذكَّرنا بهذا نارَ جهنم؟ النَارُ التي نشعلها جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ, قال الصحابة: يَا رَسُولَ اللَّهِ, إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً, يعني لكفى حرُّهَا في الإحراق والتعذيب, فَقَالَ: فُضِّلَتْ جهنَّمُ عَلَيْهِنَّ بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا كُلُّهُنَّ مِثْلُ حَرِّهَا. فهل تَذكرنا بهذا نارَ الآخرة؟ الشمسُ الجرمُ الدائري المُشِعُّ سِرَاجًا وَهَّاجًا, خُلِقت من النار, وفي القيامة إليها تعود, فهل ذكرنا حرُّها ولفحُ سمومِهَا بنارِ جهنم؟ كَانَ بَعضُ السلفِ إِذَا أصابَهُ لَفْحٌ حَارٌّ يقول: يا بَرُّ يا رَحيم مُنَّ علينَا وَقِنَا عذابَ السموم. وصَبَّ بعضُ الصالحين على رأسه ماءً فوجدَهُ شديدَ الحَرِّ فبَكَى, وقَالَ: ذَكرتُ قولَهُ تعالى: {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ}.
فلمَاذا لا نتذكّرُ كمَا تذكروا؟ ولماذا لا نخافُ كمَا خافوا؟ ولماذا لا نَهرُبُ من النار كمَا هربوا؟ قَالَ الحسن: كُلُّ حَرٍّ أهلَكَ شيئاً فهو مِن نَفَسِ جهنَّم.
فاتقوا الله رحمكم الله, ومكة شرفها الله عُرِفَت بالأجواءِ الصيفيةِ الحارة, فقد تعدت درجاتُ الحرارةِ خلال الأسبوع الماضي الخمسين, وما خلق اللهُ الحرَّ والأجواءَ الساخنة إلا تذكرةً بنار جهنم, وتخويفاً, فشدةُ الحر من آياتِ الله التي لا ينبغي أن تمر هكذا دونَ توقف أو تذكر, قال تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} فلتكن هذه الأجواء نجاةً لنا ومُخلِّصَةً لنا من حر نار الآخرة فنجتنب من الأعمال والأقوال ما يكون سبباً لدخولِها كإضاعةِ الصلوات, واتباعِ الشهوات, وأكل الربا, والرشوة, والعقوق, وشهادة الزور, وظلمِ العباد, وأكل أموالهم بالباطل, وأذيتِهِم, والإضرارِ بهم, وإشاعة الفاحشة فيهم, والاستهزاءِ بالدين, والنميمة, فاللهم أجرنا ووالدينا وأمواتنا من النار .. إلخ
عباد الله, من منعَهُ الحرُّ عن أداءِ الطاعات كحضورِ صلاةِ الجماعة, والجُمَع, واتباعِ الجنائز والصومِ والصدقةِ على المساكين والأرامل, والخروجِ للدعوةِ في سبيل الله, وطلبِ العلمِ وبذلِهِ, وحضورِ دروسه ودوراتِهِ, من امتنع عن تلك الطاعات بلا عذر شرعي بل حُجَّتُهُ الحر, فقد تشبَّهَ بالمنافقين فإنهم قالوا لبعضهم لما استنفرهم النبيُّ r لغزوةِ تبوك قالوا لبعضهم: {لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ} أي لا تخرجوا في هذا الحر الشديد, فَقَالَ اللهُ لنبيّه: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} أي قل لهم إن كانت حرارةُ الطقسِ منعتكم عن الجهاد فتقصيرُكم فيه وامتناعُكم عنه سيوردُكم إلى نارٍ حرُّها أشدُّ من حر الدنيا. فيا عبد الله تذكر بحرِّ الصيف حَرَّ الآخرة, {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ. وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ}
يَا رَبِّ صَلِ علَى المختارِ سيدِنا .. ما غنَّت الطيرُ في دَوحٍ بألحانِ.
وَالآلِ والصحبِ ثُمّ التابعينَ له.. واجعَل مَحبتَهُم رُوحِي وريْحَانِي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق