عباد الله, أيام الدراسة والعمل, الكُلُّ مشغول, الأبُ في عمله ووظيفته, والأولادُ في مدارسهم, والأمُّ في اهتماماتها الخاصة, مِمَّا أضعَفَ الترابُطَ الأسري, بين الأبِ وأهلِ بيتِهِ, وحَصلَت من جَرَّاءِ ذلك فَجوةٌ بين الأبِ وأسرتِهِ, واتسعت الفجوة, بسبب العكوفِ الطويل على وسائِلِ الاتصالات, والأجهزةِ الذكية, والتي انتشرت في المجتمع انتشارَ النَّارِ في يابِسِ الحطب, وكَثُرَ استخدامُهَا وتناوُلُهَا من الجميع, فأصبح الإنسان معها كالغريبِ في بيته وكالغريبِ بين أصحابِهِ وأقرانه, الكُلُّ مشغولٌ بجهازِهِ مع نفسِهِ خصوصاً في البيتِ الواحد, ففُقِدَ الترابطُ العائليّ والتواصلُ الأسري الذي تربينا عليه, ونشأنا عليهِ من السابق مع أبائنا وأمهاتنا رحمهم الله, أصبحت كثيرٌ من الأُسَر مجتمعةً شكلاً, مفككةً روحاً ووجداناً.
أيها الأب, اعلم رحمك الله أنَّ الأسرةَ كالجسد وأنتَ في الأسرة كالرأس من الجسد, فهل يُتَصَوَّرُ أن يعيشَ جسدٌ بلا رأس؟ الأسرةُ من غيرِك وبدونِك, كالجسد بلا رأس, فَقُم بواجبِك, ومسؤوليَّتِك, وأعِدْ لأسرتِك روحَ الترابُطَ, أعِدْ النظرَ في علاقَتِك بأهلِ بيتِك, أعِدْ النظرَ في ترابُطِكَ بأسرتِك واهتمامِكَ بِهَا إجْلِس معها وعِشْ معها جَوَّهَا وواقِعَهَا ومشاعِرَهَا ومشاكِلَها, واهتماماتِهَا, ورَغَبَاتِهَا. وهل أنت أيها الأبُ أكثرُ شُغْلاً من رسولِ اللهِ r نبيِّ الأمة, وقائِدِ الأُمَّة, في أوجِ انقطاعِهِ لِربه, وتفرُّغِهِ له, واعتكافِهِ في مسجدِهِ مَا نَسِيَ أهلَه, وأسرتَه, وما انحجَبَ عنهم, وما ترَكَهُم, وما أهمَلَهُم, وما انقطَعَ عنهُم, فها هي زوجُهُ صفيَّةُ t تزورُهُ في مُعتَكَفِهِ, وتَجلِسُ معَه, ويُعطيهَا من وقتِهِ الثمين, وهو في أشَدِّ الْحاجَةِ لِهَذَا الوقت ولكن ليُعَلِّمَ أمَّتَهُ حَقَّ الأهلِ على الأب.. تَجلِسُ معه, وتتحدَّثُ معَه, ثُم تنقَلِبُ إلي بيتِهَا, ويخرُجُ معهَا r, اهتماماً بأهلِهِ, وحرصاً على أن لا ينقطِعَ عنهُنَّ, أو ينقَطِعْنَ عنه, هذا وهو رسولُ الله, قائِدُ الأُمَّة, وفي أوجِ انقطاعِهِ لِربه. فَمَاذا أنتَ فاعِلٌ أيها الأبُ الكريم؟ هل يمنعك عن أهلِك دينُك؟ وعبادَتُك لربِّك؟ أم كَبَدُ الدنيا وكَدُّهَا ونَصَبُهَا؟
ألَاَ فَاعلَم أنَّ كثيراً من الزوجاتِ والأبناءِ والبنات يَبثُّونَ شَكواهُم وهُمومَهُم ومشاكِلَهُم وأسرارَ واقِعِهِم العائليّ عبرَ برامجِ التراسل, ومواقِعِ التواصل, فأينَ الأبُ عنهم؟ إنِّي أجِدُ يَا عباد الله, في الإجازات الدراسية المتكررة فرصةً لكل أبٍ وولي أمرٍ أن يوثِّقَ علاقتَه بأهلِ بيتِهِ وأبنائِهِ وبناته حيث ينفَكُّ ارتباطُهُم بمدارِسِهم, دوامَاً ومذاكرةً, ففرصةٌ لك أيُّها الأبُ أن توثِّقَ ارتباطَكَ بهم, وتُجدِّدَ العهدَ بهم, فتجلِسُ معهم وتسمعُ منهم وتعيشُ نفسياتِهم, وتعالِجُ مشكلاتِهِم, وتفهمُ منهم ما يريدون؟ وفي أيٍّ شيء يفكرون؟ ومن يُصاحِبون ويُخَالِطون؟
الحصيفُ مَن يستغِّلُ أوقاتِ فراغِهِ وفراغِ أبنائِهِ فيبني فيها جسورَ التواصل بينَهُ وبينهم ويبني الثقةَ بينه وبينهم, ويَختَرِقُ مَشَاعِرَهُم, يَجلِسُ معهم بدلَ جُلُوسِهِم على جوالاتِهِم, يَجلِسُ معهم بَدَلَ جُلُوسِهِم على الفضائيات المضعفةِ للدين, والمفسدةِ للقيمِ والأخلاق, يَجلِسُ معهم بَدَلَ جُلُوسِهِم على الأرصفة وفي الأسواق, يَجلِسُ معهم بَدَلَ جُلُوسِهِم مع قرناءِ السوء والفساد, يَجلِسُ معهم أباً وصديقاً ومربياً وموجِّهاً ومُسَلِّيَاً, جِلسةَ ترويحٍ وتربية, وتثقيفٍ وتوعية, أولاً يسمع منهم, ويُحسِّسُهُم باهتمامِهِ بِمَا يقولون, فهذا الإحساسُ في حَدِّ ذاتِهِ يَجعلُهُم أكثرُ قرباً منه وأمناً ثُمَّ يَسألُ عن اهتماماتِهِم, وعن متابعاتِهِم, وعن رؤيتِهِم لواقعِهِم, ثم يوصيهم بالمعروف, ويُذَكرهم بالله, وأنه مُطَّلِعٌ على كل شيء, لا تخفى عليه خافية, ويُذَكِّرُهُم بِنِعَمِ اللهِ تعالى, كَمَا قَالَ بعضُ الصالِحينَ موصيًا ابنَه وصيةً عظيمةً قَالَ فيها: يا بُنَيَّ, إذَا مَرَّ بِكَ يومٌ وليلةٌ قد سَلِمَ فيهِمَا دينُك وجسمُك ومالُك فأكثِرْ من الشُّكرِ للهِ تعالى, فَكَم من مسلوبٍ دينَه, ومنزوعٍ مُلْكَه, ومَهتوكٍ سِترَه, ومقصومٍ ظهرَه في ذلك اليوم .. وأنت في عافية؟ هذه هي التربية يا عباد الله أن تَربِطَ أبنائَكَ بالله, وأن تُعَرِّفَهُم باللهِ من طريقِ نِعَمِهِ وآلائِهِ وهذه لابُدَّ من جلوسِكَ معهم, وكَمَا قلتُ آنِفَاً: الإجازَةُ فرصتُكُم, لأن تجلِسُوا, وتُحَاوِرُوا, فتَختلِطَ أرواحُكُم, ومشاعِرُكُم, فَمَا أجملَها من جلساتٍ عائليّةٍ افتُقِدَت في كثيرٍ من بيوتِنَا. اللَّهُمَّ أصْلِح بُيُوتَنَا, واَهْدِ زوجاتِنَا وأبنائَنَا وبناتِنَا ..
عباد الله, إذا كان اللهُ تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} فكيف يقي المسلم أهله من النار؟ يقيهم بتعليِمِهم الشرعَ والدينَ والأدب, وكيفَ يكونُ ذلك وهو لا يُخَالِطُهُم, ولا يُجَالِسُهُم, ولا يَهتَمُّ بِهِم, مبْلَغُ عِلمِهِ أنَّهُ لا يراهم إلا إذا حَصَلَت مشكلةٌ, أو وقعت مصيبة. فكيفَ يَقيهِمُ النَّارَ إذن؟ نريدُ أن تعودَ للبيوتِ سَهَرَاتُها لا مع الفضائيات والِانترنت كَلَّا, بل في ظِلَالٍ وارِفَةٍ من المَحبة, من التفاهُمِ والحوار, وتبادُلِ المشاعِرِ والآراء نريدُ أن نرى الأسرةَ مجتمعةً ولو لدقائق, أغلِق أيها الأب خلالَها التلفازَ وأجهزةَ الاتصالات, وافتح حديثاً ممتعاً مع أبنائِك وبناتِك واجعل هذه الجلسة في سبيلِ الله ولوجهِ الله مناصحةً في حَقّ, وتعليماً لعلم, وغَرْساً لِخُلُق, وتَربيةً على أدَب, ومعاتبةً على خَطأ, وإنكاراً لِمنكر, وتعريةً لباطل, بهذا تَقِي نفسَك وأهلَك وأولادَك {نَارًا} هي ليست كأي نار, بل هذه نارٌ {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}.
أسأل الله العظيم أن يجيرنا وإياكم ووالدينا وأهلينا من النار إنه على كل شيء قدير.