الجمعة، 21 مارس 2014

خطبة بـ عنوان: "مجالسة الأب لأسرته"

عباد الله, أيام الدراسة والعمل, الكُلُّ مشغول, الأبُ في عمله ووظيفته, والأولادُ في مدارسهم, والأمُّ في اهتماماتها الخاصة, مِمَّا أضعَفَ الترابُطَ الأسري, بين الأبِ وأهلِ بيتِهِ, وحَصلَت من جَرَّاءِ ذلك فَجوةٌ بين الأبِ وأسرتِهِ, واتسعت الفجوة, بسبب العكوفِ الطويل على وسائِلِ الاتصالات, والأجهزةِ الذكية, والتي انتشرت في المجتمع انتشارَ النَّارِ في يابِسِ الحطب, وكَثُرَ استخدامُهَا وتناوُلُهَا من الجميع, فأصبح الإنسان معها كالغريبِ في بيته وكالغريبِ بين أصحابِهِ وأقرانه, الكُلُّ مشغولٌ بجهازِهِ مع نفسِهِ خصوصاً في البيتِ الواحد, ففُقِدَ الترابطُ العائليّ والتواصلُ الأسري الذي تربينا عليه, ونشأنا عليهِ من السابق مع أبائنا وأمهاتنا رحمهم الله, أصبحت كثيرٌ من الأُسَر مجتمعةً شكلاً, مفككةً روحاً ووجداناً.
أيها الأب, اعلم رحمك الله أنَّ الأسرةَ كالجسد وأنتَ في الأسرة كالرأس من الجسد, فهل يُتَصَوَّرُ أن يعيشَ جسدٌ بلا رأس؟ الأسرةُ من غيرِك وبدونِك, كالجسد بلا رأس, فَقُم بواجبِك, ومسؤوليَّتِك, وأعِدْ لأسرتِك روحَ الترابُطَ, أعِدْ النظرَ في علاقَتِك بأهلِ بيتِك, أعِدْ النظرَ في ترابُطِكَ بأسرتِك واهتمامِكَ بِهَا إجْلِس معها وعِشْ معها جَوَّهَا وواقِعَهَا ومشاعِرَهَا ومشاكِلَها, واهتماماتِهَا, ورَغَبَاتِهَا. وهل أنت أيها الأبُ أكثرُ شُغْلاً من رسولِ اللهِ r نبيِّ الأمة, وقائِدِ الأُمَّة, في أوجِ انقطاعِهِ لِربه, وتفرُّغِهِ له, واعتكافِهِ في مسجدِهِ مَا نَسِيَ أهلَه, وأسرتَه, وما انحجَبَ عنهم, وما ترَكَهُم, وما أهمَلَهُم, وما انقطَعَ عنهُم, فها هي زوجُهُ صفيَّةُ t تزورُهُ في مُعتَكَفِهِ, وتَجلِسُ معَه, ويُعطيهَا من وقتِهِ الثمين, وهو في أشَدِّ الْحاجَةِ لِهَذَا الوقت ولكن ليُعَلِّمَ أمَّتَهُ حَقَّ الأهلِ على الأب.. تَجلِسُ معه, وتتحدَّثُ معَه, ثُم تنقَلِبُ إلي بيتِهَا, ويخرُجُ معهَا r, اهتماماً بأهلِهِ, وحرصاً على أن لا ينقطِعَ عنهُنَّ, أو ينقَطِعْنَ عنه, هذا وهو رسولُ الله, قائِدُ الأُمَّة, وفي أوجِ انقطاعِهِ لِربه. فَمَاذا أنتَ فاعِلٌ أيها الأبُ الكريم؟ هل يمنعك عن أهلِك دينُك؟ وعبادَتُك لربِّك؟ أم كَبَدُ الدنيا وكَدُّهَا ونَصَبُهَا؟
ألَاَ فَاعلَم أنَّ كثيراً من الزوجاتِ والأبناءِ والبنات يَبثُّونَ شَكواهُم وهُمومَهُم ومشاكِلَهُم وأسرارَ واقِعِهِم العائليّ عبرَ برامجِ التراسل, ومواقِعِ التواصل, فأينَ الأبُ عنهم؟ إنِّي أجِدُ يَا عباد الله, في الإجازات الدراسية المتكررة فرصةً لكل أبٍ وولي أمرٍ أن يوثِّقَ علاقتَه بأهلِ بيتِهِ وأبنائِهِ وبناته حيث ينفَكُّ ارتباطُهُم بمدارِسِهم, دوامَاً ومذاكرةً, ففرصةٌ لك أيُّها الأبُ أن توثِّقَ ارتباطَكَ بهم, وتُجدِّدَ العهدَ بهم, فتجلِسُ معهم وتسمعُ منهم وتعيشُ نفسياتِهم, وتعالِجُ مشكلاتِهِم, وتفهمُ منهم ما يريدون؟ وفي أيٍّ شيء يفكرون؟ ومن يُصاحِبون ويُخَالِطون؟
الحصيفُ مَن يستغِّلُ أوقاتِ فراغِهِ وفراغِ أبنائِهِ فيبني فيها جسورَ التواصل بينَهُ وبينهم ويبني الثقةَ بينه وبينهم, ويَختَرِقُ مَشَاعِرَهُم, يَجلِسُ معهم بدلَ جُلُوسِهِم على جوالاتِهِم, يَجلِسُ معهم بَدَلَ جُلُوسِهِم على الفضائيات المضعفةِ للدين, والمفسدةِ للقيمِ والأخلاق, يَجلِسُ معهم بَدَلَ جُلُوسِهِم على الأرصفة وفي الأسواق, يَجلِسُ معهم بَدَلَ جُلُوسِهِم مع قرناءِ السوء والفساد, يَجلِسُ معهم أباً وصديقاً ومربياً وموجِّهاً ومُسَلِّيَاً, جِلسةَ ترويحٍ وتربية, وتثقيفٍ وتوعية, أولاً يسمع منهم, ويُحسِّسُهُم باهتمامِهِ بِمَا يقولون, فهذا الإحساسُ في حَدِّ ذاتِهِ يَجعلُهُم أكثرُ قرباً منه وأمناً ثُمَّ يَسألُ عن اهتماماتِهِم, وعن متابعاتِهِم, وعن رؤيتِهِم لواقعِهِم, ثم يوصيهم بالمعروف, ويُذَكرهم بالله, وأنه مُطَّلِعٌ على كل شيء, لا تخفى عليه خافية, ويُذَكِّرُهُم بِنِعَمِ اللهِ تعالى, كَمَا قَالَ بعضُ الصالِحينَ موصيًا ابنَه وصيةً عظيمةً قَالَ فيها: يا بُنَيَّ, إذَا مَرَّ بِكَ يومٌ وليلةٌ قد سَلِمَ فيهِمَا دينُك وجسمُك ومالُك فأكثِرْ من الشُّكرِ للهِ تعالى, فَكَم من مسلوبٍ دينَه, ومنزوعٍ مُلْكَه, ومَهتوكٍ سِترَه, ومقصومٍ ظهرَه في ذلك اليوم .. وأنت في عافية؟ هذه هي التربية يا عباد الله أن تَربِطَ أبنائَكَ بالله, وأن تُعَرِّفَهُم باللهِ من طريقِ نِعَمِهِ وآلائِهِ وهذه لابُدَّ من جلوسِكَ معهم, وكَمَا قلتُ آنِفَاً: الإجازَةُ فرصتُكُم, لأن تجلِسُوا, وتُحَاوِرُوا, فتَختلِطَ أرواحُكُم, ومشاعِرُكُم, فَمَا أجملَها من جلساتٍ عائليّةٍ افتُقِدَت في كثيرٍ من بيوتِنَا. اللَّهُمَّ أصْلِح بُيُوتَنَا, واَهْدِ زوجاتِنَا وأبنائَنَا وبناتِنَا ..
عباد الله, إذا كان اللهُ تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} فكيف يقي المسلم أهله من النار؟ يقيهم بتعليِمِهم الشرعَ والدينَ والأدب, وكيفَ يكونُ ذلك وهو لا يُخَالِطُهُم, ولا يُجَالِسُهُم, ولا يَهتَمُّ بِهِم, مبْلَغُ عِلمِهِ أنَّهُ لا يراهم إلا إذا حَصَلَت مشكلةٌ, أو وقعت مصيبة. فكيفَ يَقيهِمُ النَّارَ إذن؟ نريدُ أن تعودَ للبيوتِ سَهَرَاتُها لا مع الفضائيات والِانترنت كَلَّا, بل في ظِلَالٍ وارِفَةٍ من المَحبة, من التفاهُمِ والحوار, وتبادُلِ المشاعِرِ والآراء نريدُ أن نرى الأسرةَ مجتمعةً ولو لدقائق, أغلِق أيها الأب خلالَها التلفازَ وأجهزةَ الاتصالات, وافتح حديثاً ممتعاً مع أبنائِك وبناتِك واجعل هذه الجلسة في سبيلِ الله ولوجهِ الله مناصحةً في حَقّ, وتعليماً لعلم, وغَرْساً لِخُلُق, وتَربيةً على أدَب, ومعاتبةً على خَطأ, وإنكاراً لِمنكر, وتعريةً لباطل, بهذا تَقِي نفسَك وأهلَك وأولادَك {نَارًا} هي ليست كأي نار, بل هذه نارٌ {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}.
أسأل الله العظيم أن يجيرنا وإياكم ووالدينا وأهلينا من النار إنه على كل شيء قدير.

الجمعة، 7 مارس 2014

خطبة بـ عنوان: "نصر الله قريب"

الحمدُ للهِ المبدئِ المعيد، الفعَّالِ لما يريد، خلق الخلق بعلمه، وقدَّر لهم أقداراً، وضرب لهم آجالاً، لا يستأخرون عنها ساعة ولا يستقدمون، قدَّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسينَ ألفَ سنة: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} علم ما كان، وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون. {كُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} مشيئتُهُ تَنفُذ لا مشيئةَ العباد، إلا ما شاء لَهم، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنَا محمداً عبده ورسوله، صلوات ربي وسلامه وبركاتُهُ عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد, فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله تعالى.
عباد الله, واقع المسلمين اليوم وما يتعرض له بعضُهُم في مشارق الأرض ومغاربها من ظلم وعدوان وتقتيل وتهجير وتعذيب ولَّدَ في نفوس بعض الناس شعوراً مخيفاً, وهو فقدانُ الثقةِ في وعدِ الله بنصرِهِ لعباده, وشَكٌّ في عدلِهِ, ويأسٌ من تأخُّرِ نصرِهِ للمظلومين, وفي قدرتِهِ على أخذِ الظالمين وإهلاكِهِم.
هذا الشعور له أسباب أهمُّهَا, ضعفُ الِإيمان, وطولُ الكرب, وحِدَّةُ الموقف, وكثرةُ المرجفين من المنافقين, موقف يذكرنا بموقفِ النبي r وصحابتِه يومَ الْأَحْزَابِ, عَامَ الْخَنْدَقِ, حين حاصر المشركونَ من قُرَيْشٍ وغَطَفَانَ المدينةَ حاصروها بعَشْرَةِ آلَافِ مقاتل, بتآمرٍ مع يَهُودِ بَنِي النَّضِيرِ, يصف الله المشهد, فيقول: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ – يعني من أعلى المدينةِ وأسفلِها – وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا. هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} وصفٌ دقيق, وكربٌ شديد, حصارٌ دام قَرِيبًا مِنْ شَهْرٍ, ظَنَّ بَعْضُ مَنْ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ r من المؤمنين أَنَّ الدَّائِرَةَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّ اللَّهَ سَيَفْعَلُ ذَلِكَ, يستغل هذا الموقف المرجفون والطابورُ الخامسِ في المجتمع, {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} ظَنَّ الْمُنَافِقُونَ أَنَّ النبيَّ r وَأَصْحَابَهُ سيُسْتَأْصَلُونَ، وقالوا: كَانَ مُحَمَّدٌ r يَعِدُنا أَنْ نَأْكُلَ كُنُوزَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ، وَأَحَدُنَا لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَذْهَبَ إِلَى الْغَائِطِ.
أخرج اللهُ في هذه المحنة والبلية وبهذه المحنة ما كان في قلوبهم من كفر ونفاق. وهكذا في زماننا نجد مع هذه الابتلاءات والانتهاكات الفظيعة لحقوقِ المسلمين مَنْ يشككنا في قدرةِ الله على وعدِ نصره, وقُربِ فرجه, واللَّهُ لَاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ. {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}.
عباد الله, هل تظنون أنَّ اللهَ تعالى غافلٌ عن ظُلم الظالمين؟ وعدوانِ المعتدين؟ حاشاه, لا ولن يَغْفَلَ Y, وكيف يغفل وهو الْحَيُّ الْقَيُّومُ الذي لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ؟ كيف يغفل وهو الحقُّ العَدْلُ الذي:{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} أي بالعدل. كيف يغفل وهو القائل:{وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ}؟ كيف يغفل وهو القائل عن الظالمين: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا}؟ يقولُ النبيُّ r: إِنَّ اللَّهَ يُمْلِي لِلظَّالِمِ، فَإِذَا أَخَذَهُ، لَمْ يُفْلِتْهُ, ثُمَّ قَرَأَ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}.
فلنوقن بأن اللهَ تعالى يُمهل ولا يهمل, ويُملِي ولا يَنسى, ولن يغفَلَ عن الدماءِ التي أُريقت, والأموالِ التي نُهبت, والأعراضِ التي انتُهِكَت, والدورِ التي هُدّمت, والقرى التي دُمِّرَت, والمساجدِ التي حُرِّقَت, لن يغفَلَ عنها لأنَّهُ العَدلُ المُنتَقِم, قضى بين البهائم بعدله.
بينَمَا رَسُولُ اللهِ r يَمْشِي وَمَعَهُ أَبُو ذَرٍّ t, إِذْ رَأَى شَاتَيْنِ تَنْتَطِحَانِ، فَقَالَ r: يَا أَبَا ذَرٍّ, هَلْ تَدْرِي فِيمَ تَنْتَطِحَانِ؟ قَالَ: لَاَ, يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ: لَكِنَّ اللهَ يَدْرِي، وَسَيَقْضِي بَيْنَهُمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قضى بين البهائم بعدله, يعطي الْشَاةَ الجماء التي لا قَرْنَ لَهَا حقَّهَا من الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ التي اعتدت عليها. فهل سيغفل عن عبادِهِ المؤمنينَ به؟ المتوكلينَ عليه؟ المفوضينَ الأمورَ كُلَّهَا إليه؟ {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ}.
سيقتص للمظلومين من الظالمين, قَالَ النبيُّ r: إِنَّ اللَّهَ لَنْ يُضَيِّعَ لِذِي حَقٍّ حَقَّهُ. فَحَقُّ المظلومِ قَائِم, والذي سيُؤدِّيهِ عَنهُ هو اللهُ تعالى. {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ – يعني بالعدل – وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} اللهم اجعل لإخواننا المسلمين المظلومين المضطهدين في كل مكان فرجاً ومخرجاً, اللهم انصرهم بقوتك, واحمهم بحمايتك, وكن معهم, ولا تخذلهم يا ناصر المظلومين, يا رب العالمين ..
عباد الله, بَنَى مَلِكٌ جَبَّارٌ قَصْرًا فَجَاءَتْ عَجُوزٌ مُسْلِمَةٌ فَبَنَتْ إِلَى ظَهْرِ قَصْرِهِ كُوخًا تَعْبُدُ اللَّهَ فِيهِ, فَطَافَ المَلِكُ بِفِنَاءِ قَصْرِهِ يَوْمًا, فَرَأَى كُوخَ العجوز, فَأَمَرَ بِهَدْمِهِ, وَلَمْ تَكُنِ العجوزُ حَاضِرَةً, فَجَاءَتْ فَرَأَتْهُ قَدْ هُدِمَ, فَقَالَتْ: مَنْ فَعَلَ هَذَا؟ فَقِيلَ لَهَا: إِنَّ الْمَلِكَ رَآهُ فَأَمَرَ بِهَدْمِهِ فَرَفَعَتْ طَرْفَهَا إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَتْ: يَا رَبِّ أَنَا لَمْ أَكُنْ, فَأَنْتَ؟ كُنْتَ أَيْنَ؟ فَأَمَرَ اللَّهُ U جِبْرِيلَ أَنْ يَقْلِبَ الْقَصْرَ عَلَى مَنْ فِيهِ.
الظُّلْمُ ظلماتٌ, والظالِمُ سَيَلْقَى جزائَهُ, واللهُ حَقٌّ عَدْلُ U, لن يخذُلَ عبادَهُ المظلومين, سينتصر لَهم ولو بعدَ حِين, فليتسلى المظلوم, والْوَيْلُ للظَّلَمة ثُمَّ الْوَيْلُ للظَّلَمة {الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
فلنؤمن بعدلِ اللهِ المطلق الذي يقتضي نَصْرَهُ للمظلومين ولو بعدَ حين واستمعوا لِمَا يُسَلّي النفوس, ويُقوّي الإيمان, قَالَ تعالى: {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ. سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ. وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ.وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ. ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ. أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا.ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ}.

خطبة بـ عنون: "نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم"

عباد الله, هو أرحَمُ الخَلقِ بالخَلقِ, وصَفَهُ الله تعالى بأنَّهُ رَحْمَةٌ لِلْعَالَمِينَ, وَبِأَنَّهُ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ, وقَالَ هو عن نفسِهِ: إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ, إنه نبيُّنا محمدُ بنُ عبدِالله, اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ .. لَمَّا تُوفّي عمُّهُ أبو طالب, وزوجُه خديجة اللَّذَين كانا دعامتين من دعائم سيرِ الدعوة في أزماتِها, أبو طالب السندُ الخارجي لرسولِ الله r يدفعُ عنه قومَه, وخديجةُ السندُ الداخلي لرسولِ اللهِ r تخفّفُ عنهُ الأزماتِ والمحن, بعد وفاتهما, تجرأ المشركون على رسولِ الله r ونالوا منه, وضيقوا عليه, فرأى أن يُغَيِّرَ البيئة، وأن يَخرُجَ بدعوته من مكة إلى بيئةٍ أخرى تقبَلُ الدعوة، لتحمِيَهُ وتمنعَهُ حتى يبلِّغَ رسالةَ ربه.
فَخرَجَ r إلى الطائفِ ماشياً, قَطَعَ هذه المسافةَ بينَ مكةَ والطائف ماشياً على قدميه, ليدعوهم للإسلام, وليلتمس النصرةَ من ثقيف، ليمنعوه ويحموه حتى يبلّغ دين الله, عَرَضَ نَفْسَهُ ودعوتَهُ عَلَى عَبْدِيَالِيلَ بْنِ عمرو بنِ عَوف وإخوتِهِ, لكنهم كانوا لِئَامَاً, لَمْ يُجِيبُوه إِلَى مَا أَرَد، ولَم يَكتفُوا بهذا, بل أغرَوْا بِهِ صِبيَانَهم وسُفَهَائَهم, يَسبونَه, ويرشقونه بالحجارة حتى سالَ الدمُ من قدميهِ الشريفتين, بأبي هو وأمي r، فَانْطَلَقَ مَهْمُوماً عَلَى وَجْهِه, فَلَمْ يَسْتَفِقْ إِلَّا وهو بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، قَرْنُ المنازلِ على السيلِ الكبير, من الهمِّ والألَمِ النفسيِّ والجسديِّ مَا قَاسَ المسافةَ, وقطَعَهَا ولَم يشعُرْ بِهَا, هَمَّاً وحُزنَاً لِمَا أصابَه من أهلِ الطائف, وهو يمشي في الشمس ولا يدري أينَ يسير, أرسلَ اللهُ سحابَةً تُظَلِّلُهُ وكَانَ فِيهَا جِبريلُ الأمينُ u فَنَادَاهُ, قَالَ: إِنَّ اللهَ U قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ, لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ. فَنَادَاهُ مَلَكُ الْجِبَالِ, وَسَلَّمَ عَلَيه، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ, وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ فَمَا شِئْتَ؟ إِنْ شِئْتَ أُطْبِقُ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ وهُمَا أَبُوقبيس وَالَّذِي يُقَابله, اللَّذَينِ يَحُدَّانِ الكعبةَ شَمَالَاً وجَنُوبَاً, فَقَالَ لَهُ صاحِبُ القلبِ الرحيم, والخُلُقِ العَظيم r: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا. معاناتُهُ r في الطائف شديدة, أشدُّ عليهِ من يَومِ أُحُد, هَذَا أولاً, ثم إنَّ مُشركي مكة آذوه وأسرفوا في أذيتِهِ, هذا ثانياً. ثم إنَّ أصحابَه متفرقون بعضُهُم في الحبشة, وبعضُهُم في مكة تحتَ التعذيب, وبعضُهُم يكتُمُ إسلامَهُ خوفاً من قريش, هذا ثالثاً, وجَاءَ الوقتُ لينتصِرَ لنفسِهِ ولأصحابِه المستضعفين, هذا رابعاً, ويَشفيَ غليلَهُ في قريشٍ المُحاربين للدعوةِ, هذا خامساً, ومع كل هذه الدواعي تجلَّت رحمتُهُ r في أبلَغِ صورِهَا، يَقُولُ r: لَاَ, أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا. رَفَضَ r أن يستئصِلَهُم, ويُهلِكَهُم, بل رَحِمَهُم, وأعطاهُم فرصةً, ودَعَا لَهُم, كَمَا في بعضِ الروايات: بَلِ استأنِي بِهِم أي: أتأنى ولا أعجل. قِيلَ له يوماً:ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، قَالَ: إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وَإِنَّمَا بُعثْتُ رَحْمَةً, اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهْمُ لا يَعْلَمُونَ. مَا بُعِثَ ليتشَفَّى بقتلِهِم وإهلَاَكِهِم, بُعِثَ لهدايتهم, ولإخراجِهِم من الظلماتِ إلى النورِيقول r: أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا. نظرتُهُ r كانت بعيدةَ المَدَى, تتجاوَزُ حدودَ ذلك الجيل, وحقَّقَ اللهُ رجاءَ رسولِهِ أبلَغَ تحقيق, فَأخْرَجَ من أصلابِ الصناديدِ المشركين مَنْ يَعبُدُ اللهَ وَحْدَهُ. أخْرَجَ من صُلبِ أَبِي جَهْلٍ عِكْرِمَةُ, ومِنْ صُلْبِ أُمَيَّةَ بنَ خَلَفٍ صَفْوَانُ, ومِنْ صُلْبِ الوَلِيْدِ بنِ المُغِيْرَةِ خَالِد سَيْفُ اللهِ المسلول, ومن صُلْبِ العَاصِ بنِ وَائِلٍ عَمْرُو داهية العرب. تِلْكُم ثِمَارُ عَفوِهِ ورحمتِهِ r     وَإِذَا عَــــفَوتَ فَـقادِراً وَمُقَدَّراً      لَاَ يَستَهينُ بِعَفوِكَ الْجُـهَلاءُ
وَإِذا رَحِمتَ فَأَنتَ أُمٌّ أَو أَبٌ      هَذانِ في الدُنيا هُمَا الرُحَماءُ
اللهم صل وسلم على الحبيبِ النذير والهادي البشير والسراجِ المنير, صلاةً وسلاماً
عباد الله, المشركون آذوا رسولَ اللهِ r كثيراً كثيراً, فَلَمَّا رَأى r إدبارَهُم عن الِإسلَام, قَالَ مَرَّةً: اللهم, سبعاً كسبعِ يوسف. فَأَخَذَتْهُمْ سَنَةٌ حَتَّى أَكَلُوا المَيْتَةَ وَالعِظَامَ والجُلُودَ، فَجَاءَهُ أَبُو سُفْيَانَ وكان يومَهَا على الشرك, وناسٌ مِنْ أهلِ مَكة, فَقَالُوا: يا محمَّد, إِنَّكَ تَزْعُمُ أنَّكَ بُعِثتَ رَحمَةً, وَإِنَّ قَوْمَكَ هَلَكُوا, فَادْعُ اللَّهَ لَهُم، فَمَاذا فَعَل؟ هل رَدَّهُم؟ هل دَعَا عليهم مرةً أخرى؟ كَلَّا, لأنَّهُ نَبِيُّ الرحمةِ دَعَا اللهَ أن يَرفَعَ عنهُم ذلك العذاب, فاستجابَ اللهُ لَهُ وسُقُوا الغَيث. إنها أخلاقُ النبوة, الرحمة العفو الصفح, حتى مع المخالف, رسالةٌ لكل داعيةٍ وناصحٍ وموجه, تَخلَّق بأخلاقِ سَيْدِ الدُّعاة r, كُنْ رَحيمَاً مع مَنْ تَنصَحُهُ وتوجّهُهُ, قدوتُكَ نبيُّ الرحمة. اللهم صل وسلم وبارك عليه, اللهم إنَّهُ قد تَعِبَ لأجلِك, وفي سبيلِك, وأؤذي لأجلِ هدايتنا لدينِك, فاجزه يا ربنا عنَّا خيرَ ما جزيتَ نبيَّاً عن أمته ..