عباد الله, هو أرحَمُ الخَلقِ بالخَلقِ, وصَفَهُ الله تعالى بأنَّهُ رَحْمَةٌ لِلْعَالَمِينَ, وَبِأَنَّهُ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ, وقَالَ هو عن نفسِهِ: إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ, إنه نبيُّنا محمدُ بنُ عبدِالله, اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ .. لَمَّا تُوفّي عمُّهُ أبو طالب, وزوجُه خديجة اللَّذَين كانا دعامتين من دعائم سيرِ الدعوة في أزماتِها, أبو طالب السندُ الخارجي لرسولِ الله r يدفعُ عنه قومَه, وخديجةُ السندُ الداخلي لرسولِ اللهِ r تخفّفُ عنهُ الأزماتِ والمحن, بعد وفاتهما, تجرأ المشركون على رسولِ الله r ونالوا منه, وضيقوا عليه, فرأى أن يُغَيِّرَ البيئة، وأن يَخرُجَ بدعوته من مكة إلى بيئةٍ أخرى تقبَلُ الدعوة، لتحمِيَهُ وتمنعَهُ حتى يبلِّغَ رسالةَ ربه.
فَخرَجَ r إلى الطائفِ ماشياً, قَطَعَ هذه المسافةَ بينَ مكةَ والطائف ماشياً على قدميه, ليدعوهم للإسلام, وليلتمس النصرةَ من ثقيف، ليمنعوه ويحموه حتى يبلّغ دين الله, عَرَضَ نَفْسَهُ ودعوتَهُ عَلَى عَبْدِيَالِيلَ بْنِ عمرو بنِ عَوف وإخوتِهِ, لكنهم كانوا لِئَامَاً, لَمْ يُجِيبُوه إِلَى مَا أَرَد، ولَم يَكتفُوا بهذا, بل أغرَوْا بِهِ صِبيَانَهم وسُفَهَائَهم, يَسبونَه, ويرشقونه بالحجارة حتى سالَ الدمُ من قدميهِ الشريفتين, بأبي هو وأمي r، فَانْطَلَقَ مَهْمُوماً عَلَى وَجْهِه, فَلَمْ يَسْتَفِقْ إِلَّا وهو بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، قَرْنُ المنازلِ على السيلِ الكبير, من الهمِّ والألَمِ النفسيِّ والجسديِّ مَا قَاسَ المسافةَ, وقطَعَهَا ولَم يشعُرْ بِهَا, هَمَّاً وحُزنَاً لِمَا أصابَه من أهلِ الطائف, وهو يمشي في الشمس ولا يدري أينَ يسير, أرسلَ اللهُ سحابَةً تُظَلِّلُهُ وكَانَ فِيهَا جِبريلُ الأمينُ u فَنَادَاهُ, قَالَ: إِنَّ اللهَ U قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ, لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ. فَنَادَاهُ مَلَكُ الْجِبَالِ, وَسَلَّمَ عَلَيه، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ, وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ فَمَا شِئْتَ؟ إِنْ شِئْتَ أُطْبِقُ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ وهُمَا أَبُوقبيس وَالَّذِي يُقَابله, اللَّذَينِ يَحُدَّانِ الكعبةَ شَمَالَاً وجَنُوبَاً, فَقَالَ لَهُ صاحِبُ القلبِ الرحيم, والخُلُقِ العَظيم r: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا. معاناتُهُ r في الطائف شديدة, أشدُّ عليهِ من يَومِ أُحُد, هَذَا أولاً, ثم إنَّ مُشركي مكة آذوه وأسرفوا في أذيتِهِ, هذا ثانياً. ثم إنَّ أصحابَه متفرقون بعضُهُم في الحبشة, وبعضُهُم في مكة تحتَ التعذيب, وبعضُهُم يكتُمُ إسلامَهُ خوفاً من قريش, هذا ثالثاً, وجَاءَ الوقتُ لينتصِرَ لنفسِهِ ولأصحابِه المستضعفين, هذا رابعاً, ويَشفيَ غليلَهُ في قريشٍ المُحاربين للدعوةِ, هذا خامساً, ومع كل هذه الدواعي تجلَّت رحمتُهُ r في أبلَغِ صورِهَا، يَقُولُ r: لَاَ, أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا. رَفَضَ r أن يستئصِلَهُم, ويُهلِكَهُم, بل رَحِمَهُم, وأعطاهُم فرصةً, ودَعَا لَهُم, كَمَا في بعضِ الروايات: بَلِ استأنِي بِهِم أي: أتأنى ولا أعجل. قِيلَ له يوماً:ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، قَالَ: إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وَإِنَّمَا بُعثْتُ رَحْمَةً, اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهْمُ لا يَعْلَمُونَ. مَا بُعِثَ ليتشَفَّى بقتلِهِم وإهلَاَكِهِم, بُعِثَ لهدايتهم, ولإخراجِهِم من الظلماتِ إلى النورِيقول r: أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا. نظرتُهُ r كانت بعيدةَ المَدَى, تتجاوَزُ حدودَ ذلك الجيل, وحقَّقَ اللهُ رجاءَ رسولِهِ أبلَغَ تحقيق, فَأخْرَجَ من أصلابِ الصناديدِ المشركين مَنْ يَعبُدُ اللهَ وَحْدَهُ. أخْرَجَ من صُلبِ أَبِي جَهْلٍ عِكْرِمَةُ, ومِنْ صُلْبِ أُمَيَّةَ بنَ خَلَفٍ صَفْوَانُ, ومِنْ صُلْبِ الوَلِيْدِ بنِ المُغِيْرَةِ خَالِد سَيْفُ اللهِ المسلول, ومن صُلْبِ العَاصِ بنِ وَائِلٍ عَمْرُو داهية العرب. تِلْكُم ثِمَارُ عَفوِهِ ورحمتِهِ r وَإِذَا عَــــفَوتَ فَـقادِراً وَمُقَدَّراً لَاَ يَستَهينُ بِعَفوِكَ الْجُـهَلاءُ
وَإِذا رَحِمتَ فَأَنتَ أُمٌّ أَو أَبٌ هَذانِ في الدُنيا هُمَا الرُحَماءُ
اللهم صل وسلم على الحبيبِ النذير والهادي البشير والسراجِ المنير, صلاةً وسلاماً
عباد الله, المشركون آذوا رسولَ اللهِ r كثيراً كثيراً, فَلَمَّا رَأى r إدبارَهُم عن الِإسلَام, قَالَ مَرَّةً: اللهم, سبعاً كسبعِ يوسف. فَأَخَذَتْهُمْ سَنَةٌ حَتَّى أَكَلُوا المَيْتَةَ وَالعِظَامَ والجُلُودَ، فَجَاءَهُ أَبُو سُفْيَانَ وكان يومَهَا على الشرك, وناسٌ مِنْ أهلِ مَكة, فَقَالُوا: يا محمَّد, إِنَّكَ تَزْعُمُ أنَّكَ بُعِثتَ رَحمَةً, وَإِنَّ قَوْمَكَ هَلَكُوا, فَادْعُ اللَّهَ لَهُم، فَمَاذا فَعَل؟ هل رَدَّهُم؟ هل دَعَا عليهم مرةً أخرى؟ كَلَّا, لأنَّهُ نَبِيُّ الرحمةِ دَعَا اللهَ أن يَرفَعَ عنهُم ذلك العذاب, فاستجابَ اللهُ لَهُ وسُقُوا الغَيث. إنها أخلاقُ النبوة, الرحمة العفو الصفح, حتى مع المخالف, رسالةٌ لكل داعيةٍ وناصحٍ وموجه, تَخلَّق بأخلاقِ سَيْدِ الدُّعاة r, كُنْ رَحيمَاً مع مَنْ تَنصَحُهُ وتوجّهُهُ, قدوتُكَ نبيُّ الرحمة. اللهم صل وسلم وبارك عليه, اللهم إنَّهُ قد تَعِبَ لأجلِك, وفي سبيلِك, وأؤذي لأجلِ هدايتنا لدينِك, فاجزه يا ربنا عنَّا خيرَ ما جزيتَ نبيَّاً عن أمته ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق