السبت، 27 أبريل 2013

خطبة بعنوان "واجبنا تجاه الناصحين"

عباد الله قصتان من كتاب الله تعالى جعلها الله عبرةً لنا كغيرها من قصص القرآن لنستخرج منها فرائدَ وفوائدَ تُفيدنا في أمور ديننا ودنيانا:
القصة الأولى: قصة رجل من قوم موسى اسمه قارون, كان غنياً مُترَفاً لدرجة أن مفاتح كنوزه التي فيها أموالُهُ لا يستطيعُ حملَها العُصبةُ من الرجالِ الأقوياء لا يستطيعون حملَ المفاتح فكيفَ بالكنوزِ والأموال؟ كان رجلاً ثرياً لكن استخدمَ ثرائَه في الإفسادِ والغِواية, فقال له الصالحون الناصحون من قومه {لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} نصحوه أن لا يكونَ من الأشِرين البَطِرين الذين لا يشكرونَ الله على ما أعطاهم والذين يستعينونَ بِنِعَمِ اللهِ على معصيته وإفسادِ النّاسِ وفتح بابِ الفسادِ في الأرض. قالوا له{وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} فكان جوابه:{إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} يعني أَنَا لَا أَفْتَقِرُ إِلَى مَا تَقُولُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ أَعْطَانِي هَذَا الْمَالَ لِعِلْمِهِ بِأَنِّي أَسْتَحِقُّهُ، وَلِمَحَبَّتِهِ لِي, ورضاهُ عنّي, أَمِنَ على نفسِهِ العقاب مع أنه يمارس سلوكَ الفساد وأسلوبَ الإفساد. فردَّ نُصحَ الناصحين ولَم يأبَه بنصحِهِم, ضَرَبَ بنصائِحِهِم عرضَ الحائط, فماذا كانت النتيجة؟ {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ}.
القصة الثانية: قصة ثَمُودَ جاءهم أَخوهُمْ صَالِحٌ ناصحاً فقَالَ {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} وقال لَهم{وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ}. وقال لَهم{يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ؟ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} نصائح عظيمة تحملُ في طياتها معاني الرحمة والشفقة, لكنهم ردوا نُصحَه, وطلبوا آيةً ومعجزة قالوا: {مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}. فقالَ لَهُم{هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}لكنهم ما سمعوا كلامَه وما راعَوْا نُصحَه, ولا آمنوا بالمعجزة {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} فماذا كانت النتيجة؟ {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} حتى قال تعالى في موضع آخر: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} عندَها قَالَ نبيُّ الله الناصحُ صالِح: {يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ}.
عباد الله, هناك قاسم مشترك بين القصتين: قصة قارون وقصة قوم صالح. هل عرفتم ماهو؟ موقِفُهُم السلبيُّ من الناصحين الواعظين. فقارون صَمَّ أذنَه عمَّن نصحَه وجادلهم بالباطل, وثمود كذبوا الناصح وكرهوه بل وتعدوا على آياتِ الله فماذا كانت النتيجة؟ كُلاً سَخِطَ اللهُ عليه في مكانه, وأنزلَ عليهم عذابَهُ ونِقمتَه.
هذه رسالة يا عباد الله لكل مجتمع بما فيه مجتمعُنا أن نُحسن التعامُلَ مع الناصحين, الأمرينَ بالمعروف والناهين عن المنكر, وأن نُضمِرَ الخيرَ لَهم ونظهِرَ احترامَهم وتقديرَهم بل والتماسَ العذرِ لَهم ونشكرَهم أن نَهوْنا عن منكرٍ وقعنَا فيه أو كُنَّا سنقعُ فيه وأمرونا بمعروفٍ يُقرِّبُنَا من الله ونُعينَهُم في مهماتِهِم وأمرِهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وفي المقابل لا نَكرهْهُم ولا نَكرَه نُصحَهُم, ولا نؤذيهم, ولا نُهينهم ولا نَصمّ آذانَنا ونَستغش ثيابَنا عن سماعِ نُصحِهِم وإلا حَلَّ بالمجتمع ما حَلَّ بتلك الأمم, لأن الناصحين هم أطواق النجاة لسفينة مجتمعنا وهذه الأطواقُ إذا عُطّلَت وأُهمِلَت وهُمّشت وكُسِّرت فَقَدَ المجتمعُ أطوَاقَ نَجَاتِهِ فغَرِقَت السفينة, وليسَ الغرقُ في الماء بل الغرقُ في نقمةِ اللهِ وسخطِهِ ثم إهلاكِهِ ولا طاقةَ لنا بعذابِ اللهِ لكن قَالَ تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}.
اللهم لا تهلكنا بعذابك ولا تقتلنا بغضبك وعافنا قبل ذلك, وتوفنا مسلمين, وألحقنا بالصلحين, ولا تردنا على أدبارنا بعد إذ هديتنا ..
عباد الله, بعضُ الناسِ يكرَهُ مَنْ يَنصحُهُ ويسخَرُ منه, وهو في الحقيقةِ لا يَكره شخصَ الناصحِ وذاتَهُ بل يَكرَهُ ما جَاءَ بِهِ من الحقّ, لأنّه خالفَ هواه, وهذه قضيةٌ خطيرة ولذلك قال أهل العلم: "اِغتِمامُك بصوابِ الناصِحِ لَكَ غِشٌّ فيك, وسوءُ نيّةٍ في المسلمين، فمن كَرِهَ الصَّوابَ من غيرِه ونصَرَ الخطَأ من نفسِه لَم يُؤمَن عليه أن يَسلُبَهُ اللهُ ما علَّمَه, ويُنسِيَهُ ما ذَكَّره, بل يُخاف عَلَيه أن يَسلُبَه اللهُ إيمانَه؛ لأنّ مَن سَمِعَ الحقَّ فأنكرَه بَعد عِلمِه فَهُو من المتكبِّرينَ على الله".
نسأل الله تعالى أن يلطُفَ بِنَا, وأن يعفُوَ عنّا, وأن لا يؤاخذنا بما فعل السفهاء مِنّا

الخميس، 25 أبريل 2013

خطبة بـ عنوان " الغنى والفقر"

عباد الله, ينبهِرُ الناسُ بالأغنياءِ الأثرياء, ويتابعون أخبارَهم وأقوالَهُم وتَجَارِبَهُم في الحياة, وهذا لا حرجَ فيه, الحرج حينَ يعتبرُ الناسُ ما فيهِ الأغنياءُ من غنى وثراءٍ هو إكرامٌ من الله لَهُم, ناسينَ الحكمةَ التي من أجلِها أغنى اللهُ هؤلاء, ووسّع عليهم.
اللهُ تعالى يا عباد الله يعطي ويمنع, ويبسط ويُقتِر, وكل ذلك لحكمة, قَالَ تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}وقال تعالى: {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} إذن هي الفتنةُ والابتلاء. الغنى ليس كلَّه إكرام, كما أنَّ الفقرَ ليس كلَّه إهانة, يُقرِّرُ اللهُ ذلك في كتابه فيقولُ{فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ.كَلَّا} حَصَرَ الإنسانُ رضا اللهِ عنه في النعمةِ والمالِ الوفيرِ, وقَصَرَ سُخْطَ اللهِ عليهِ في الخَصَاصَةِ والتَقتيرِ. قَالَ الله:{كَلَّاَ} أي ليس الَأمرُ كما زعم، لَا في هذا ولَا في هذا، إنّي لا أكرِمُ مَن أكرمتَ بكثرةِ الدنيا، ولا أُهينُ مَنْ أَهنتَ بقلّتِها الله يعطي المالَ مَنْ يُحِبُّ ومَنْ لَا يُحِب, ويُضيِّق على من يُحِبُّ ومن لَا يُحب، عطاؤُهُ في كل الأحوال ليسَ دليلاً على الرضا, ومنعُهُ في كل الأحوال ليس دليلاً على المقت, المسألةُ كُلُّهَا ابتلَاءٌ وامتحانٌ واختبارٌ {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ}.
وَالفوزُ والنجاحُ للمؤمنِ, فهو أحدُ رجلين: إمّا غنيٌّ صالِحٌ شاكِر وإمّا فقيرٌ تَقيٌّ صابِر, الِإكرامُ والِإهانةُ لَا تدورُ علَى سَعَةِ الرزقِ وتقتيرِهِ, الفقر والغنى بتقديرِ الله، يوسّع على الكافرِ لَا لكرامتِهِ، ويضيّق على المؤمنِ لَا لِهَوَانِهِ, المؤمنُ أكرمُ عندَ الله من الكافر, والمؤمنُ التقي الصالِح أكرم عند الله من المؤمن العاصي المفسد, فالمقياس ليس الغنى والفقر المسألة بتقديرِ اللهِ وحكمتِهِ أولاً وأخيراً, ولذلك قَالَ تعالى في حق الكافرين: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَاَ يَشْعُرُونَ}.
عن ابْنِ مَسْعُودٍ t قَالَ: إِنَّ اللهَ U قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَخْلَاقَكُمْ كَمَا قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ وَإِنَّ اللهَ يُعْطِي الْمَالَ مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَلَا يُعْطِي الْإِيمَانَ إِلَّا مَنْ يُحِبُّ، فَإِذَا أَحَبَّ اللهُ عَبْدًا أَعْطَاهُ الْإِيمَانَ، فَمَنْ ضَمِنَ بِالْمَالِ أَنْ يُنْفِقَهُ، وَهَابَ الْعَدُوَّ أَنْ يُجَاهِدَهُ، وَاللَّيْلَ أَنْ يُكَابِدَهُ فَلْيُكْثِرْ مِنْ قَوْلِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَسُبْحَانَ اللهِ.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ. وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ. قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}.
وفَّقَنَا اللهُ وإيَّاكُم لِمَا يُحِبُّ ويَرضَى, وألزَمَنَا وإياكُم كلمةَ الحقِّ والهُدَى, وألبسَنَا وإيّاكُم ثوبَ العافيةِ والتُّقَى, وأعانَنَا وإيَّاكُم على طاعتِهِ فيما تبقّى .. إلَخ
عباد الله, يغني اللهُ تعالى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِحِكَمٍ يَعلَمُهَا: إمّا فضلاً منه ورحمةً ابتداءً. أو امتحاناً واختباراً لهذا الغني. أو استدراجاً وإمهالَاً وعذاباً له. ويُفقِرُ من يشاء لِحِكَمٍ يَعلَمُهَا: إمّا حمايةً لعبدِهِ منه ورحمةً به. أو امتحاناً لَهُ واختباراً. أو حرماناً وعذاباً لمعصية أصابَهَا. وقد يَبْسُطُ الرزقَ لبعضِ عباده؛ لأنّه يعلم أنه لا يُصلِحُهُ إلا بَسْطَ الرزقِ والغِنَى وَلَو أفقرهُ لَأفسَدَ عَليهِ دِينَه، ويُضيّقُ الرزقَ على بعضِ عباده؛ لأنه يعلم أنَّ التضييقَ عليه في الرزقِ أصلَحَ لَهُ ولَو أغناهُ لَأفسَدَ عليهِ دينَه، وكُلٌّ بقدرِ الله, وما يقدره ويقضيهِ لعباده بركة, وعاقبتُهُ خير, فَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ, إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا.
فاللهم يَا مَنْ عَمَّ العبادَ فَضلُهُ ونَعماؤُه, ووَسِعَ البريّةَ جُودُهُ وعَطَاؤُهُ, نَسألُكَ في هذه الساعة أن ترزقَنَا غنىً لَا يُطغينا, وصحةً لَا تلهينا, اللهم ارزقنا العافيةَ في دينِنَا ودنيانا وآخرتنا, اللهم وسِّع علينا وعلى إخوانِنَا المسلمين واجعل ما رزقتنا عَوناً على طاعتك وقوةً لنا في عبادتك يَا رَبَّ العالمين.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وأَزْوَاجِهِ ..

خطبة بـ عنوان " أقوى الناس "

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله, هل تعلمون من أقوى الناس؟ إنه رجلٌ تعرّض للاستفزاز والاستثارة والإهانة من أحمقٍ جاهل, وهو قادرٌ على الرد, وقادرٌ على الدفاع عن نفسه, وقادر على أخذ حقه, لكنه مَلَكَ نفسَه, وضَبَطَ مشاعرَه, وتحكّم في انفعالاته, فلم يصدر عنه أي ردة فعل, رد غيظه إلى جوفه ولم يُظهره لا بقولٍ ولا بفعل, وصَبَرَ عليه, وسَكَتَ عنه, وزمَّ نفسَه أن تنجرِفَ وراءَ مَنْ آثارَهَا واستفزَّهَا, هذا هو القوي, بل هو أقوى الناس وأشدُّ الناس وأشجَعُ الناس. قَالَ رَسُولُ اللهِ r: لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ. أي ليس القوي الذي يغلب الرجال ويصرعُهُم, كلا, لكنه الذي يملك نفسه فيكظِمُ غيظَه ويتحلَّم ويضبِطُ غضبَه, هذا هو القويُّ الشجاع. قَالَ r يوماً لأصحابِهِ: مَا تَعُدُّونَ الصُّرَعَةَ فِيكُمْ؟ قَالوا: الَّذِي لَا يَصْرَعُهُ الرِّجَالُ، فَقَالَ: لَيْسَ بِذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ.وذُكِرَ لِلنَّبِيِّ r شِدَّةُ رَجُلٍ وَقُوَّتُهُ فَقَالَ أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَشَدَّ مِنْهُ؟ رَجُلٌ شَتْمُهُ أَخُوهُ فَغَلَبَ نَفْسَهُ وَشَيْطَانَهُ, وَشَيْطَانَ صَاحِبِهِ. وقَالَ r: الصُّرَعَةُ كُلُّ الصُّرَعَةِ الَّذِي يَغْضَبُ فَيَشْتَدُّ غَضَبُهُ، وَيَحْمَرُّ وَجْهُهُ، وَيَقْشَعِرُّ شَعْرُهُ، فَيَصْرَعُ غَضَبَهُ.
عباد الله, لسائل أن يسأل: كيف يملِكُ المرءُ نفسَه في لحظة إثارته من سفيه أو جاهل؟ نقول: أولاً: ليتعوَّذَ بالله من الشيطان الرجيم, اسْتَبَّ رَجُلَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ r فَجَعَلَ أَحَدُهُمَا يَغْضَبُ وَيَحْمَرُّ وَجْهُهُ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ r فَقَالَ: إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ ذَا عَنْهُ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. فَقَامَ إِلَى الرَّجُلِ رَجُلٌ مِمَّنْ سَمِعَ النَّبِيَّ r فَقَالَ: أَتَدْرِي مَا قَالَ رَسُولُ اللهِ r آنِفً؟ قَالَ: إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ ذَا عَنْهُ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: أَمَجْنُونًا تَرَانِي؟
لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ الَّذِي يَجِدُ من الغضب, ولَمَلَكَ نفسَهُ وضَبَطَها.
ثانياً: ليتذكر أحدُنا فضلَ وثوابَ كظْمِ الغيظ, وحبسِ الغضب, وعدمِ الانتصار للنفس, الْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ هم أنفسُهُم الذينَ إِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ. وجَزَاؤُهُمْ: {مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا}. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ، دَعَاهُ اللَّهُ U عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ اللَّهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ مَا شَاءَ. الثوابُ على قدر العمل, والجزاء من جنس العمل, لَمَّا كظم غيظه أمام الملأ وهو قادر أن يستوفي حقه, لكنه كظمه لله ظنَّ الناسُ أنَّ كظمَهُ للغيظِ عن عجزٍ وضعف فكان ثوابه: دَعَاهُ اللَّهُ U عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ, لإثباتِ عِزَّتِهِ. حَتَّى يُخَيِّرَهُ اللَّهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ مَا شَاءَ, لإثباتِ كرامةِ اللهِ له. وقَالَ r: مَا مِنْ جَرْعَةٍ أحَبُّ إلَى اللهِ مِنْ جَرْعَةِ غَيْظٍ يَكْظِمُهَا عَبْدٌ، مَا كَظَمَهَا عَبْدٌ للهِ إِلَّا مَلأَ جَوْفُه إيمَانًا.
فانظر يا من يُغضبك أحمق, أو يُثيرك جاهل, انظر في هذا الثواب, ولا ترغَب عنه, ولا تغضَب له, واملِك نفسَك لله, واعلم أنَّ اللهَ سينتصِرُ لك ولو بعدَ حين.
اللهم زك نفوسنا, وطهر قلوبنا, وأصلح ذاتَ بيننا, أقول قولي هذا ..
أخي المسلم, يا عبد الله, إذا استطعتَ أن تسامِح فأنت أقوى الأقوياء, عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النبيّ r وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الحَاشِيَةِ فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ – وتعرفون الأعراب فيهم من الجفاء والغلظة ما الله به عليم – فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً, قال أنس: حتى رأيتُ صَفْحَةَ عَاتِقِ النَّبِيِّ r قَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ, مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ. فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ النبيُّ r فَضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ. هذه أخلاق الأنبياء, وهذا أمامُ الأنبياء, وهو قدوتُنَا.
فاتقوا الله تعالى وتخلقوا بأخلاقِ نبيكم r.
وَإِذَا غَضِبْتَ فَكُنْ وَقُورًا كَاظِمًا       لِلْغَيْظِ تُبْصِرُ مَا تَقُولُ وَتَسْمَعُ
فَكَفَى بِهِ شَرَفًا تَبَصُّرُ سَاعَــــــةٍ       يَرْضَى بِهَا عَنْكَ الْإِلَهُ وَتُرْفَــــعُ