عباد الله قصتان من كتاب الله تعالى جعلها الله عبرةً لنا كغيرها من قصص القرآن لنستخرج منها فرائدَ وفوائدَ تُفيدنا في أمور ديننا ودنيانا:
القصة الأولى: قصة رجل من قوم موسى اسمه قارون, كان غنياً مُترَفاً لدرجة أن مفاتح كنوزه التي فيها أموالُهُ لا يستطيعُ حملَها العُصبةُ من الرجالِ الأقوياء لا يستطيعون حملَ المفاتح فكيفَ بالكنوزِ والأموال؟ كان رجلاً ثرياً لكن استخدمَ ثرائَه في الإفسادِ والغِواية, فقال له الصالحون الناصحون من قومه {لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} نصحوه أن لا يكونَ من الأشِرين البَطِرين الذين لا يشكرونَ الله على ما أعطاهم والذين يستعينونَ بِنِعَمِ اللهِ على معصيته وإفسادِ النّاسِ وفتح بابِ الفسادِ في الأرض. قالوا له{وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} فكان جوابه:{إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} يعني أَنَا لَا أَفْتَقِرُ إِلَى مَا تَقُولُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ أَعْطَانِي هَذَا الْمَالَ لِعِلْمِهِ بِأَنِّي أَسْتَحِقُّهُ، وَلِمَحَبَّتِهِ لِي, ورضاهُ عنّي, أَمِنَ على نفسِهِ العقاب مع أنه يمارس سلوكَ الفساد وأسلوبَ الإفساد. فردَّ نُصحَ الناصحين ولَم يأبَه بنصحِهِم, ضَرَبَ بنصائِحِهِم عرضَ الحائط, فماذا كانت النتيجة؟ {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ}.
القصة الثانية: قصة ثَمُودَ جاءهم أَخوهُمْ صَالِحٌ ناصحاً فقَالَ {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} وقال لَهم{وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ}. وقال لَهم{يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ؟ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} نصائح عظيمة تحملُ في طياتها معاني الرحمة والشفقة, لكنهم ردوا نُصحَه, وطلبوا آيةً ومعجزة قالوا: {مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}. فقالَ لَهُم{هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}لكنهم ما سمعوا كلامَه وما راعَوْا نُصحَه, ولا آمنوا بالمعجزة {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} فماذا كانت النتيجة؟ {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} حتى قال تعالى في موضع آخر: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} عندَها قَالَ نبيُّ الله الناصحُ صالِح: {يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ}.
عباد الله, هناك قاسم مشترك بين القصتين: قصة قارون وقصة قوم صالح. هل عرفتم ماهو؟ موقِفُهُم السلبيُّ من الناصحين الواعظين. فقارون صَمَّ أذنَه عمَّن نصحَه وجادلهم بالباطل, وثمود كذبوا الناصح وكرهوه بل وتعدوا على آياتِ الله فماذا كانت النتيجة؟ كُلاً سَخِطَ اللهُ عليه في مكانه, وأنزلَ عليهم عذابَهُ ونِقمتَه.
هذه رسالة يا عباد الله لكل مجتمع بما فيه مجتمعُنا أن نُحسن التعامُلَ مع الناصحين, الأمرينَ بالمعروف والناهين عن المنكر, وأن نُضمِرَ الخيرَ لَهم ونظهِرَ احترامَهم وتقديرَهم بل والتماسَ العذرِ لَهم ونشكرَهم أن نَهوْنا عن منكرٍ وقعنَا فيه أو كُنَّا سنقعُ فيه وأمرونا بمعروفٍ يُقرِّبُنَا من الله ونُعينَهُم في مهماتِهِم وأمرِهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وفي المقابل لا نَكرهْهُم ولا نَكرَه نُصحَهُم, ولا نؤذيهم, ولا نُهينهم ولا نَصمّ آذانَنا ونَستغش ثيابَنا عن سماعِ نُصحِهِم وإلا حَلَّ بالمجتمع ما حَلَّ بتلك الأمم, لأن الناصحين هم أطواق النجاة لسفينة مجتمعنا وهذه الأطواقُ إذا عُطّلَت وأُهمِلَت وهُمّشت وكُسِّرت فَقَدَ المجتمعُ أطوَاقَ نَجَاتِهِ فغَرِقَت السفينة, وليسَ الغرقُ في الماء بل الغرقُ في نقمةِ اللهِ وسخطِهِ ثم إهلاكِهِ ولا طاقةَ لنا بعذابِ اللهِ لكن قَالَ تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}.
اللهم لا تهلكنا بعذابك ولا تقتلنا بغضبك وعافنا قبل ذلك, وتوفنا مسلمين, وألحقنا بالصلحين, ولا تردنا على أدبارنا بعد إذ هديتنا ..
عباد الله, بعضُ الناسِ يكرَهُ مَنْ يَنصحُهُ ويسخَرُ منه, وهو في الحقيقةِ لا يَكره شخصَ الناصحِ وذاتَهُ بل يَكرَهُ ما جَاءَ بِهِ من الحقّ, لأنّه خالفَ هواه, وهذه قضيةٌ خطيرة ولذلك قال أهل العلم: "اِغتِمامُك بصوابِ الناصِحِ لَكَ غِشٌّ فيك, وسوءُ نيّةٍ في المسلمين، فمن كَرِهَ الصَّوابَ من غيرِه ونصَرَ الخطَأ من نفسِه لَم يُؤمَن عليه أن يَسلُبَهُ اللهُ ما علَّمَه, ويُنسِيَهُ ما ذَكَّره, بل يُخاف عَلَيه أن يَسلُبَه اللهُ إيمانَه؛ لأنّ مَن سَمِعَ الحقَّ فأنكرَه بَعد عِلمِه فَهُو من المتكبِّرينَ على الله".
نسأل الله تعالى أن يلطُفَ بِنَا, وأن يعفُوَ عنّا, وأن لا يؤاخذنا بما فعل السفهاء مِنّا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق