عباد الله, موضوعُنا اليوم مهم جداً, لأنه يهم كلَّ فردٍ منا, كُلُّ فرد مِنَّا ينالُهُ من هذا الموضوعِ نصيب, الفتن وما أدراكم ما الفتن؟ نعوذُ باللهِ من الفتن. الفتن واردةٌ على كل مسلم, هذه حقيقة مسلَّمةٌ يقررها القرآن قال تعالى {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} الحكمة من الفتن ليعلمَ اللهُ الصادِقَ في إيمانِهِ من الكاذِبِ فيه. لكن المسلم العاقل هو الذي يلتمس نورَ المخرج وحبلَ السلامة ووسيلةَ النجاة, والحمد لله أنَّ هذا بين أيدينا, نعم بين أيدينا أعظمُ وسائل النجاة من الفتن, إنه القرآن الكريم, بتدبر آياته, واستلهام عِظَاتِهِ, الْقُرْآنُ حَبْلُ اللَّهِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ، عِصْمَةٌ لِمَنِ اعْتَصَمَ بِهِ، وَنَجَاةٌ لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ، القرآن نجاةٌ من المِحَن, ومَخرجٌ من الفِتن, ونُورٌ في الظُلَم.
وفي القرآن، سورة عظيمة, يشرع قراءتها كاملةً والإكثارُ منها, خصوصاً يومَ الجمعة, تحرّيَاً لفضلِها, وطلباً لنورِها, فهل عرفتموها؟ إنها سورةُ الكهف, في حديثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مرفوعاً وموقوفاً: مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ أَضَاءَ لَهُ مِنَ النُّورِ مَا بَيْنَ الْجُمُعَتَيْنِ. هل تعلمون ما هذا النور؟ نور النجاة من الفتن. فما العلاقةُ بين سورةِ الكهف والفتن؟ سورةُ الكهف عالجت الفتن, عرضت لأربع قِصص, كُلّ قصة عالَجت فتنةً من أمَّهاتِ الفتن التي يَسقُطُ فيها كثيرٌ من الناس, ثم بينت المخرجَ منها ..
الأولى: قصة أصحاب الكهف أشارت لفتنة عظيمة هي فتنةُ الشرك بالله تعالى, فِتْيَةٌ شبابٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وسط بيئة مشركة, ومجتمع مشرك, وقيادة مشركة فكان ذلك سبباً لفتنتِهِم في دينِهِم, فما استسلموا، ولم يتبعوا قومهم في ضلالهم، ولا وافقوهم على كفرهم؛ بل أعلنوا توحيد الله، وبراءتهم من الشرك {فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا. هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} فتصاحبوا وترافقوا واعتزلوا المشركين وفروا بدينهم منهم فَنَجَوْا. عرضت هذه القصة لفتنةِ الشركِ باللهِ والمَخرجُ منها أمورٌ ثلاثة: الأول الإلتجاء بالله تعالى {فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا}. الثاني: صحبةُ الصالحين {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}. الثالث: مجانبةُ أهلِ الغفلةِ والهوى {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}.
القصةُ الثانية: قصة صاحب الجنتين، أشارت لفتنةٍ عظيمة هي فتنة المال, رجلٌ أنعم الله عليه بالمال, فانغمس فيه, ونَسِيَ المُنعم، وتكبر على مَنْ حولَه, وتجرأ على ثوابتِ الإيمان: {قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا. يعني لن تنتهِيَ أموالي .. وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً .. يعني لن تكون آخرة مِن فَرْطِ إعجابِهِ بماله .. وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي .. يعني لو كان هناك آخرة .. لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا .. كأنه ضمن الجنة} انظروا كيف فَتَنَهُ المال؟ لَمَّا صَارَ المالُ في نفسِهِ غَايَةً ألغَى كل القيم والأخلاق والمبادئ, فكانت النتيجة: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} كأن لَم يَكُن, ذهب مالُهُ من حيثُ أتى, جعله الله عبرةً لغيره {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا}. عرضَت هذه القصة لفتنة المال, والمَخرَجُ منها في أمور:
أحدها: أن نعلم حقيقة الدنيا, وأنها ظلٌّ زائل, وعاريةٌ مُستردَّة {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا}. الثاني: شكرُ اللهِ بالاستعانة بالمال على طاعته, وإنفاقِهِ فيما يرضيه, فبهذا يتحقق معنى كونِهِ زينة {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}. الثالث: أن لا يطغى حبُّ المالِ على حُبّ اللهِ ورسوله, ولا يُشغل عن طاعةِ اللهِ ورسوله {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} هل تعلمونَ ما الباقياتُ الصالحات؟ إنها سُبْحَانَ اللَّهِ, وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ, هذه الكلمات خيرٌ من كنوز الدنيا وأموالِها. الرابع: أن يتذكَّرَ العبدُ أنه مهما كان غنياً مُترَفاً فستأتي اللحظة التي يخرُجُ من هذا كُلِّه, وسيَقدُم عَلَى اللهِ كَمَا خَلَقَهُ أولَ مرَّةٍ عارياً لا يملك شيئاً, وسيَجِدُ بين يديهِ كتاباً {لَاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا}فإما ثواب وإما عقاب
القصةُ الثالثة: قصة موسى مع الخَضِر، أشارَت هذه القصة لفتنة عظيمة هي فتنة العلم قوم موسى سألوا موسى عن أعلم أهلِ الأرض فظَنَّ أنَّهُ هُوَ فأوحى اللهُ إليه أنه يوجد من هو أعلَمُ منك، ودلَّهُ عليه, فذهب يبحث عنه هو وفتاه, قال تعالى: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا. قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} فصاحَبَهُ ليتعلَّمَ مِنهُ في رحلةٍ كلُّها دروسٌ وحِكَم فالسفينة خَرَقَهَا, لماذا؟ لِتَبْقَى لأهلِها، وتسلَمَ من الملكِ الظالِم، والغلام قتلَهُ, لماذا؟لأنه طُبِعَ كَافِرًا، وَلَوْ عَاشَ لَأَرْهَقَ أَبَوَيْهِ طُغْيَانًا وَكُفْرًا، والجدار أقامَهُ من غيرِ أجرٍ, لماذا؟ ليحفَظَ كنزَ الغلامينِ اليتيمين. عرضت هذه القصة لفتنةِ العلم, والمخرج منها التواضع لله كما تواضع موسى للخَضِر: {قَاَلَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَاَ أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} وموسى أفضلُ من الخضر وأعلَمُ باللهِ منه، لكنْ عند الخضر علمٌ لا يعلمه موسى، فتعلم منه بلا كِبْرٍ وتعالي. فمن فُتِنَ مِنَّا بعلمِهِ فليتواضَع للهِ وليعلم أنَّ {فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} فلا يمنعه ما وصل له عن التواضع والسؤال. فالبعض يفتَحُ اللهُ عليهِ في العلم فيقودُهُ علمُهُ إلى التعالي والتكبرِ واستصغارِ الناس, وتهميشِهم وإعجابِهِ برأيهِ دونَهُم, هذا سَيُردِيهِ عِلمُهُ, ويوردُهُ المهالك.
القصةُ الرابعة: قصة ذي القرنين الملك الصالح، أشارت قصتُهُ لفتنةٍ عظيمةٍ هي فتنةُ السلطان والحكم, مكَّنَ الله له, فدانت له الأقطارُ والأمصار, وهيأ الله له من كل شيء سباباً، فَلَم يتجبر, ولَم يستعل, ولَم يستغل سُلطانَهُ وسُلُطاتِهِ في مصالِحِهِ الشخصيّةِ كلا, بل على العكس سَخَّرَ قوتَهُ في مرضاةِ اللهِ فنشرَ العدل ونصر المظلومين ودفع الظالمين, وبعد كل هذا نَسَبَ الفضلَ للهِ فقال: {هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي}. عَرَضَت قصتُهُ لفتنةِ السلطة والولاية, أيَّا كانت صغيرةً أم كبيرة, عامَّةً أم خاصة, فهي غالباً تقودُ إلى التعالي والظلم واستغلال النفوذ, والمخرج منها ما فعله ذو القرنين.
فاتقوا الله عباد الله, واعرفوا لهذه السورة قدرَها، وتدبروا آياتِها، لا سيما أنكم تكررونها في كل جمعة، واعلموا أنها تبين لكم النجاة من فتنٍ كبرى, فتنة الشرك والمال والعلم والسلطة، فقد يجتهِدُ إبليسُ ويوقِعُ المسلمَ بإحدى هذه الفتن، ولذلك حذَّرَ الله من ولايته والركونِ لَهُ في وسطِ السورةِ, وفي وسطِ حديثِهِ عن القصص الأربع والفتن الأربع, فقال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا}
اللهم نجنا من الفتن ما ظهر منا وما بطن, اللهم لا تفتنا في ديننا ولا في دنيانا, اللهم لا تردنا على أعقابنا بعد إذ هديتنا ..
عباد الله, أعظم الفتن التي ستصيب الأمة والتي حذَّرَ منها النبيُّ r هي فتنةُ الدجال, اجتمعت في الدجالِ الفتنُ الأربعُ التي ذُكرت في سورةِ الكهف, فهو يفتن الناس في دينهم، فيدعوهم للشركِ بالله، ويقول: أنا ربكم, فَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَجِيبُونَ لَهُ. ويفتنهم بالمال يَمُرُّ بالأرضِ الجرداء، فَيَقُولُ لَهَا: أَخْرِجِي كُنُوزَكِ، فَتَتْبَعُهُ كُنُوزُهَا, ويَأْمُرُ السَّمَاءَ فَتُمْطِرُ، ويَأْمُرُ الْأَرْضَ فَتُنْبِتُ. ويفتنهم بالعلم فيخرج ومعه تقنيةٌ متطورةٌ, ويطأ الأرض في لحظات, ويُخبِرُ الرجلَ عن أبيه وأمه ويتمثَّلُ الشيطانُ له بصورتِهِمَا، ويقطَعُ الرجلَ بسيفِهِ حتى يمشي بين نصفيه ثُم يدعوه فيلتحِمُ كَمَا كان. ويفتنهم بسلطانه فيَعيثُ في الأرضِ فساداً, وما من بلدٍ إلا يبلُغُهَا سلطانُهُ خَلَاَ مكةَ والمدينة، ويَفِرُّ الناسُ إلى الجبالِ خَوفاً من بطشِهِ.
عباد الله, هل تعلمونَ من السالِمونَ من فتنةِ الدجال؟ إنهم أهلُ سورة الكهف, إنهم من يقرؤوها ويتدبروها, ويحفظ عشرها الأولى, هؤلاء سيَسلمون من فتنة الدجال, ولن يُسَلَّطَ عليهم, ولن تَنطَلِيَ عليهم أفعالُهُ وفتنتُهُ, بل لا تزيدُهُم فتنتُهُ إلا بصيرةً بشرِهِ ودَجَلِهِ وكَذِبِهِ, يقول النبيُّ r: مَنْ أَدْرَكَهُ مِنْكُمْ يعني الدجال فَلْيَقْرَأْ عَلَيْهِ فَوَاتِحَ سُورَةِ الْكَهْفِ. وقَالَ r مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ عُصِمَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ. وفي رواية: مِنْ خَوَاتِيمِهَا. يقولُ الإمامُ الشافعيُّ رحمه الله: بَلَغَنَا أَنَّهُ مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ وُقِيَ فِتْنَةَ الدَّجَّالِ, وقال رحمه الله: وَأُحِبُّ قِرَاءَةَ الْكَهْفِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ وَيَوْمَهَا لِمَا جَاءَ فِيهَا.
فاتقوا الله عباد الله, واحفظوا سورةَ الكهف, فإن عجزتم فاحفظوا منها ما يَعصِمُكُم من فتنةِ الدجال؛ فإنه شر غائب ينتظر, وتدبروا آياتها التي تَقيكُم من الفتن.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَمِنْ عَذَابِ النَّارِ، وَمِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا وَالمَمَاتِ، وَمِنْ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق