الجمعة، 12 يوليو 2013

خطبة بـ عنوان: "شهر النفحات"

عباد الله, لِلَّهِ U فِي أَيَّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٌ مِنْ رَحْمَتِهِ يُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ, وإن من أعظم تلك النفحات هذا الشهرَ الكريم, فهو بحق شهرُ النفحات, شهرٌ تفيضُ فيه بحارُ الرحمات, وتُستنزَلُ فيه البركات, وتظهرُ فيه التجليات, وتُستجَبُ فيهِ الدعوات, وتُوزَّعُ فيه العطايا والهبات, وحسبُكُم أنَّ أولَه رحمه, وأوسطَه مغفرة, وآخرَه عتق من النار, فاحمِدُوا اللهَ على بلوغه فغيرُكُم تحت أطباق الثرى يتحسرونَ ندماً أن لو عاشوا لإدراكِ يوم واحد من رمضان, احمدوا الله على بلوغه فغيرُكُم على الأسرة البيضاء في المصحات يتمنون أن لو صاموا كما تصومون, وقاموا كما تقومون, لكن قد حِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ. هَا وقد بلغكم الله رمضان وأنتم في صحةٍ وعافية فماذا أنتم فاعلون؟
تعرضوا لنفحات الله في شهرِكُم فإنه شهرُ النفحات.
في رمضان تَكسِبُونَ حسناتٍ لا حَدَّ لهَا ولا عَدَّ, بأدائكم لعبادة الصوم, يَقُولُ اللَّهُ U: الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ. أَنَا أَجْزِي بِهِ, ما حدد أجراً, أبهم الأجرَ للدِلالة على عِظَمِ الجزاء, فتعرضوا لهذه النفحةِ. في رمضان تتعالَجُ نفوسُكُم بالصوم فتصفو مشاعِرُكُم, وتَرِقُّ قلوبُكُم, وتُصَانُ جَوَارِحُكُم بعدَ عامٍ مضني من صراعِ الإنسان مع نفسه وشيطانه ونزواته وشهواته. فتعرضوا لهذه النفحةِ. في رمضان تتعالَجُ أرواحُكُم وأجسادُكُم بصلاةِ القيام وسماعِ القرآن. فتعرضوا لهذه النفحةِ. في رمضان تتحقق رغباتُكم بسببِ دَعَوَاتِكم طيلةَ صومِكُم وفي لحظةِ إفطارِكِم وفي سجودِكِم وفي وِترِكُم فتعرضوا لهذه النفحةِ. في رمضان تتخفف صحائفكم فيغفر الله ما فيها من ذنوبٍ وسيئات, فتعرضوا لهذه النفحةِ. في رمضان تُعتَقُ رِقَابُكُم من النار في كل ليلة عندَ لحظة فِطرِكُم. فتعرضوا لهذه النفحةِ. في رمضان تُكتَبُ أسماؤُكُم للدخولِ من بابِ الريان بابِ الصائمين لا يدخل منه غيرُهُم. فتعرضوا لهذه النفحةِ. في رمضان أشرفُ ليالي العام, وفيها أشرفُها ورأسُها وتاجُها وأمُّها, ليلةٌ خير من ألف شهر, من حُرِمَ خيرَها فقد حُرِم. فتعرضوا لهذه النفحةِ. كل هذه نفحاتٌ ربانية من ربٍّ كريم في شهرٍ كريم.
رمضانُ ما أحلَى لِقـَـــــــا رمضـــان           شهــرُ الهــدى والعفوِ والغفرانِ
رمضانُ إنَّكَ للقلوبِ سكينـــــــــةٌ           ومنـــــــارةٌ للتائـِــهِ الحيــــــــرانِ
كَمْ في رِحَابِك رحمةٌ ومــــــــــــودةٌ           كَم في لياليكَ الحِسَـانِ معانـِــــي
صَفَت النفوسُ فليسَ أيُّ مكدِّرٍ          وسَمَت عَلَى الأحقادِ والأضغـــانِ
لا ظَالـــــــمٌ فيه ولا متكبــــــــــرٌ          وغنيُّهُــــم وفقيــــــــــرُهُم سِيَّــــانِ
ما أسعدَ الإنسانَ في أيامِـــــــــهِ          فكأنَّهُ في جَنَّةِ الرضــــــــــــــوانِ
ألا فَأَرُوا اللَّهَ تعالى مِنْ أَنْفُسَكُمْ خَيْرًا في هذا الشهر, واحذروا الغفلة فَإِنَّ الشَّقِيَّ حقيقةً مَنْ لَم يتعرَّض لنفحاتِ اللهِ في رمضان, وَنفحاتُهُ لا تُصيبُ إلا القلوبَ المتيقظة وتُحظىء القلوبَ الغافلة. فلَاَ تَمُرُّ عليكم لحظة في هذا الشهر إلا وتعمروها بآياتٍ تتلونها, أو دعواتٍ ترفعونها, أو دَمَعَاتٍ تَذرِفونها, وأبشروا بخيري الدنيا والآخرة.
اللهم كما بلغتنا شهر رمضان ..
عباد الله, شهرُ رمضان شهرُ الصوم وشهرُ رمضان أنزل فيه القرآن فالصوم والقرآن متلازمان في هذا الشهر, فإن أشغلتَ بهِمَا وقتك يا أخي في رمضان صومٌ وقرآن شفعا لك عند الله, قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ، مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ, فَشَفِّعْنِي فِيهِ، وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ, قَالَ: فَيُشَفَّعَانِ. أي يُشفِّعُهُمَا اللهُ فيه ويُدخلُهُ الجنة.
ذَكَرَ بعضُ السلفِ أنه يوضع للصوَّامِ يومَ الحسابِ مائدةٌ يأكلونَ عليها والناسُ في الحساب فيقولُ النَّاس: يا رب نحن نحاسَبُ وهم يأكلون فيُقَالُ: إنَّهُم طالَمَا صاموا وأفطرتُم, وقاموا ونِمتُم. جمعوا بين الشرفين الصيام والقيام, فنالوا هذه الكرامة. قال بعض السلف: تجوَّع بالنهار, يعني صُم, وقُمْ بالأسحار, يعني بالقرآن, تَرَ عَجَبَاً من الملكِ الجبّار.
فاشحذوا هِمَمَكُم في شهرِكُم, وقووا عزائِمَكُم في لياليه, واستعينوا باللهِ ولا تعجزوا, وأبشروا بفضلِ اللهِ وعفوهِ ومغفرتِهِ.

الأحد، 7 يوليو 2013

خطبة بـ عنوان: "البشارة بشهر رمضان وكيف نستقبله"

عباد الله, أنوارُ الإيمانِ قد أضاءَت, ونسائمُ الرحمةِ قد هبّت, ولَحَظاتُ البركةِ قد حلّت, وساعاتُ المغفرة قد أطلّت, وسحائِبُ السكينةِ قد أظلّت, لاحت بشائرُ الرضا, وأَزلَفت أيامُ الهدى, وأقبَلَت ليالي التقى, ما هي إلا ليالٍ ويَفِدُ إلينا سيدُ الشهور {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}
أطلَّ شهـرٌ عظيــــمُ القَدْرِ فاغتَنِــــمِ         ونَاجِ مولَاكَ لَا تَركَـن إلَى السَّـــــــأمِ
كَم فيهِ من نَفحَاتٍ قد سَمَت عِظَمَاً        خيرُ الشهورِ عَلَى الِإطلَاقِ فِي العِظَمِ
شهرٌ لطالَمَا انتظرَهُ المتقون واستبشر بقدومِهِ الصالِحون ودَعَا ببلوغِهِ العارفون, لأنه ليس كغيره من الشهور, وليس كمثله في الدهور. ولذلك كَانَ النبيُّ r يُبَشِّرُ أَصْحَابَهُ بقدومه فيقولُ لَهُم: أَتَاكُمْ رَمَضَانُ شَهْرُ بَرَكَةٍ , فِيهِ خَيْرٌ, يَغْشَاكُمُ اللَّه, فَيُنْزِلُ الرَّحْمَةَ, وَيَحُطُّ الْخَطَايَا، وَيُسْتَجَابُّ الدعاء، يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى تَنَافُسِكُمْ وَيُبَاهِي بِكُمْ مَلَائِكَته, فَأَرُوا اللَّهَ مِنْ أَنْفُسَكُمْ خَيْرًا فَإِنَّ الشَّقِيَّ مَنْ حُرِمَ فِيهِ رَحْمَةَ اللَّهِ. تربيةٌ نبوية, يذكرُ لَهُم r بعضَ فضائل رمضان ليهيئَ نفوسَهُم, ويشحذَ هِمَمَهُم, ويُقوّيَ عزائمَهم, ويُحرّكَ فيِهم روحَ التنافسِ, والمسارعةِ للطاعة. إعدادٌ نفسيٌّ إيمانيٌّ. والبشيرُ لا يُبشّرُ إلا بخير, فكيفَ إذا كان البشيرُ محمداً r؟ وكيف إذا كَانَ المبشَّرُ به شهرَ رمضان؟ البشارةُ بقدومِ شهرِ رمضان مشروعة. وكيفَ لا نُبَشَّرُ بشهرٍ تُفتَّحُ فيهِ أبوابُ السماء؟ كيفَ لا نُبشَّرُ بشهرٍ تُفتَّحُ فيهِ أبوابُ الرحمة؟ كيف لا نُبَشَّرُ بشهرٍ تُفَتَّحُ فيهِ أبوابُ الجنة فلا يُغلَقُ منها باب؟ كيف لا نُبشَّرُ بشهرٍ تُغلَقُ فيه أبوابُ النار فلا يُفتَحُ منها باب؟ كيف لا نُبَشَّرُ بشهرٍ تُغَلُّ فيه الشياطينُ ومَرَدَةُ الجآن؟ كيف لا نُبَشَّرُ بشهرٍ يُنَادِي فيه مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ؟ كيف لا نُبَشَّرُ بشهرٍ لِلَّهِ فيهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ كُلَّ لَيْلَةٍ؟
ألا فأحسنوا استقبالَ الشهرِ الكريم, استقبلوهُ بسؤالِ اللهِ بُلَوغَه وإدراكَه في صحةٍ وعافية حتى تنشَطُوا لطاعةِ اللهِ فيه. ثُمَّ استقبلوهُ بتطهيرِ قلوبِكم وجيوبِكم وذِمَمِكُم وبيوتِكم. بتطهيرِ هذه الأربع, وكيفَ ذلك؟ نستقبِلُ رمضان بتطهيرِ قلوبنا من الغل والحقد والبغضاء, وتنقيتِها من الشحناء, فنتصافَى ونتسامَحُ لأنَّ رمضان على الأبواب حتى نستلذَّ بالقرآن قَالَ عُثْمَانُ t: لَوْ طَهُرَتْ قُلُوبُكُمْ مَا شَبِعَتْ مِنْ كَلَامِ ربكم. لننسى خلافاتنا جانباً قبل رمضان حتى نحظى بشرفِ رفعِ الأعمال وشرفِ عرضِهَا وشرفِ مغفرةِ ما فيها, وشرفِ قَبولِها, شهاداتُ شَرَفٍ مَنْ حُرِمَها في رمضان ولَم تُصبه فهو المَحروم. فهل نُحرَمُ منها لأجلِ تنافُرٍ وتناحر على أمورٍ دنيوية تافهةٍ لا قيمة لها ولا وزن؟ هذا هو الخسرانُ الحقيقي.
نَستقبِلُ رمضان بتطهيرِ جيوبنا من الكسبِ الخبيث والمالِ الحرام, حتى يُرفَعَ عملُنا, ويُقبَلَ دعاؤُنا فإن أكلَ الحرام سببٌ لمنع إجابةِ الدعاء. في الصحيحِ ذَكَرَ النبيُّ r الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ له؟ كيفَ يُستجابُ لَه؟
نَستقبِلُ رمضان بتطهيرِ ذِمَمِنَا من مظالم العباد, وحقوقِ الناس وردِّها إلى أصحابِها, والتسامحِ مع مَنْ ظلمنَاه وأخطأنا في حَقه حتى لا يَدعُوَ علينا ويُرَدَّ عملُنا, إذ كيفَ يَصومُ المرءُ في رمضان ويقومُ ويتصدّقُ وهو أَكَلٌ لحَقِّ غيرِهِ ظالِمٌ له معتدٍ على أموالِهِ وممتلكاته؟
ألا يخافُ الظالمُ دعوةَ المظلومٍ الصائمٍ في سجودِهِ وعندَ فطرِهِ؟ تَخلُّصُوا رحمكم الله من مظالم العباد وتحللُوا منها ليقبلَكُم ربُّكُم, ولِتُدرِكَكُم رَحمتُهُ في شهرِ الرحمة والمغفرة.
اللَّهُمَّ بارك لنا فيما تبقى من شعبان, وبلغنا شهر رمضان ..
عباد الله, كَمَا نَستقبِلُ شهرَ رمضانَ بتطهيرِ بيوتِنَا مِنْ كُلّ مَا يُشغِلُنَا ويَجرَحُ صومَنَا خصوصاً تِلكَ الفضائياتِ المُفسِدِة التي تَبُثُ الفسقَ والعري والفسادَ الأخلاقيَّ في مسلسلاتِها ومسابقاتِها وبرامِجِها, والتي تَهتِكُ حُرمةَ رمضان, وتشوّهُ روحانيتَه, وتجرَحُ طاعَتَكُم فيه, طهّروا بيوتَكم من هذه الفضائيات لِتَتَفَرَّغُوا للطاعةِ والتلاوةِ والدعاء, فمضيعةُ الوقتِ عليهَا يُحقّقُ فيمَن يُتَابِعُهَا قولُ النبيّ r: رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ، وَرُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ. هَذَا الذي ضيّعَ وقتَه على الفضائيات لا تشملُهُ رحمة, ولا تغشاهُ نفحة, لأنه لَم يتعرّض لنفحاتِ اللهِ ورَحَمَاتِهِ في شهرِ النفحاتِ والرّحمات.
فاللهَ اللهَ في حُسنِ استقبالِ شهرِكم الكريم, وصدقِ استغلالِهِ بما يَنفَعُكُم.
اللهم بلغنا شهر رمضان وارزقنا فيه طاعتَك على الوجه الذي يُرضيك عنَّا.

الثلاثاء، 2 يوليو 2013

خطبة بـ عنوان: "سقي الماء"

عباد الله, كان السلفُ الصالِحُ يَفرحونَ بالصيف كفرحنا نحن الربيع والشتاء لماذا يفرحون بالصيف؟ لأنهم يعلمونَ يقيناً أن الطاعةَ فيه ثقيلةٌ وشاقة, ولأن النفوسَ تحب فيه الدعةَ والراحة والظلَّ البارد والماءَ الزُّلال فتزهد في كثيرٍ من الطاعات والقربات, ولا يستغلها ويتنبه لها إلا الخُلَّصُ من عباد الله فيعمرون الصيف بصالح القول والعمل.
ألا فلنكن مثلَّهُم يا عباد الله وإني أدلكم على بابٍ عظيمٍ من أبوابِ الخيرِ في الصيف عملٍ يعظم فضله ويضاعف ثوابه في الصيف, لأن نفعَه متعدي للبشر وغير البشر, ولأن أثرَه ظاهر على من يستفيدُ منه, ألا وهو سقي الماء, قَالَ النَّبِيُّ r: لَيْسَ صَدَقَةٌ أَعْظَمَ أَجْرًا مِنْ مَاءٍ. يعني سقي الماء. وعَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: سَقْيُ الْمَاءِ. سَقْيُ الْمَاءِ بأي طريقة كانت. كشراءِ عبواتِ ماءٍ باردة وتوزيعِها على من في المسجد وعلى عابري السبيل وعُمّالِ النظافة والبناءِ وسائقي الشاحنات وغيرِهم. شراءُ ناقلات ماء وتوصيلُها إلى بيوتٍ فقيرةٍ لا يوصَلُ لها ماء. شراءُ برادات ماء وتوزيعُها على أبوابِ المساجِدِ والأسواقِ والمحطاتِ على الطُرُقِ السريعة. إصلاحُ ما تعطل من تلك البرادات على الطرق السريعة. تعاهُدُ خزانات المساجد المطروقة على الطرق السريعة بالتعبئة المستمرة, والتنظيفِ الدوري. حفرُ الآبارِ في القرى الفقيرة التي يَقِلُّ فيها الماء, ويشتدُ فيها العطش. كل ذلك من وسائل سقي الماء. وفي الحديث الصحيح: مَنْ حَفَرَ مَاءً لَمْ يَشْرَبْ مِنْهُ كَبِدٌ حَرَّى مِنْ جِنٍّ وَلَا إِنْسٍ وَلَا سَبُعٍ وَلَا طَائِرٍ إِلَّا آجَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
عباد الله, الصدقةُ بسقي الماء عن الميت أفضلَ الصدقاتِ الجارية, لَمَّا ماتت أمُ الصحابيّ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ أتي النبيَّ r فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمَّ سَعْدٍ مَاتَتْ، أَفَأَتَصَدَّقُ عَنْهَا؟ قَالَ نَعَمْ. قال: فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْجَبُ إِلَيْكَ؟ قَالَ: سَقْيُ الْمَاءِ. فَحَفَرَ سعدٌ في المدينةِ بِئْرًا وَقَالَ: هَذِهِ لِأُمِّ سَعْدٍ. الصدقةُ بسقي الماء تدفع البلاء, وتقي مصارع السوء, وقَد قَالَ النبيُّ r لأعرابي: انْظُرْ إِلَى أَهْلِ بَيْتٍ لَا يَشْرَبُونَ الْمَاءَ إِلَّا غِبًّا يعني نادراً لقلته فَاسْقِهِمْ، فَلَعَلَّكَ أَلَّا يَهْلِكَ بَعِيرُكَ، وَلَا يَنْخَرِقَ سِقَاؤُكَ حَتَّى تَجِبَ لَكَ الْجَنَّةُ, فَانْطَلَقَ الْأَعْرَابِيُّ يُكَبِّرُ، فَمَا انْخَرَقَ سِقَاؤُهُ، وَلَا هَلَكَ بَعِيرُهُ حَتَّى قُتِلَ شَهِيدًا. عَمِلَ بوصيةِ النبيّ r فسَقَى ماءً لأهلِ بيتٍ محتاجينَ للماء, فَمَا انْخَرَقَ سِقَاؤُهُ وَلَا هَلَكَ بَعِيرُهُ حَتَّى قُتِلَ شَهِيدًا. وجاءَ رجلٌ إلى الإمامِ ابْنِ الْمُبَارَكِ فَسَأَلَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قُرْحَةٌ خَرَجَتْ فِي رُكْبَتِي مُنْذُ سَبْعِ سِنِينَ، وَقَدْ عَالَجْتُ بِأَنْواعِ الْعِلَاجِ، وَسَأَلْتُ الْأَطِبَّاءَ فَلَمْ أَنْتَفِعُ, قَالَ: اذْهَبْ فَانْظُرْ مَوْضِعًا يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَى الْمَاءِ فاحْفُرْ هُنَاكَ بِئْرًا، فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ تَنْبُعَ هُنَاكَ عَيْنٌ، وَيُمْسِكُ عَنْكَ الدَّمُ. فَفَعَلَ الرَّجُلُ فَبَرِئَ بإذن الله. وأصابت الْحَاكِمَ أَبا عَبْدِ اللهِ الحَافِظَ المُحدثَ قُرْحَةٌ في وَجْهِهِ وَعَالَجَهَا سنةً فَلَمْ تَذْهَبْ، فَأَمَرَ بِسِقَايَةِ الْمَاءِ, بُنِيَ عَلَى بَابِ دَارِهِ مَسقَى, وَأَخَذَ النَّاسُ فِي الشُّرْبِ منه, فَمَا مَرَّ عَلَيْهِ أُسْبُوعٌ حَتَّى ظَهَرَ عليه الشِّفَاءُ, فَزَالَتْ الْقُرُوحُ عنه, وَعَادَ وَجْهُهُ إِلَى أَحْسَنِ مَاكَانَ. فَيَا مَنْ يريدُ الأجرَ الجاري والثوابَ الدائم والشفاءَ العاجل اِسق إخوانَك وجيرانَك وتحرّى أوقاتِ الصيف الحارّة وشُحَّ الماء وابحَث عمَّن لا يَجِدُ ماءً , وقَدّمهُ له سبيلاً لوجه الله تعالى, وتذكَّر أنَّ مَنْ سَقَى مُسْلِمًا عَلَى ظَمَإٍ، سَقَاهُ اللَّهُ مِنَ الرَّحِيقِ الْمَخْتُومِ في الجنة, احتسب الأجر, وانوِ به رفعَ البلاء وَدَفعَ السوء {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ}.
اللهم إنا نسألك عملاً صالِحاً ينفعُنا ويرفَعُنا وترضَى به عنّا ..
عباد الله, وكما أن هذا الثواب في حق البشر فكذلك في حق البهائم والدواب, عَنْ ابْنِ جُعْشُمٍ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ r عَنْ ضَالَّةِ الْإِبِلِ تَغْشَى حِيَاضِي، قَدْ لُطْتُهَا لِإِبِلِي، فَهَلْ لِي مِنْ أَجْرٍ إِنْ سَقَيْتُهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ حَرَّى أَجْرٌ.
مَنْ كَثُرَت ذنوبُهُ فليتقرب إلى الله بسقايةِ الدواب والطيور ولا تحقرن من المعروف شيئاً ولا تستصغره, فالثوابُ مغفرةٌ من الله, زانيةٌ بغيّ سقَت كلباً فشكر الله لها فغَفَرَ لهَا ذنبها. فكيفَ بمن يَسقي بني البشر؟ ورَجُلٌ سَقَى كَلْبَاً فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنَّ لَنَا فِي البَهَائِمِ أَجْرًا؟ قَالَ: فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ. وفي المقابل عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا، فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ. قَالَ الله: لاَ أَنْتِ أَطْعَمْتِهَا وَلاَ سَقَيْتِهَا حِينَ حَبَسْتِيهَا، وَلاَ أَنْتِ أَرْسَلْتِهَا، فَأَكَلَتْ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ.
فاتقوا الله عباد الله {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} وتحرَّوا في فصلِ الصيف سقيَ الماءِ للبشرِ والدوابِ والطيور, وأبشروا بفضلِ الله تعالى.