عباد الله, أنوارُ الإيمانِ قد أضاءَت, ونسائمُ الرحمةِ قد هبّت, ولَحَظاتُ البركةِ قد حلّت, وساعاتُ المغفرة قد أطلّت, وسحائِبُ السكينةِ قد أظلّت, لاحت بشائرُ الرضا, وأَزلَفت أيامُ الهدى, وأقبَلَت ليالي التقى, ما هي إلا ليالٍ ويَفِدُ إلينا سيدُ الشهور {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}
أطلَّ شهـرٌ عظيــــمُ القَدْرِ فاغتَنِــــمِ ونَاجِ مولَاكَ لَا تَركَـن إلَى السَّـــــــأمِ
كَم فيهِ من نَفحَاتٍ قد سَمَت عِظَمَاً خيرُ الشهورِ عَلَى الِإطلَاقِ فِي العِظَمِ
شهرٌ لطالَمَا انتظرَهُ المتقون واستبشر بقدومِهِ الصالِحون ودَعَا ببلوغِهِ العارفون, لأنه ليس كغيره من الشهور, وليس كمثله في الدهور. ولذلك كَانَ النبيُّ r يُبَشِّرُ أَصْحَابَهُ بقدومه فيقولُ لَهُم: أَتَاكُمْ رَمَضَانُ شَهْرُ بَرَكَةٍ , فِيهِ خَيْرٌ, يَغْشَاكُمُ اللَّه, فَيُنْزِلُ الرَّحْمَةَ, وَيَحُطُّ الْخَطَايَا، وَيُسْتَجَابُّ الدعاء، يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى تَنَافُسِكُمْ وَيُبَاهِي بِكُمْ مَلَائِكَته, فَأَرُوا اللَّهَ مِنْ أَنْفُسَكُمْ خَيْرًا فَإِنَّ الشَّقِيَّ مَنْ حُرِمَ فِيهِ رَحْمَةَ اللَّهِ. تربيةٌ نبوية, يذكرُ لَهُم r بعضَ فضائل رمضان ليهيئَ نفوسَهُم, ويشحذَ هِمَمَهُم, ويُقوّيَ عزائمَهم, ويُحرّكَ فيِهم روحَ التنافسِ, والمسارعةِ للطاعة. إعدادٌ نفسيٌّ إيمانيٌّ. والبشيرُ لا يُبشّرُ إلا بخير, فكيفَ إذا كان البشيرُ محمداً r؟ وكيف إذا كَانَ المبشَّرُ به شهرَ رمضان؟ البشارةُ بقدومِ شهرِ رمضان مشروعة. وكيفَ لا نُبَشَّرُ بشهرٍ تُفتَّحُ فيهِ أبوابُ السماء؟ كيفَ لا نُبشَّرُ بشهرٍ تُفتَّحُ فيهِ أبوابُ الرحمة؟ كيف لا نُبَشَّرُ بشهرٍ تُفَتَّحُ فيهِ أبوابُ الجنة فلا يُغلَقُ منها باب؟ كيف لا نُبشَّرُ بشهرٍ تُغلَقُ فيه أبوابُ النار فلا يُفتَحُ منها باب؟ كيف لا نُبَشَّرُ بشهرٍ تُغَلُّ فيه الشياطينُ ومَرَدَةُ الجآن؟ كيف لا نُبَشَّرُ بشهرٍ يُنَادِي فيه مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ؟ كيف لا نُبَشَّرُ بشهرٍ لِلَّهِ فيهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ كُلَّ لَيْلَةٍ؟
ألا فأحسنوا استقبالَ الشهرِ الكريم, استقبلوهُ بسؤالِ اللهِ بُلَوغَه وإدراكَه في صحةٍ وعافية حتى تنشَطُوا لطاعةِ اللهِ فيه. ثُمَّ استقبلوهُ بتطهيرِ قلوبِكم وجيوبِكم وذِمَمِكُم وبيوتِكم. بتطهيرِ هذه الأربع, وكيفَ ذلك؟ نستقبِلُ رمضان بتطهيرِ قلوبنا من الغل والحقد والبغضاء, وتنقيتِها من الشحناء, فنتصافَى ونتسامَحُ لأنَّ رمضان على الأبواب حتى نستلذَّ بالقرآن قَالَ عُثْمَانُ t: لَوْ طَهُرَتْ قُلُوبُكُمْ مَا شَبِعَتْ مِنْ كَلَامِ ربكم. لننسى خلافاتنا جانباً قبل رمضان حتى نحظى بشرفِ رفعِ الأعمال وشرفِ عرضِهَا وشرفِ مغفرةِ ما فيها, وشرفِ قَبولِها, شهاداتُ شَرَفٍ مَنْ حُرِمَها في رمضان ولَم تُصبه فهو المَحروم. فهل نُحرَمُ منها لأجلِ تنافُرٍ وتناحر على أمورٍ دنيوية تافهةٍ لا قيمة لها ولا وزن؟ هذا هو الخسرانُ الحقيقي.
نَستقبِلُ رمضان بتطهيرِ جيوبنا من الكسبِ الخبيث والمالِ الحرام, حتى يُرفَعَ عملُنا, ويُقبَلَ دعاؤُنا فإن أكلَ الحرام سببٌ لمنع إجابةِ الدعاء. في الصحيحِ ذَكَرَ النبيُّ r الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ له؟ كيفَ يُستجابُ لَه؟
نَستقبِلُ رمضان بتطهيرِ ذِمَمِنَا من مظالم العباد, وحقوقِ الناس وردِّها إلى أصحابِها, والتسامحِ مع مَنْ ظلمنَاه وأخطأنا في حَقه حتى لا يَدعُوَ علينا ويُرَدَّ عملُنا, إذ كيفَ يَصومُ المرءُ في رمضان ويقومُ ويتصدّقُ وهو أَكَلٌ لحَقِّ غيرِهِ ظالِمٌ له معتدٍ على أموالِهِ وممتلكاته؟
ألا يخافُ الظالمُ دعوةَ المظلومٍ الصائمٍ في سجودِهِ وعندَ فطرِهِ؟ تَخلُّصُوا رحمكم الله من مظالم العباد وتحللُوا منها ليقبلَكُم ربُّكُم, ولِتُدرِكَكُم رَحمتُهُ في شهرِ الرحمة والمغفرة.
اللَّهُمَّ بارك لنا فيما تبقى من شعبان, وبلغنا شهر رمضان ..
عباد الله, كَمَا نَستقبِلُ شهرَ رمضانَ بتطهيرِ بيوتِنَا مِنْ كُلّ مَا يُشغِلُنَا ويَجرَحُ صومَنَا خصوصاً تِلكَ الفضائياتِ المُفسِدِة التي تَبُثُ الفسقَ والعري والفسادَ الأخلاقيَّ في مسلسلاتِها ومسابقاتِها وبرامِجِها, والتي تَهتِكُ حُرمةَ رمضان, وتشوّهُ روحانيتَه, وتجرَحُ طاعَتَكُم فيه, طهّروا بيوتَكم من هذه الفضائيات لِتَتَفَرَّغُوا للطاعةِ والتلاوةِ والدعاء, فمضيعةُ الوقتِ عليهَا يُحقّقُ فيمَن يُتَابِعُهَا قولُ النبيّ r: رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ، وَرُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ. هَذَا الذي ضيّعَ وقتَه على الفضائيات لا تشملُهُ رحمة, ولا تغشاهُ نفحة, لأنه لَم يتعرّض لنفحاتِ اللهِ ورَحَمَاتِهِ في شهرِ النفحاتِ والرّحمات.
فاللهَ اللهَ في حُسنِ استقبالِ شهرِكم الكريم, وصدقِ استغلالِهِ بما يَنفَعُكُم.
اللهم بلغنا شهر رمضان وارزقنا فيه طاعتَك على الوجه الذي يُرضيك عنَّا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق