عباد الله, كان السلفُ الصالِحُ يَفرحونَ بالصيف كفرحنا نحن الربيع والشتاء لماذا يفرحون بالصيف؟ لأنهم يعلمونَ يقيناً أن الطاعةَ فيه ثقيلةٌ وشاقة, ولأن النفوسَ تحب فيه الدعةَ والراحة والظلَّ البارد والماءَ الزُّلال فتزهد في كثيرٍ من الطاعات والقربات, ولا يستغلها ويتنبه لها إلا الخُلَّصُ من عباد الله فيعمرون الصيف بصالح القول والعمل.
ألا فلنكن مثلَّهُم يا عباد الله وإني أدلكم على بابٍ عظيمٍ من أبوابِ الخيرِ في الصيف عملٍ يعظم فضله ويضاعف ثوابه في الصيف, لأن نفعَه متعدي للبشر وغير البشر, ولأن أثرَه ظاهر على من يستفيدُ منه, ألا وهو سقي الماء, قَالَ النَّبِيُّ r: لَيْسَ صَدَقَةٌ أَعْظَمَ أَجْرًا مِنْ مَاءٍ. يعني سقي الماء. وعَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: سَقْيُ الْمَاءِ. سَقْيُ الْمَاءِ بأي طريقة كانت. كشراءِ عبواتِ ماءٍ باردة وتوزيعِها على من في المسجد وعلى عابري السبيل وعُمّالِ النظافة والبناءِ وسائقي الشاحنات وغيرِهم. شراءُ ناقلات ماء وتوصيلُها إلى بيوتٍ فقيرةٍ لا يوصَلُ لها ماء. شراءُ برادات ماء وتوزيعُها على أبوابِ المساجِدِ والأسواقِ والمحطاتِ على الطُرُقِ السريعة. إصلاحُ ما تعطل من تلك البرادات على الطرق السريعة. تعاهُدُ خزانات المساجد المطروقة على الطرق السريعة بالتعبئة المستمرة, والتنظيفِ الدوري. حفرُ الآبارِ في القرى الفقيرة التي يَقِلُّ فيها الماء, ويشتدُ فيها العطش. كل ذلك من وسائل سقي الماء. وفي الحديث الصحيح: مَنْ حَفَرَ مَاءً لَمْ يَشْرَبْ مِنْهُ كَبِدٌ حَرَّى مِنْ جِنٍّ وَلَا إِنْسٍ وَلَا سَبُعٍ وَلَا طَائِرٍ إِلَّا آجَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
عباد الله, الصدقةُ بسقي الماء عن الميت أفضلَ الصدقاتِ الجارية, لَمَّا ماتت أمُ الصحابيّ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ أتي النبيَّ r فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمَّ سَعْدٍ مَاتَتْ، أَفَأَتَصَدَّقُ عَنْهَا؟ قَالَ نَعَمْ. قال: فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْجَبُ إِلَيْكَ؟ قَالَ: سَقْيُ الْمَاءِ. فَحَفَرَ سعدٌ في المدينةِ بِئْرًا وَقَالَ: هَذِهِ لِأُمِّ سَعْدٍ. الصدقةُ بسقي الماء تدفع البلاء, وتقي مصارع السوء, وقَد قَالَ النبيُّ r لأعرابي: انْظُرْ إِلَى أَهْلِ بَيْتٍ لَا يَشْرَبُونَ الْمَاءَ إِلَّا غِبًّا يعني نادراً لقلته فَاسْقِهِمْ، فَلَعَلَّكَ أَلَّا يَهْلِكَ بَعِيرُكَ، وَلَا يَنْخَرِقَ سِقَاؤُكَ حَتَّى تَجِبَ لَكَ الْجَنَّةُ, فَانْطَلَقَ الْأَعْرَابِيُّ يُكَبِّرُ، فَمَا انْخَرَقَ سِقَاؤُهُ، وَلَا هَلَكَ بَعِيرُهُ حَتَّى قُتِلَ شَهِيدًا. عَمِلَ بوصيةِ النبيّ r فسَقَى ماءً لأهلِ بيتٍ محتاجينَ للماء, فَمَا انْخَرَقَ سِقَاؤُهُ وَلَا هَلَكَ بَعِيرُهُ حَتَّى قُتِلَ شَهِيدًا. وجاءَ رجلٌ إلى الإمامِ ابْنِ الْمُبَارَكِ فَسَأَلَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قُرْحَةٌ خَرَجَتْ فِي رُكْبَتِي مُنْذُ سَبْعِ سِنِينَ، وَقَدْ عَالَجْتُ بِأَنْواعِ الْعِلَاجِ، وَسَأَلْتُ الْأَطِبَّاءَ فَلَمْ أَنْتَفِعُ, قَالَ: اذْهَبْ فَانْظُرْ مَوْضِعًا يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَى الْمَاءِ فاحْفُرْ هُنَاكَ بِئْرًا، فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ تَنْبُعَ هُنَاكَ عَيْنٌ، وَيُمْسِكُ عَنْكَ الدَّمُ. فَفَعَلَ الرَّجُلُ فَبَرِئَ بإذن الله. وأصابت الْحَاكِمَ أَبا عَبْدِ اللهِ الحَافِظَ المُحدثَ قُرْحَةٌ في وَجْهِهِ وَعَالَجَهَا سنةً فَلَمْ تَذْهَبْ، فَأَمَرَ بِسِقَايَةِ الْمَاءِ, بُنِيَ عَلَى بَابِ دَارِهِ مَسقَى, وَأَخَذَ النَّاسُ فِي الشُّرْبِ منه, فَمَا مَرَّ عَلَيْهِ أُسْبُوعٌ حَتَّى ظَهَرَ عليه الشِّفَاءُ, فَزَالَتْ الْقُرُوحُ عنه, وَعَادَ وَجْهُهُ إِلَى أَحْسَنِ مَاكَانَ. فَيَا مَنْ يريدُ الأجرَ الجاري والثوابَ الدائم والشفاءَ العاجل اِسق إخوانَك وجيرانَك وتحرّى أوقاتِ الصيف الحارّة وشُحَّ الماء وابحَث عمَّن لا يَجِدُ ماءً , وقَدّمهُ له سبيلاً لوجه الله تعالى, وتذكَّر أنَّ مَنْ سَقَى مُسْلِمًا عَلَى ظَمَإٍ، سَقَاهُ اللَّهُ مِنَ الرَّحِيقِ الْمَخْتُومِ في الجنة, احتسب الأجر, وانوِ به رفعَ البلاء وَدَفعَ السوء {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ}.
اللهم إنا نسألك عملاً صالِحاً ينفعُنا ويرفَعُنا وترضَى به عنّا ..
عباد الله, وكما أن هذا الثواب في حق البشر فكذلك في حق البهائم والدواب, عَنْ ابْنِ جُعْشُمٍ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ r عَنْ ضَالَّةِ الْإِبِلِ تَغْشَى حِيَاضِي، قَدْ لُطْتُهَا لِإِبِلِي، فَهَلْ لِي مِنْ أَجْرٍ إِنْ سَقَيْتُهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ حَرَّى أَجْرٌ.
مَنْ كَثُرَت ذنوبُهُ فليتقرب إلى الله بسقايةِ الدواب والطيور ولا تحقرن من المعروف شيئاً ولا تستصغره, فالثوابُ مغفرةٌ من الله, زانيةٌ بغيّ سقَت كلباً فشكر الله لها فغَفَرَ لهَا ذنبها. فكيفَ بمن يَسقي بني البشر؟ ورَجُلٌ سَقَى كَلْبَاً فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنَّ لَنَا فِي البَهَائِمِ أَجْرًا؟ قَالَ: فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ. وفي المقابل عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا، فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ. قَالَ الله: لاَ أَنْتِ أَطْعَمْتِهَا وَلاَ سَقَيْتِهَا حِينَ حَبَسْتِيهَا، وَلاَ أَنْتِ أَرْسَلْتِهَا، فَأَكَلَتْ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ.
فاتقوا الله عباد الله {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} وتحرَّوا في فصلِ الصيف سقيَ الماءِ للبشرِ والدوابِ والطيور, وأبشروا بفضلِ الله تعالى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق