أخي المسلم, أيها المبارك, قضيةٌ يجب أن تعتنيَ بها, وتَحرِصَ عليها, ولا تتساهَلَ فيها, إنها تُحدّدُ معالِمَك, وترسمُ شخصيتَك, وتؤثرُ على أفكارِك وتوجهاتِك ومبادئِك, إنها اختيارُ جلسائِك. مَنْ تجلس معه فهو جليسُك, مَنْ تقرأ له فهو جليسُك, مَنْ تتابع حديثَه فهو جليسُك, مَنْ تستمعُ له فهو جليسُك, فأحسن اختيارَهُم.
الناس بالنسبة لك على ثلاثةِ أصناف: صنفٌ هم لك كالغذاء, لا يُستغنَى عنه. وصِنفٌ هم لك كالدواء, لا يُحتَاجُ إليه إلا زمناً معينا. وصنفٌ هم لك كالداء, لا يُحتاجُ إليهِ أبدا. فأحسن اختيارَ جلسائك, إنه قد ورد في الحديثِ الصحيح: يأتي على الناسِ زمانٌ يُقَالَ لِلرَّجُلِ:«مَا أَجْلَدَهُ مَا أَظْرَفَهُ مَا أَعْقَلَهُ لكن مَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ» فاحذر أن يكونَ جليسُكَ من أمثالِ هؤلاء. وورد في الحديثِ الصحيح الآخر, سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتُ, يَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ, قِيلَ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟ قَالَ: «الرَّجُلُ التَّافِهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ». وقيل: «السَّفِيهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ».
أحسن اختيارَ جلسائك أن لا يكونَ بينَهم رويبضة. رويبضة يعني رابضٌ عن معالي الأمور, ومشارِفِ الأحوال, ومفاخِرِ الأفعال, رابِضٌ حِسَّاً ومَعنى, لا ينبعِثُ في شي, ولا إلى شيء, سوى كثرةِ الكلامِ في علمِ الكبار, وقضايا الأمّة, وحوادِثِ المجتمع, يتكلم في كل شيء, ويتدخَّلُ في كل شيء, ويُحلِّلُ كُلَّ شيء, ويوزّعُ الاتهامات, ويُقصي ويُدنِي, ويستعلي ويستعدي, ويزايد ويفتات, وكَثْرَةُ الكَلَامِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ يُقسِّي الْقَلْبَ ياعباد الله وَأَبْعَدُ النَّاسِ مِنَ اللَّهِ ذو القَلْبِ القَاسِي.قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مَنْ كَانَ مَنْطِقُهُ فِي غَيْرِ ذِكْرِ اللهِ فَقَدْ لَغَا، وَمَنْ كَانَ نَظَرُهُ فِي غَيْرِ اعْتِبَارٍ فَقَدْ سَهَا، وَمَنْ كَانَ صَمْتُهُ فِي غَيْرِ فِكْرٍ فَقَدْ لَهَى.
مَنْ كَثُرَ كلامُهُ كَثُرَ خَطؤُهُ, ومن كَثُرَ خطؤُهُ قَلَّ احترامُهُ, أحسن اختيارَ جُلَسَائِك, فإنَّكَ قد تجلس مع رويبضة وأنت لا تشعر. قد تجلس معه على فضائية أو إخبارية أو على موقعٍ على شبكة النت لساعاتٍ طويلة, فيتكلم كثيرا, ويَخلِطُ كثيرا, ويَهرِفُ بما لا يعرف, يتكلم بكلامٍ, يَضُرُّك ولا يُفيدُك, يُضلِّلُ عنك الحقائق, ويُشكِّك في عقيدتِك, ويشوِّشُ أفكارَك, ويؤثِّرُ على تفكيرِك, واتخاذِ قرارِك. قد تجلِسُ معه على صحيفةٍ ورقية أو إلكترونية فتقرأ مقالا طويلا لرجلٍ مُلَّوثِ الفكر لا تستفيد منه سوى الهمزِ واللمز, والتهويلِ والتطبيلِ, والإثارةِ والتأليب, والتشدُّقِ في الكلام, والتقعُّرِ في الألفاظ, فتَمُرُّ الأوقاتُ والنظراتُ على مقالِهِ, فيُؤثِّرُ في خَوَاطِرِكَ وأفكارِكَ ومنطقِك. وما أحسَنَ ما قيل :
وَلَاَ تَصْحَبِ الكَسْلَانَ فِي حَاجَاتِهِ كَـــــمْ صالِحٍ بِفَسادِ آخرَ يَفْسُدُ
عَدْوَى البليدِ إلى الْجـليدِ سَـريعَةٌ وَالْجَمْرُ يُوضَعُ في الرَّمَادِ فَيَخْمُدُ
هؤلاء جلساءُ سُوء, وقد قيل: الْوَحْدَةُ خَيْرٌ مِنْ جَلِيسِ السُّوءِ، فأحسِنَ اختيارَ جُلَسَائِك, فإذا رأيتَ منهم مَنْ يَخوضُ في آياتِ الله, وَيَتَّخِذُوهَا هُزُوًا, ويتكلَّمُ بِمَا يخالِفُ الحق, من تحسينِ الباطل, والدعوةِ إليه, ومدحِ أهله, وتبريرِ فعلِهِ, والإعراضِ عن الحقِّ والسنة, والقدحِ والجرحِ في سَلَفِ الأُمَّة, فَلَا تجلِس معهم, ولا تَسمَع لَهُم, ولا تقرأ لَهُم, قَالَ تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} آيةٌ واضحةُ الدِّلَالة, صريحةُ العبارة, وهي أمرٌ من اللهِ لرسولِهِ أصلَا, ولأمَّتِهِ تَبَعَا. أعوذُ باللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيم: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} ..
أخي المسلم, أيها المبارك, أحسن اختيارَ جلسائك, وخُذْ مواصَفَاتِهِم من رسولِ اللهِ r, فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ y قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ جُلَسَائِنَا خَيْرٌ؟ قَالَ: «مَنْ ذَكَّرَكُمْ بِاللَّهِ رُؤْيتَهُ، وَزَادَ فِي عِلْمِكُمْ مَنْطِقَهُ، وَذَكَّرَكُمْ بِالْآخِرَةِ عَمَلُهُ». هؤلاء هُم مَن تُجَالِس, قولُهُم فِعلُهُم حالُهُم يُذَكِّرُكَ بالله, ويُقَرِّبُكَ من الله, والمَرءُ يُصلِحُهُ الجليسُ الصَّالِحُ.
فأحسِن اختيارَ جلسائك, واعمل بوصيةِ الفاروقِ عُمَرَ t حيثُ قَالَ: «عليكَ بإخوانِ الصدقِ, فَعِشْ في أكنَافِهم، فإنَّهم زِينةٌ في الرَّخاءِ, وعُدَّةٌ في البَلاءِ، وَاحْذَرْ صَدِيقَكَ إِلَّا الْأَمِينَ، وَلا أَمِينَ إِلَّاَ مَنْ خَشِيَ اللَّهَ ولَا تَصْحَبِ الْفَاجِرَ فَيُعَلِّمَكَ مِنْ فُجُورِهِ، وَلا تُفْشِ إِلَيْهِ سِرَّكَ, فَيَفْضَحْكَ، وَاسْتَشِرْ فِي أَمْرِكَ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ اللَّهَ».
هذا وصلوا وسلموا ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق