السبت، 26 أبريل 2014

خطبة بـ عنوان: "المسلم الحق"

عباد الله, ولأنَّ دينَنَا الإسلامَ دينُ مبادئ وقِيَم, ودينُ تعامُلٍ راقي, ومَنهجٍ كامِل, فإنَّ رَسُولَ الهدى r قَالَ في الحديثِ الصحيح: «المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ».
تأملوا, كاملُ الإيمان حقيقةً هو ذاك الرجل, الذي أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ, أَمِنُوهُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ, فهو صادقٌ أمين, اتَّصَفَ بِمَا اتَّصَفَ بِهِ الرسولُ الكريمُ r من صدقٍ, حُفِظَت بِهِ الدماء, وأمانَةٍ حُفِظَت بِهَا الأموال, وهكذا المؤمنُ في مجتمعِهِ صادقٌ أمين. وكَامِلُ الإسلامِ حقيقةً هو ذاك الرجل, الذي سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ. سَلِمُوا مِنْ لِسَانِهِ, فلا يتكلَّمُ في أحد, ولا يَكذِبُ على أحد, ولا يَنُمّ, ولَا يَغتَب أحدا, ولا يبْهَتُ أحداً, ولا يَشْمَت بأحد, ولا يوشِي بأحد, سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ, وسَلِموا مِنْ يَدِهِ كذلك, فلا يُؤذ بيدِهِ أحدا, ولا يتجسس على أحد, ولا يتتبع العورات, ويتصيَّد الزلَّات, ويُشنّع بالهَفَوَات, سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ يَدِهِ, فَلَا يرتشي, ولا يرابي بأموال الناس, ولا يشهد الزور, ولا يُعَطِّلُ مصالِحَ المسلمين, ولا يستضعِف أحدا فيعتدي عليه, ولا يكون سبباً مباشراً أو غيرَ مباشِرٍ في أذيَّةِ المسلمين, بأيِّ أنواعِ الأذى, قَلَّ أو كَثُرَ, صَغُرَ أو كَبُرَ.
هذا هو مقياسُ كمال الإسلام من نقصانِهِ, فالمسلم إسلاماً كاملاً تَعْرِفُهُ في منهج تعاملِه, تَعْرِفُهُ في أخلاقِه, تَعْرِفُهُ في سلوكِه, تَعْرِفُهُ في مبادئِه, تَعْرِفُهُ في قِيَمِهِ, تَعْرِفُهُ في أفعالِه, في أقوالِه, في أحوالِه مع إخوانِهِ المسلمين, قيل: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْمُسْلِمِينَ أَسْلَمُ؟ قَالَ: «مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ». ولذلك فَلَا يُقَاسُ إسلامُ الرجلِ الحقيقيّ, ولا إيمانُهُ الكامل, بِعمْقِ تَديُّنِهِ, ولا بكثرةِ صلاتِهِ وعبادته, ولا بكثرةِ ركوعِهِ وسجودِهِ, ولا بكثرةِ علمِه, ولا بكثرةِ تَخَشُّعِهِ, ولا بكثرةِ بكائه, ولا بكثرةِ دعائِهِ, إن مظاهرَ التدينِ والعبادة في المسجد وغيرِهِ لابد أن يكون لها أثرٌ على سلوكِ العابِدِ وأخلاقِهِ, وإلَّاَ فَمَا فائدةُ كثرةِ الصلاةِ إذا لَم تَنهَه عن الفحشاءِ والمنكر؟ ما فائدةُ كثرةِ تَردُّدِهِ على المسجد إذَا لَم تُغيِّر في سلوكِهِ وتعاملاتِهِ؟ ما فائدةُ كثرةِ علمِهِ وروايتِهِ إذا لَم يَعمَل بِمَا يَعلَم؟ ويوافِق قولَهُ فِعلُهُ؟ أمانةً وصدقاً وخُلُقَاً, قيل: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْمَلُ إِيمَانًا؟ قَالَ: «أَحْسَنُهُمْ أَخْلَاقًا».
إسلامُكَ الحقيقيُّ أخي في الله, يُقاس بِحُسْنِ معامَلَتِك مع الناس, فَنَرَاكَ صادقاً, أميناً, ناصِحَاً, نَقِيَّ السريرة, صَالِحَ السيرة, صَافِيَ القلب تُحِبُّ لإخوانِكَ من الخيرِ مَا تُحبُّهُ لنفسِك, وتَكرَهُ عليهم من الشَّر مَا لا تَرضَاهُ عَلَى نفسِك, مَحبوباً, مقبولاً, مألوفاً, كَمَا قَالَ النَّبِيُّ r: الْمُؤْمِنُ يَأْلَفُ وَيُؤْلَفُ وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَأْلَفُ وَلَا يُؤْلَفُ وَخَيْرُ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ.
قَالَ الْحَسَنُ: أَيُّهَا النَّاسُ, إِنْ سَرَّكُمْ أَنْ تَسْلَمُوا وَيَسْلَمَ لَكُمْ دِينُكُمْ, فَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ عَنْ دِمَاءِ النَّاسِ, وَكُفُّوا أَلْسِنَتَكُمْ عَنْ أَعْرَاضِهِمْ, وَكُفُّوا بُطُونَكُمْ عَن أَمْوَالِهِم.
فاتقوا الله عباد الله, وسَلِّمُوا المسلمينَ مِنْ أيديكم وألسنَتِكُم وبطونِكُم, وتَرجِمُوا دينَكُم وإسلامَكُم وتَعَبُّدَكُم للهِ, أخلاقاً عاليه, وآداباً سامية, وتعامُلاً راقيا, وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا, قلوبُكُم مُتَآلِفَة, وأرواحُكُم متوالِفَة. اللهم ألِّف بينَ قلوبنا, وأصلِح ذاتَ بيننا, واهدنا سُبُلَ السّلام, وأخرجنا من الظلماتِ إلى النور, وجنبنا الفواحِشَ والفِتَن .. إلَخ
عباد الله, للأسف أُمَمُ العالَمِ صَارَت تنظُرُ للمسلمينَ على أنَّهُم متأخرونَ, أصحابُ مطامِعَ وأهواء ليسَ بينهم تراحُم, ولا تعاون, ولا تآلُف, مُتَخَلِّفونَ, مُتنافرون, مُتباغِضُون, مُتَفَرِّقون, يأكُلُ بعضُهُم بعضاً, ويَسْرِقُ بعضُهُم بعضاً, ولا يأمَنُ بعضُهُم على بَعض, ولا يَسلَمُ بعضُهُم من بعض, لِمَاذَا هذه النظرة؟ بسببِ تَصَرُّفِ بعضِ المسلمين, المسلمون ومع كونِهِم يحملونَ رسالةَ الإسلام, وهم سفراؤُهُ, وهم خيرُ مَنْ يُمثِّلُهُ, إلا أنَّك ترى في تعامُلِ البعضِ منهم إساءاتٍ وحَمَاقاتٍ وإخفافاتٍ وخياناتٍ وسرقات في واقع حياتِهِم مع بعضِهِم, فكانَت سبباً لاتهامِ الِإسلامِ كُلِّهِ, وسبباً في اتهامِ المسلمين فيُسيءُ جَهْلُ واحِدٍ لِأُمَّة, ولدينِ اللهِ الذي ارتضَاه, مع أنَّ اللهَ تعالى قَالَ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ}, وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} أي عَدْلًا خِيَاراً, فهل نَعِي هذه التزكيةَ الربانيَّةَ بالعدالَةِ والخيّريَّةِ؟ وهل نعمَلُ على المحافظةِ عليها ونشرِها وتطبيقِهَا في سُلوكِنَا, صيانةً لهَا وتعزيزاً وترسيخاً؟ هذا ما نرجوه.
ثُمَّ صَلُّوا وسَلِّمُوا رحمكم الله ..

خطبة بـ عنوان: "عمن تأخذون دينكم"

عباد الله, لَم يَعُد سراً كثرةُ الفتاوى التي انتشرت هذه الأيام في ظل هذه الطفرة التقنية، والرَّوَجِ الإعلامي, وسرعةِ تبادُلِ المعلومة. كَثُرَت الفَتَاوَى, لِكثرَةِ مَنْ يَتصدَّرُ للإفتاءِ عبرَ وسائل الإعلام عموماً, وفي الفضائياتِ بشكلٍ خَاص. كَثُرَت الفتاوى وانتشرت مَعَهَا فتاوى شاذّة, تتصادم مع الأدلةِ الشرعية, وإجماعِ أهل العلم, وما استقرَّت عَليهِ الأذهان, وسَكنَت إليهِ النفوس, واطمأنَت لَهُ القلوب, وعُبِدَ اللهَ تعالى به.
والإشكال الحقيقي هو فينا, نعم فينا, وفي تساهلنا في أخذِ الفتوى من كل أحد, ونقلِها عن كُلِّ أحدٍ دونَ تثبت أو تحقق أو تفريقٍ بين المفتي الفقيه والمفتي الواعظ والداعية ونحوهم, فليس كل من تسربل بزي أهل العلم, وتكلم بمنطقهم, وارتقى مرتقاهم, أصبح مفتيا, هذه قضية لابد أن نفقهها, نعم, ليس كل ملتزم أو متدين أو من ظهرت عليه سيما السنة والِاستقامة صار مفتيا, المسألة لها ضابطها, وإلا صارت الشريعةُ والفتوى والتوقيعُ عن الله, عِلكةً في أفواهِ المتجاسرين والمتجرئين, لابُدَّ لميدان الإفتاء من فرسان, هم مَنْ يتحمَّلُونَ ثِقَلَهَا, ويَحْمِلُونَ رَايَتَها, ويَمسِكُونَ زِمَامَهَا, فَكيفَ نعرِفُهُم وقد اختلَطَت الأورَاق؟ وتَشَابَهت الأشكال؟ وكَثُرَ المتحدثونَ في الدينِ والدعوة؟ ما صفاتُهُم؟ وأينَ نجدُهُم؟ وما مواقِعُهُم؟ المفتون الحقيقيون, هُمُ العلمَاءُ الربانيُّونَ الراسِخونَ في العلم هم فُقَهَاءُ مُتَخَصِّصون, مُتَمَرِّسونَ عَلَى الفتيا, تعرفهم أعضاءً في مجالسِ هيئة كبار العلماء, وإدارةِ البحوثِ العلميَّةِ والإفتاء. أعضاءً في الَمجالس الفقهية والعلمية. شَهِدَ لَهُم أهلُ العلم والتخصص بأنهم أهلٌ للإفتاء. دروسُهُم العلمية منتشرة، وليست محاضرات, بل دروسٌ علمية, وفَرْقٌ بين الدرسِ العلميّ, والمحاضرةِ الدينية, دروسُهُم وعاها الناس وخَبرها، وظَهَرَ لَهُم بِجَلَاءٍ, حُسْنُ الإتقان، والمهارةُ العلمية، وحضورُ الدليل، وخشيةُ الله. المفتون تجدون أسمائَهُم على أغلِفَةِ الكتبِ العلميَّةِ التي يصنفونَهَا, والتي تقوم على الوعي العلمي، والإدراكِ للواقع, واحتواءِ الجديدِ.
المفتون مُتَمَكِّنونَ في تخصصاتِهِم, أوعيتُهم علميّة, وخلفياتُهم سَلفية, وطَرْحُهُم عتيق, حُذَّقَاً في تكييفِ النوازِلِ والمستجدات وإدراكِهَا. ولا يَلزم أن يكونَ لَهُم ظهورٌ إعلامي متكرر عبر الفضائيات, أو على الصفحات الورقية أو الإلكترونية, ولا يلزم أيضاً أن يكونوا في مناصب رسمية أو أهلية أو شرفية, كلا, كم نعرف من أهلِ علمٍ وفِقهٍ أتقياءَ أخفياءَ لا يُحبون الظهور, ولا الشهرة, تعرفُهُم بإقبالِ القلوبِ عليهم, وتوافُدِ طلبةِ العلم إليهم, تمتلأُ حِلَقُهُم بالباحثينَ والمتخصصين في الشريعة, فقهُهُم رزين ونبرتُهُم متينة ولفظتُهُم دقيقة, حَازُوا الفقهَ من أطرافِهِ, فصاروا أوعيةً للعلم, ومرجِعَاً للعلماء. هؤلاء هم من يُؤخَذُ عنهُم الفتوى.
فاتقوا الله عباد الله, واحتاطوا لدينِكم, وتَحرَّوْا في عَرضِ فتواكم على المتخصصين, واعلموا, أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ، فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ.
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة .. إلَخ
عباد الله, تَثبَّتوا وتَريَّثوا, ولا تَعرِضُوا إشكاليَّاتِكُم على غيرِ المتخصصين, ولو بَلغت شهرتُهُم عَنان السماء، فقد انتشرت هذه الأيام على الساحةِ صنائِعُ شرعية, ومظاهِرُ دينية, ينبغي الِانتباهُ لها، والتريثُ قبلَ طَرحِ الفتوى عليها، مِنْ هَؤلاء على الساحةِ الدعوية :
قُرَّاءُ مَشاهير، طابَت أصواتُهُم، ولكن ليسوا بفقهاء.
ومنهم, خطباءُ حماسيون، يغارون على الإسلامِ وقضاياه, لكن هذا مُنتَهَاهُم.
ومنهم, رُقَاةٌ شرعيّون، بَرَعُوا في مَجَالِهِم، لكن لَاَ يَملِكُونَ آلَةَ الفتوى.
وأيضاً, مُفسِّرُوا أحلام، لَهُم عِلمٌ بتعبيرِ الرؤى والمنامات، وليس بالشرعيات والفقهيات. وأيضاً, مقدموا برامج دينية عَمَلُهُم دعوي ولا صلةَ لَهُم بالفقهِ الشرعي، ومسائِلِ الحلالِ والحرام. ومنهم, وعَّاظٌ مؤثرون, سَرَت بكلمَاتِهِم ومواعِظِهِم الركبانُ, شرقاً وغرباً, وُفّقُوا لهذا, فَيَحسُنُ بهم أن لا يُشْغِلُوا أنفسَهُم بالفتوى، بل يُحيلوهَا لأهلِهَا المُتقنين.
فَهَؤلَاءِ وأمثالُهُم, لَيْسُوا مِنْ المُتَخصِّصِينَ في الفَتْوَى, فَكُلُّ امرئٍ لَهُ مَجَالُهُ وتَخَصُّصُهُ, ومَنْ تَطَفَّلَ منهم عَلَى الإفتاء, كَانَ مَظنَّةَ الزَّلَل, والوقوعَ في الخطأ, وافتضاحَهُ عندَ أهلِ العلم. ورَحِمَ اللهُ الحافِظَ ابنَ حَجَر حيثُ قَالَ: وَمَنْ تَكَلَّمَ فِي غَيْرِ فَنِّه أَتَى بِالعَجَائِب.
فَاحتَاطُوا يا عبادَ الله لدينِكم, فمَا كُلُّ بَيْضَاءَ شَحْمةً, وَلَا كُلُّ سَوْداء تَمْرَةً.
اللهم صل على محمد .. إلَخ

خطبة بـ عنوان: "الفهم الشرعي لحقيقة المصائب والابتلاءات"

عباد الله, يُفسِّرُ البعضُ الِابتلاءاتِ والمصائِبَ التي تُصيبُ البعضِ بتفسيرٍ ضيّقٍ مَحدودٍ قَاصِرٍ خَاطِئ, مَبْنِيَّاً على النظرِ لأضرارِهَا ونتائِجِهَا وأثارِهَا في حينِهَا, وَلِذَا تَرَاهُم يَتسخَّطُونَ ويَتذمَّرُونَ ويَجزَعُونَ, ويَشكونَ أقدارَ الله, ولو أنَّهُم فَهِمُوا حقيقةَ هَذِهِ والنوازِلِ والمصايبِ والمعايبِ فَهْمَاً شَرّعِيَّاً, لكان خيراً لَهم وأشدَّ تثبيتاً ولكان أعظمَ أجراً وأخفَّ أثراً.
الفَهْمُ الشرعيُّ لِحقيقةِ هذِهِ الِابتلاءات, يُستَقَى من الكتابِ والسنةِ وفَهْمِ سَلَفِ الأُمَّة, فالقرآنُ يُؤصِّلُ لقضيَّةِ, أنَّ الأمرَ مفروغٌ منه, وأنَّ كُلَّ شئٍ مُقَدَّر, و{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} هَذَا جَانِب, والجانبُ الآخَرُ أنَّ مَا نَكرْهُهُ ليس شراً مَحضَاً, بل فيهِ خيرٌ, وخيرٌ كثير, ورحمةٌ مخفية, تظهَرُ ولو بعدَ حِين, قَالَ تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} نكرهه, لأنَّ عِلمَنَا قاصِر, فالظاهِرُ لنَا أنَّهُ مؤذٍ ومُضِرّ, لكنَّ اللهَ قَالَ: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} فَرُبَّ أمرٍ نتقيه, قَدْ بَدَا المكروهُ فيه, لَكن, جَرَّ أمراً نَرْتَضِيه, قَالَ تعالى: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} وعسى مِنَ اللَّهِ إِيجَابٌ, أي سيقع, فَمَا يُصيبُنا من ألآم, لِمَاذا ننظُرُ لِجَانِبِهَا السلبي؟ لِمَاذَا لا ننظُرُ إلى الجانبِ الإيمانيّ فيها أولاً؟ ثُمَّ ننظُرُ إلى الجانِبِ الإيجابي فيها, ثُمَّ نَنظُرُ إلى الجانبِ المُشرِقِ منها؟ نعم, هي مُؤلِمَة ومُوجِعَة, وفيها نَقْصٌ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ, لكن كَمَا قِيل: اِصنَع من الليمونِ شَرَاباً حُلواً, فإذا داهَمَتْكَ داهيةٌ فاعلم يقيناً أنَّ اللهَ تعالى مَا ابتلاكَ إلّا لِيَرفَعَك, وما حَرَمَكَ إلا ليُعطِيَك, وما منعَكَ إلا ليُرضِيَكَ, وما أصابَك إلا لِيُكرِمَك. قَالَ الحسن: لَاَ تَكْرَهُوا الْمُلِمَّاتِ الْوَاقِعَةَ، فَلَرُبَّ أَمْرٍ تَكْرَهُهُ, فِيهِ نَجَاتُكَ، وَلَرُبَّ أَمْرٍ تُحِبُّهُ, فِيهِ عَطَبُكَ.
عباد الله, ورسولُ اللهُr لطالَمَا أخبَرَنا أَنَّ مَا أَصَابَنَا لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَنَا، وَمَا أَخْطَأَنَا لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَنَا, وأخبرنا كذلك أنَّ هذه الِابتلاءاتِ والمصائِبَ خيرٌ للمؤمن, في أحدِ الأيامِ كَانَ r قَاعِداً مَعَ أَصْحَابِهِ فَضَحِكَ, فَقَالَ: أَلَا تَسْأَلُونِي مِمَّ أَضْحَكُ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمِمَّ تَضْحَكُ؟ قَالَ: عَجِبْتُ لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، إِنْ أَصَابَهُ مَا يُحِبُّ، حَمِدَ اللهَ وَكَانَ لَهُ خَيْرٌ، وَإِنْ أَصَابَهُ مَا يَكْرَهُ فَصَبَرَ، كَانَ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ أَمْرُهُ كُلُّهُ لَهُ خَيْرٌ إِلَّا الْمُؤْمِنُ. والسنة كذلك جاءَت لتُبَيِّنَ أنَّ هذه المصائِبَ هي كَفَّارَات, وزيادةٌ في الحسنات, ورِفعَةٌ في الدرجات, وتَخفيفٌ من عذابِ الآخرة, وفي لَحظةِ الممات, كَمَا صَحَّت بذلكم الأخبار, وتواترت الآثار. وهذا هو ما فَهِمَهُ سلفُنَا الصالِحُ, وفَسَّرُوا عليهِ حقيقةَ المصائِبِ والحوادِث والِابتلاءات, فَعَلِمُوا منها ما لَم نَعلَمْه.
فَهِمُوا من البلاءِ أنَّهُ مُقَدَّرٌ ومكتوبٌ فَسَلَّمُوا لأمرِ اللهِ ولو كَانَ فيهِ إزهاقٌ لِأرواحِهِم لَمَّا جِيءَ بسعيدِ بنِ جُبير إلى الحجَّاجِ ليقتُلَه, بَكَى رجلٌ, فَقَالَ لَهُ ابنُ جُبير: ما يُبكيك؟ قال: لِمَا أصابَك, قال سعيد: فَلَاَ تَبْكِ إذاً, لقد كَانَ في علمِ اللهِ أن يَكونَ هَذَا الأمر ثُمَّ تَلَا {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا}.
فَهِمُوا من البلاء أنَّهُ اِنتقَالٌ من حالٍ سيئَةٍ, إلى حالٍ حسنة, يَقولُ أَبُو الدَّرْدَاءِ t: أُحِبُّ الموتَ اِشتياقَاً إلى رَبّي، وأُحِبُّ الفقرَ تواضعَاً لربي، وأُحِبُّ المرضَ تَكفِيرًا لِخَطِيئَتِي.
فَهِمُوا مِنهُ أنَّهُ ثوابٌ يَستطْعِمُونَ لَذَّتَه, مَرِضَ أحدُهُم في قدمِهِ فَمَا توجَّع ومَا تأوَّه بل اِبتَسَمَ واسترجَع, فَقيلَ لَه: يُصيبُكَ هَذَا وَلا تتوجَّع؟ قَالَ: حَلاوَةُ ثوابِهِ, أنستنِي مرارةَ وَجَعِهِ
هَذَا فهمُهُم وتعامُلُهُم مع الحوادِثِ والِابتلاءاتِ, يُفكِّرونَ دائِمَاً في جَانبِهَا الإيجابيّ, فيَصبِرُونَ ويَرضَوْنَ ويُسلِّمونَ لقضاءِ اللهِ, اللَّهُمَّ إيماناً بِك, وثقةً فيك, ورجاءً منك, واعتماداً عليك, اشفِ مرضانا, وعافِي مبتلانَا, واكشف الضر, وارفع البلاءَ والوَبَاء, واملآ قلوبَنا بالصبرِ والرضا يا ربَّ العالَمين, أقولُ قولي هذا ..
عباد الله, يقولُ بعضُ السَّلف: إنَّ في العِلَلِ - أي الأمراض والأوبئة والفيروسات - لَنِعَمَاً ينبغي للعاقَلِ أن يَعلَمَهَا, تَمحيصُ الذنوب، والتعرُّضُ للثواب, والإيقاظُ من الغفلة, والتذكيرُ بنعمةِ الصحة، واستدعاءُ التوبة، والحضُّ على الصدقة. نعم, إذا حَصَلَ بلاءٌ أو حَلَّ وباءٌ لابُدَّ أن نُرَاجِعَ أنفسَنا, وعَلَاقتَها بالله, فكُلَّمَا ضَعُفَت وَفَتُرت وغَفَلنَا, أنزَلَ الله ما يُوقِظُنَا من غفلَتِنَا, ويُذكّرُنَا بِحَقِّهِ علينا, فإنَّ تُبْنَا وأنبْنَا وتذكَّرْنَا واستغفرْنا كَشَفَ اللهُ بَلاهُ مِنَّا ورَفَعَهُ عنَّا, قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ} أي من نعمةٍ وعافيةٍ فَيُزيلُهَا عنهم {حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} فَبِظُلْمِهِم وفِسْقِهِم تَحِلُّ عُقُوبَةُ اللهِ عليهم, هذه سُنَّةٌ إلهية, لا تتبدَّل ولا تتغيَّر, وليس بينَنا وبينَ اللهِ نسب, إنَّمَا هو الإيمانُ والتقوى {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ}. هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله ..

خطبة بـ عنوان: "داء الذنوب"

عباد الله, إذا مَرِضَت الأبدانُ سارعنَا إلى الأطباءِ والمصحّاتِ للعلاجِ والتداوي, وهذا أمرٌ مشروع, فقد سَألَتِ الأَعْرَابُ النبيَّ r فقالت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَاَ نَتَدَاوَى؟ قَالَ: نَعَمْ، يَا عِبَادَ اللَّهِ تَدَاوَوْا، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضَعَ لَهُ شِفَاءً، أَوْ قَالَ: دَوَاءً. لكن السؤال لماذا لا نهتم بداءِ أرواحِنَا وقلوبِنَا كاهتمامِنَا بداءِ أبدانِنا وأجسادِنا؟ إنَّ داءَ القلوبِ والأرواحِ أخْطَرُ وأفتَكُ من داءِ الأبدانِ والأجساد. هل تعلمونَ ما داءُ القلوبِ والأرواح؟ داؤُهَا الذنوب, فكيفَ مُقاومتُنا لها؟واستشفاؤُنا منها؟وتَحصينُ نفوسِنا من أذَاهَا وعَدْوَاهَا؟
سَقَامِــي مِن مقارَفةِ الخطايا       وليسَ من الزُّكَامِ ولا السُّعَالِ
نُسَائِلُ ما الدواءُ إذَا مَرِضْنَا       وداءُ القلبِ أولَـــــى بالسؤالِ
دَاؤُنَا الحقيقيُّ الذنوبُ, وضَرَرُهَا فِي الْقَلْبِ أعمقُ من ضَرَرِ السُّمُومِ فِي الْأَبْدَانِ, فبالذنبِ يُصيبُ العبدَ الحرمان, فبذنبِهِ, يُحرَمُ الرزق. ويُحرَمُ الْعِلْم. ويُحرَمُ التوفيق. ويُحرَمُ البركة, ويُحرَمُ السدادَ في الرأي, ويُحرَمُ لذَّةَ العبادة. ويُحرَمُ مناجاةَ الله. ويُحرَمُ صلاحَ الحال وهدوءَ البال. يقولُ ابْنُ عَبَّاسٍ y: إِنَّ لِلسَّيِّئَةِ سَوَادًا فِي الْوَجْهِ، وَظُلْمَةً فِي الْقَبْرِ وَالْقَلْبِ، وَوَهْنًا فِي الْبَدَنِ، وَنَقْصًا فِي الرِّزْقِ، وَبُغْضَةً فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ.
بالذنبِ تصيبُ العبدَ الوحشةُ, بينَهُ وبينَ الله, وبينَهُ وبينَ عبادِ اللهِ الصالحين, هذا الأثرُ لا يَشعُرُ بِهِ إلَّاَ المُخلِصون, ذوو القلوبِ اليَقِظَة, والضمائِرِ الحيَّة, قَالَ بعضُهُم: حُرِمتُ قيامَ الليلِ خَمسةَ أشهرٍ بذنبٍ أذنبتُهُ. وقَالَ آخر: إِنِّي لَأَعْصِي اللَّهَ فَأَرَى ذَلِكَ فِي خُلُقِ دَابَّتِي، وَامْرَأَتِي. وقَالَ آخَر: إِنِّي لأعرِفُ الذنبَ الذي حُمِّلَ به عليَّ الدينَ, قلتُ لرجلٍ منذُ أربعينَ سنةً: يا مُفلِس. هَذِهِ آثارُ الذنوب ومَنْ تدبَّرَ آيَ القرآنِ عَرَفَ ذلك, فَمَا الَّذِي أَخْرَجَ الْأَبَوَيْنِ مِنَ الْجَنَّةِ إلَّا بذنبهِمَا لَمَّا ارتكبَا ما نَهَاهُمَهَا اللهُ عنه, فأكلَاَ من الشجرةِ. وَمَا الَّذِي أَخْرَجَ إِبْلِيسَ مِنْ مَلَكُوتِ السَّمَاءِ وَطَرَدَهُ وَلَعَنَهُ إلَّا بذنبه لَمَّا عَصَى أمرَ اللهِ بالسجودِ لآدم.
عباد الله, وداءُ الذنوب, ليس ضررُهُ مقتصراً على الأفرادِ فَحسب, بل يتعدى إلى الأمم والمجتمعات والممالك, فالذنوبُ إذا انتشَرَت وعَمَّت, قَصَمَتْهَا, وبَدَّلَت حَالَهَا, وآذَنَت بخرابِهَا, ودَمَارِهَا, وتأملوا: مَا الذي أهلَكَ قومَ نوحٍ عادٍ وثمودَ ومدين؟ إلّا ذنبُ تَكذِيبِهِم الرسل. مَا الذي أهلَكَ قومَ لوط؟ إلا ذنبُ الشذوذِ واللواط وإشاعتِهِم لها. مَا الذي بَدَّلَ رخاءَ واستقرارَ وأمنَ قومِ سبأ؟ إلَّا ذنبُ كُفرِهم للنعمة, وظُلمِهم لأنفسهم, ومَعصيتِهم لربهم. مَا الَّذِي أَغْرَقَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ؟ وخَسَفَ بِقَارُونَ وَمَالِهِ؟ إلَّا ذنبُ الظلم والتكذيبِ والتكبُّرِ, وكُفْرِ المُنعِم, وكُفْرَانُ النعمة. هؤلاء أقوامٌ ذَكَرَهُم الله في كتابِهِ ثُمَّ قَالَ: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ}.
فكَمَا داءُ الذنوبِ يَضُرُّ الأفراد, فَهُوَ يُهلِكُ الأمَمَ والمجتمعات, فيُبدِّلُ النعمةَ نقمة, والبركةَ محقا, والأمنَ خوفا, والِاستقرارَ فوضى, والغنَى فَقْرَا. لَمَّا فُتِحَتْ قُبْرُصُ بَكَى أَبُو الدَّرْدَاءِ t فَقِيلَ لَه: يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ, تَبْكِي فِي يَوْمٍ أَعَزَّ اللَّهُ فِيهِ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ, فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا هَذَا, مَا أَهْوَنَ الْخَلْقَ عَلَى اللَّهِ, إِذَا أَضَاعُوا أَمْرَهُ، بَيْنَمَا هِيَ أُمَّةٌ قَاهِرَةٌ ظَاهِرَةٌ لَهُمُ الْمُلْكُ، تَرَكُوا أَمْرَ اللَّهِ فَصَارُوا إِلَى مَا تَرَى.
فَعَجَبٌ ثُمَّ عَجَبٌ لِأقوامٍ ومجتمعاتٍ وأفرادٍ يَحتمونَ من الطيباتِ مَخَافةَ السَّقَمِ والدَّاء, كيفَ لَا يَحتَمُونَ من الذنوبِ مَخافَةَ سوءِ العاقبةِ والنار؟
عَجَبٌ لِمَنْ يَحْتَمِي مِنْ الْأَطْعِمَةِ لِمَضَرَّاتِهَا، كَيْفَ لَا يَحْتَمِي مِنْ الذُّنُوبِ لِمَعَرَّاتِهَا؟
ألَا فاتقوا الله عباد الله, واحتموا من الذنوبِ كاحتمائكم من الأدواءِ والأمراض, فَمَاذَا تُفيدُ عافيةُ الأبدانِ والأجسادِ, في مَرَضِ القلوبِ والأرواح؟
اللَّهُمَّ اغْسِلْ عَنّا خَطَايَانا بِمَاءِ الثَّلْجِ وَالبَرَدِ، اللَّهُمَّ نَقِّ قلوبَنا مِنَ الخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الأَبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ, اللَّهُمَّ بَاعِدْ بيننا وبينَ خَطَايَانَا كَمَا بَاعَدتَ بينَ المَشْرِقِ والمَغْرِب..
عباد الله, ولِأنَّ داءَ الذنوبِ واردٌ علينا, وسيُصيبُنا, ولا يكادُ يسلَمُ مِنهُ أحد, فقد صَرَفَ اللهُ لنَا دواءً ناجعاً نافعاً, يَقي ويَحمي, ويَكفي ويَشفي, ألا وهو الِاستغفار قَالَ تعالى {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْيَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا}.
فَاحتَمُوا من داءِ الذنوبِ بكثرةِ الِاستغفار, وَلَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا, ولقد قَالَ النَّبِيُّ r لِأُمِّ المؤمنينَ عَائِشَةُ t في حَادثةِ الإفك, قبلَ أن تَنزِلَ براءُتها من السماء, قَالَ لَهَا: وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ، فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ، فَإِنَّ العَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ، ثُمَّ تَابَ إِلَى اللهِ, تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا وما أسررنا