عباد الله, إذا مَرِضَت الأبدانُ سارعنَا إلى الأطباءِ والمصحّاتِ للعلاجِ والتداوي, وهذا أمرٌ مشروع, فقد سَألَتِ الأَعْرَابُ النبيَّ r فقالت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَاَ نَتَدَاوَى؟ قَالَ: نَعَمْ، يَا عِبَادَ اللَّهِ تَدَاوَوْا، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضَعَ لَهُ شِفَاءً، أَوْ قَالَ: دَوَاءً. لكن السؤال لماذا لا نهتم بداءِ أرواحِنَا وقلوبِنَا كاهتمامِنَا بداءِ أبدانِنا وأجسادِنا؟ إنَّ داءَ القلوبِ والأرواحِ أخْطَرُ وأفتَكُ من داءِ الأبدانِ والأجساد. هل تعلمونَ ما داءُ القلوبِ والأرواح؟ داؤُهَا الذنوب, فكيفَ مُقاومتُنا لها؟واستشفاؤُنا منها؟وتَحصينُ نفوسِنا من أذَاهَا وعَدْوَاهَا؟
سَقَامِــي مِن مقارَفةِ الخطايا وليسَ من الزُّكَامِ ولا السُّعَالِ
نُسَائِلُ ما الدواءُ إذَا مَرِضْنَا وداءُ القلبِ أولَـــــى بالسؤالِ
دَاؤُنَا الحقيقيُّ الذنوبُ, وضَرَرُهَا فِي الْقَلْبِ أعمقُ من ضَرَرِ السُّمُومِ فِي الْأَبْدَانِ, فبالذنبِ يُصيبُ العبدَ الحرمان, فبذنبِهِ, يُحرَمُ الرزق. ويُحرَمُ الْعِلْم. ويُحرَمُ التوفيق. ويُحرَمُ البركة, ويُحرَمُ السدادَ في الرأي, ويُحرَمُ لذَّةَ العبادة. ويُحرَمُ مناجاةَ الله. ويُحرَمُ صلاحَ الحال وهدوءَ البال. يقولُ ابْنُ عَبَّاسٍ y: إِنَّ لِلسَّيِّئَةِ سَوَادًا فِي الْوَجْهِ، وَظُلْمَةً فِي الْقَبْرِ وَالْقَلْبِ، وَوَهْنًا فِي الْبَدَنِ، وَنَقْصًا فِي الرِّزْقِ، وَبُغْضَةً فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ.
بالذنبِ تصيبُ العبدَ الوحشةُ, بينَهُ وبينَ الله, وبينَهُ وبينَ عبادِ اللهِ الصالحين, هذا الأثرُ لا يَشعُرُ بِهِ إلَّاَ المُخلِصون, ذوو القلوبِ اليَقِظَة, والضمائِرِ الحيَّة, قَالَ بعضُهُم: حُرِمتُ قيامَ الليلِ خَمسةَ أشهرٍ بذنبٍ أذنبتُهُ. وقَالَ آخر: إِنِّي لَأَعْصِي اللَّهَ فَأَرَى ذَلِكَ فِي خُلُقِ دَابَّتِي، وَامْرَأَتِي. وقَالَ آخَر: إِنِّي لأعرِفُ الذنبَ الذي حُمِّلَ به عليَّ الدينَ, قلتُ لرجلٍ منذُ أربعينَ سنةً: يا مُفلِس. هَذِهِ آثارُ الذنوب ومَنْ تدبَّرَ آيَ القرآنِ عَرَفَ ذلك, فَمَا الَّذِي أَخْرَجَ الْأَبَوَيْنِ مِنَ الْجَنَّةِ إلَّا بذنبهِمَا لَمَّا ارتكبَا ما نَهَاهُمَهَا اللهُ عنه, فأكلَاَ من الشجرةِ. وَمَا الَّذِي أَخْرَجَ إِبْلِيسَ مِنْ مَلَكُوتِ السَّمَاءِ وَطَرَدَهُ وَلَعَنَهُ إلَّا بذنبه لَمَّا عَصَى أمرَ اللهِ بالسجودِ لآدم.
عباد الله, وداءُ الذنوب, ليس ضررُهُ مقتصراً على الأفرادِ فَحسب, بل يتعدى إلى الأمم والمجتمعات والممالك, فالذنوبُ إذا انتشَرَت وعَمَّت, قَصَمَتْهَا, وبَدَّلَت حَالَهَا, وآذَنَت بخرابِهَا, ودَمَارِهَا, وتأملوا: مَا الذي أهلَكَ قومَ نوحٍ عادٍ وثمودَ ومدين؟ إلّا ذنبُ تَكذِيبِهِم الرسل. مَا الذي أهلَكَ قومَ لوط؟ إلا ذنبُ الشذوذِ واللواط وإشاعتِهِم لها. مَا الذي بَدَّلَ رخاءَ واستقرارَ وأمنَ قومِ سبأ؟ إلَّا ذنبُ كُفرِهم للنعمة, وظُلمِهم لأنفسهم, ومَعصيتِهم لربهم. مَا الَّذِي أَغْرَقَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ؟ وخَسَفَ بِقَارُونَ وَمَالِهِ؟ إلَّا ذنبُ الظلم والتكذيبِ والتكبُّرِ, وكُفْرِ المُنعِم, وكُفْرَانُ النعمة. هؤلاء أقوامٌ ذَكَرَهُم الله في كتابِهِ ثُمَّ قَالَ: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ}.
فكَمَا داءُ الذنوبِ يَضُرُّ الأفراد, فَهُوَ يُهلِكُ الأمَمَ والمجتمعات, فيُبدِّلُ النعمةَ نقمة, والبركةَ محقا, والأمنَ خوفا, والِاستقرارَ فوضى, والغنَى فَقْرَا. لَمَّا فُتِحَتْ قُبْرُصُ بَكَى أَبُو الدَّرْدَاءِ t فَقِيلَ لَه: يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ, تَبْكِي فِي يَوْمٍ أَعَزَّ اللَّهُ فِيهِ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ, فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا هَذَا, مَا أَهْوَنَ الْخَلْقَ عَلَى اللَّهِ, إِذَا أَضَاعُوا أَمْرَهُ، بَيْنَمَا هِيَ أُمَّةٌ قَاهِرَةٌ ظَاهِرَةٌ لَهُمُ الْمُلْكُ، تَرَكُوا أَمْرَ اللَّهِ فَصَارُوا إِلَى مَا تَرَى.
فَعَجَبٌ ثُمَّ عَجَبٌ لِأقوامٍ ومجتمعاتٍ وأفرادٍ يَحتمونَ من الطيباتِ مَخَافةَ السَّقَمِ والدَّاء, كيفَ لَا يَحتَمُونَ من الذنوبِ مَخافَةَ سوءِ العاقبةِ والنار؟
عَجَبٌ لِمَنْ يَحْتَمِي مِنْ الْأَطْعِمَةِ لِمَضَرَّاتِهَا، كَيْفَ لَا يَحْتَمِي مِنْ الذُّنُوبِ لِمَعَرَّاتِهَا؟
ألَا فاتقوا الله عباد الله, واحتموا من الذنوبِ كاحتمائكم من الأدواءِ والأمراض, فَمَاذَا تُفيدُ عافيةُ الأبدانِ والأجسادِ, في مَرَضِ القلوبِ والأرواح؟
اللَّهُمَّ اغْسِلْ عَنّا خَطَايَانا بِمَاءِ الثَّلْجِ وَالبَرَدِ، اللَّهُمَّ نَقِّ قلوبَنا مِنَ الخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الأَبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ, اللَّهُمَّ بَاعِدْ بيننا وبينَ خَطَايَانَا كَمَا بَاعَدتَ بينَ المَشْرِقِ والمَغْرِب..
عباد الله, ولِأنَّ داءَ الذنوبِ واردٌ علينا, وسيُصيبُنا, ولا يكادُ يسلَمُ مِنهُ أحد, فقد صَرَفَ اللهُ لنَا دواءً ناجعاً نافعاً, يَقي ويَحمي, ويَكفي ويَشفي, ألا وهو الِاستغفار قَالَ تعالى {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْيَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا}.
فَاحتَمُوا من داءِ الذنوبِ بكثرةِ الِاستغفار, وَلَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا, ولقد قَالَ النَّبِيُّ r لِأُمِّ المؤمنينَ عَائِشَةُ t في حَادثةِ الإفك, قبلَ أن تَنزِلَ براءُتها من السماء, قَالَ لَهَا: وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ، فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ، فَإِنَّ العَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ، ثُمَّ تَابَ إِلَى اللهِ, تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا وما أسررنا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق