السبت، 26 أبريل 2014

خطبة بـ عنوان: "الفهم الشرعي لحقيقة المصائب والابتلاءات"

عباد الله, يُفسِّرُ البعضُ الِابتلاءاتِ والمصائِبَ التي تُصيبُ البعضِ بتفسيرٍ ضيّقٍ مَحدودٍ قَاصِرٍ خَاطِئ, مَبْنِيَّاً على النظرِ لأضرارِهَا ونتائِجِهَا وأثارِهَا في حينِهَا, وَلِذَا تَرَاهُم يَتسخَّطُونَ ويَتذمَّرُونَ ويَجزَعُونَ, ويَشكونَ أقدارَ الله, ولو أنَّهُم فَهِمُوا حقيقةَ هَذِهِ والنوازِلِ والمصايبِ والمعايبِ فَهْمَاً شَرّعِيَّاً, لكان خيراً لَهم وأشدَّ تثبيتاً ولكان أعظمَ أجراً وأخفَّ أثراً.
الفَهْمُ الشرعيُّ لِحقيقةِ هذِهِ الِابتلاءات, يُستَقَى من الكتابِ والسنةِ وفَهْمِ سَلَفِ الأُمَّة, فالقرآنُ يُؤصِّلُ لقضيَّةِ, أنَّ الأمرَ مفروغٌ منه, وأنَّ كُلَّ شئٍ مُقَدَّر, و{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} هَذَا جَانِب, والجانبُ الآخَرُ أنَّ مَا نَكرْهُهُ ليس شراً مَحضَاً, بل فيهِ خيرٌ, وخيرٌ كثير, ورحمةٌ مخفية, تظهَرُ ولو بعدَ حِين, قَالَ تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} نكرهه, لأنَّ عِلمَنَا قاصِر, فالظاهِرُ لنَا أنَّهُ مؤذٍ ومُضِرّ, لكنَّ اللهَ قَالَ: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} فَرُبَّ أمرٍ نتقيه, قَدْ بَدَا المكروهُ فيه, لَكن, جَرَّ أمراً نَرْتَضِيه, قَالَ تعالى: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} وعسى مِنَ اللَّهِ إِيجَابٌ, أي سيقع, فَمَا يُصيبُنا من ألآم, لِمَاذا ننظُرُ لِجَانِبِهَا السلبي؟ لِمَاذَا لا ننظُرُ إلى الجانبِ الإيمانيّ فيها أولاً؟ ثُمَّ ننظُرُ إلى الجانِبِ الإيجابي فيها, ثُمَّ نَنظُرُ إلى الجانبِ المُشرِقِ منها؟ نعم, هي مُؤلِمَة ومُوجِعَة, وفيها نَقْصٌ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ, لكن كَمَا قِيل: اِصنَع من الليمونِ شَرَاباً حُلواً, فإذا داهَمَتْكَ داهيةٌ فاعلم يقيناً أنَّ اللهَ تعالى مَا ابتلاكَ إلّا لِيَرفَعَك, وما حَرَمَكَ إلا ليُعطِيَك, وما منعَكَ إلا ليُرضِيَكَ, وما أصابَك إلا لِيُكرِمَك. قَالَ الحسن: لَاَ تَكْرَهُوا الْمُلِمَّاتِ الْوَاقِعَةَ، فَلَرُبَّ أَمْرٍ تَكْرَهُهُ, فِيهِ نَجَاتُكَ، وَلَرُبَّ أَمْرٍ تُحِبُّهُ, فِيهِ عَطَبُكَ.
عباد الله, ورسولُ اللهُr لطالَمَا أخبَرَنا أَنَّ مَا أَصَابَنَا لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَنَا، وَمَا أَخْطَأَنَا لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَنَا, وأخبرنا كذلك أنَّ هذه الِابتلاءاتِ والمصائِبَ خيرٌ للمؤمن, في أحدِ الأيامِ كَانَ r قَاعِداً مَعَ أَصْحَابِهِ فَضَحِكَ, فَقَالَ: أَلَا تَسْأَلُونِي مِمَّ أَضْحَكُ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمِمَّ تَضْحَكُ؟ قَالَ: عَجِبْتُ لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، إِنْ أَصَابَهُ مَا يُحِبُّ، حَمِدَ اللهَ وَكَانَ لَهُ خَيْرٌ، وَإِنْ أَصَابَهُ مَا يَكْرَهُ فَصَبَرَ، كَانَ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ أَمْرُهُ كُلُّهُ لَهُ خَيْرٌ إِلَّا الْمُؤْمِنُ. والسنة كذلك جاءَت لتُبَيِّنَ أنَّ هذه المصائِبَ هي كَفَّارَات, وزيادةٌ في الحسنات, ورِفعَةٌ في الدرجات, وتَخفيفٌ من عذابِ الآخرة, وفي لَحظةِ الممات, كَمَا صَحَّت بذلكم الأخبار, وتواترت الآثار. وهذا هو ما فَهِمَهُ سلفُنَا الصالِحُ, وفَسَّرُوا عليهِ حقيقةَ المصائِبِ والحوادِث والِابتلاءات, فَعَلِمُوا منها ما لَم نَعلَمْه.
فَهِمُوا من البلاءِ أنَّهُ مُقَدَّرٌ ومكتوبٌ فَسَلَّمُوا لأمرِ اللهِ ولو كَانَ فيهِ إزهاقٌ لِأرواحِهِم لَمَّا جِيءَ بسعيدِ بنِ جُبير إلى الحجَّاجِ ليقتُلَه, بَكَى رجلٌ, فَقَالَ لَهُ ابنُ جُبير: ما يُبكيك؟ قال: لِمَا أصابَك, قال سعيد: فَلَاَ تَبْكِ إذاً, لقد كَانَ في علمِ اللهِ أن يَكونَ هَذَا الأمر ثُمَّ تَلَا {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا}.
فَهِمُوا من البلاء أنَّهُ اِنتقَالٌ من حالٍ سيئَةٍ, إلى حالٍ حسنة, يَقولُ أَبُو الدَّرْدَاءِ t: أُحِبُّ الموتَ اِشتياقَاً إلى رَبّي، وأُحِبُّ الفقرَ تواضعَاً لربي، وأُحِبُّ المرضَ تَكفِيرًا لِخَطِيئَتِي.
فَهِمُوا مِنهُ أنَّهُ ثوابٌ يَستطْعِمُونَ لَذَّتَه, مَرِضَ أحدُهُم في قدمِهِ فَمَا توجَّع ومَا تأوَّه بل اِبتَسَمَ واسترجَع, فَقيلَ لَه: يُصيبُكَ هَذَا وَلا تتوجَّع؟ قَالَ: حَلاوَةُ ثوابِهِ, أنستنِي مرارةَ وَجَعِهِ
هَذَا فهمُهُم وتعامُلُهُم مع الحوادِثِ والِابتلاءاتِ, يُفكِّرونَ دائِمَاً في جَانبِهَا الإيجابيّ, فيَصبِرُونَ ويَرضَوْنَ ويُسلِّمونَ لقضاءِ اللهِ, اللَّهُمَّ إيماناً بِك, وثقةً فيك, ورجاءً منك, واعتماداً عليك, اشفِ مرضانا, وعافِي مبتلانَا, واكشف الضر, وارفع البلاءَ والوَبَاء, واملآ قلوبَنا بالصبرِ والرضا يا ربَّ العالَمين, أقولُ قولي هذا ..
عباد الله, يقولُ بعضُ السَّلف: إنَّ في العِلَلِ - أي الأمراض والأوبئة والفيروسات - لَنِعَمَاً ينبغي للعاقَلِ أن يَعلَمَهَا, تَمحيصُ الذنوب، والتعرُّضُ للثواب, والإيقاظُ من الغفلة, والتذكيرُ بنعمةِ الصحة، واستدعاءُ التوبة، والحضُّ على الصدقة. نعم, إذا حَصَلَ بلاءٌ أو حَلَّ وباءٌ لابُدَّ أن نُرَاجِعَ أنفسَنا, وعَلَاقتَها بالله, فكُلَّمَا ضَعُفَت وَفَتُرت وغَفَلنَا, أنزَلَ الله ما يُوقِظُنَا من غفلَتِنَا, ويُذكّرُنَا بِحَقِّهِ علينا, فإنَّ تُبْنَا وأنبْنَا وتذكَّرْنَا واستغفرْنا كَشَفَ اللهُ بَلاهُ مِنَّا ورَفَعَهُ عنَّا, قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ} أي من نعمةٍ وعافيةٍ فَيُزيلُهَا عنهم {حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} فَبِظُلْمِهِم وفِسْقِهِم تَحِلُّ عُقُوبَةُ اللهِ عليهم, هذه سُنَّةٌ إلهية, لا تتبدَّل ولا تتغيَّر, وليس بينَنا وبينَ اللهِ نسب, إنَّمَا هو الإيمانُ والتقوى {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ}. هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق