السبت، 26 أبريل 2014

خطبة بـ عنوان: "عمن تأخذون دينكم"

عباد الله, لَم يَعُد سراً كثرةُ الفتاوى التي انتشرت هذه الأيام في ظل هذه الطفرة التقنية، والرَّوَجِ الإعلامي, وسرعةِ تبادُلِ المعلومة. كَثُرَت الفَتَاوَى, لِكثرَةِ مَنْ يَتصدَّرُ للإفتاءِ عبرَ وسائل الإعلام عموماً, وفي الفضائياتِ بشكلٍ خَاص. كَثُرَت الفتاوى وانتشرت مَعَهَا فتاوى شاذّة, تتصادم مع الأدلةِ الشرعية, وإجماعِ أهل العلم, وما استقرَّت عَليهِ الأذهان, وسَكنَت إليهِ النفوس, واطمأنَت لَهُ القلوب, وعُبِدَ اللهَ تعالى به.
والإشكال الحقيقي هو فينا, نعم فينا, وفي تساهلنا في أخذِ الفتوى من كل أحد, ونقلِها عن كُلِّ أحدٍ دونَ تثبت أو تحقق أو تفريقٍ بين المفتي الفقيه والمفتي الواعظ والداعية ونحوهم, فليس كل من تسربل بزي أهل العلم, وتكلم بمنطقهم, وارتقى مرتقاهم, أصبح مفتيا, هذه قضية لابد أن نفقهها, نعم, ليس كل ملتزم أو متدين أو من ظهرت عليه سيما السنة والِاستقامة صار مفتيا, المسألة لها ضابطها, وإلا صارت الشريعةُ والفتوى والتوقيعُ عن الله, عِلكةً في أفواهِ المتجاسرين والمتجرئين, لابُدَّ لميدان الإفتاء من فرسان, هم مَنْ يتحمَّلُونَ ثِقَلَهَا, ويَحْمِلُونَ رَايَتَها, ويَمسِكُونَ زِمَامَهَا, فَكيفَ نعرِفُهُم وقد اختلَطَت الأورَاق؟ وتَشَابَهت الأشكال؟ وكَثُرَ المتحدثونَ في الدينِ والدعوة؟ ما صفاتُهُم؟ وأينَ نجدُهُم؟ وما مواقِعُهُم؟ المفتون الحقيقيون, هُمُ العلمَاءُ الربانيُّونَ الراسِخونَ في العلم هم فُقَهَاءُ مُتَخَصِّصون, مُتَمَرِّسونَ عَلَى الفتيا, تعرفهم أعضاءً في مجالسِ هيئة كبار العلماء, وإدارةِ البحوثِ العلميَّةِ والإفتاء. أعضاءً في الَمجالس الفقهية والعلمية. شَهِدَ لَهُم أهلُ العلم والتخصص بأنهم أهلٌ للإفتاء. دروسُهُم العلمية منتشرة، وليست محاضرات, بل دروسٌ علمية, وفَرْقٌ بين الدرسِ العلميّ, والمحاضرةِ الدينية, دروسُهُم وعاها الناس وخَبرها، وظَهَرَ لَهُم بِجَلَاءٍ, حُسْنُ الإتقان، والمهارةُ العلمية، وحضورُ الدليل، وخشيةُ الله. المفتون تجدون أسمائَهُم على أغلِفَةِ الكتبِ العلميَّةِ التي يصنفونَهَا, والتي تقوم على الوعي العلمي، والإدراكِ للواقع, واحتواءِ الجديدِ.
المفتون مُتَمَكِّنونَ في تخصصاتِهِم, أوعيتُهم علميّة, وخلفياتُهم سَلفية, وطَرْحُهُم عتيق, حُذَّقَاً في تكييفِ النوازِلِ والمستجدات وإدراكِهَا. ولا يَلزم أن يكونَ لَهُم ظهورٌ إعلامي متكرر عبر الفضائيات, أو على الصفحات الورقية أو الإلكترونية, ولا يلزم أيضاً أن يكونوا في مناصب رسمية أو أهلية أو شرفية, كلا, كم نعرف من أهلِ علمٍ وفِقهٍ أتقياءَ أخفياءَ لا يُحبون الظهور, ولا الشهرة, تعرفُهُم بإقبالِ القلوبِ عليهم, وتوافُدِ طلبةِ العلم إليهم, تمتلأُ حِلَقُهُم بالباحثينَ والمتخصصين في الشريعة, فقهُهُم رزين ونبرتُهُم متينة ولفظتُهُم دقيقة, حَازُوا الفقهَ من أطرافِهِ, فصاروا أوعيةً للعلم, ومرجِعَاً للعلماء. هؤلاء هم من يُؤخَذُ عنهُم الفتوى.
فاتقوا الله عباد الله, واحتاطوا لدينِكم, وتَحرَّوْا في عَرضِ فتواكم على المتخصصين, واعلموا, أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ، فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ.
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة .. إلَخ
عباد الله, تَثبَّتوا وتَريَّثوا, ولا تَعرِضُوا إشكاليَّاتِكُم على غيرِ المتخصصين, ولو بَلغت شهرتُهُم عَنان السماء، فقد انتشرت هذه الأيام على الساحةِ صنائِعُ شرعية, ومظاهِرُ دينية, ينبغي الِانتباهُ لها، والتريثُ قبلَ طَرحِ الفتوى عليها، مِنْ هَؤلاء على الساحةِ الدعوية :
قُرَّاءُ مَشاهير، طابَت أصواتُهُم، ولكن ليسوا بفقهاء.
ومنهم, خطباءُ حماسيون، يغارون على الإسلامِ وقضاياه, لكن هذا مُنتَهَاهُم.
ومنهم, رُقَاةٌ شرعيّون، بَرَعُوا في مَجَالِهِم، لكن لَاَ يَملِكُونَ آلَةَ الفتوى.
وأيضاً, مُفسِّرُوا أحلام، لَهُم عِلمٌ بتعبيرِ الرؤى والمنامات، وليس بالشرعيات والفقهيات. وأيضاً, مقدموا برامج دينية عَمَلُهُم دعوي ولا صلةَ لَهُم بالفقهِ الشرعي، ومسائِلِ الحلالِ والحرام. ومنهم, وعَّاظٌ مؤثرون, سَرَت بكلمَاتِهِم ومواعِظِهِم الركبانُ, شرقاً وغرباً, وُفّقُوا لهذا, فَيَحسُنُ بهم أن لا يُشْغِلُوا أنفسَهُم بالفتوى، بل يُحيلوهَا لأهلِهَا المُتقنين.
فَهَؤلَاءِ وأمثالُهُم, لَيْسُوا مِنْ المُتَخصِّصِينَ في الفَتْوَى, فَكُلُّ امرئٍ لَهُ مَجَالُهُ وتَخَصُّصُهُ, ومَنْ تَطَفَّلَ منهم عَلَى الإفتاء, كَانَ مَظنَّةَ الزَّلَل, والوقوعَ في الخطأ, وافتضاحَهُ عندَ أهلِ العلم. ورَحِمَ اللهُ الحافِظَ ابنَ حَجَر حيثُ قَالَ: وَمَنْ تَكَلَّمَ فِي غَيْرِ فَنِّه أَتَى بِالعَجَائِب.
فَاحتَاطُوا يا عبادَ الله لدينِكم, فمَا كُلُّ بَيْضَاءَ شَحْمةً, وَلَا كُلُّ سَوْداء تَمْرَةً.
اللهم صل على محمد .. إلَخ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق