الجمعة، 13 ديسمبر 2013

خطبة بـ عنوان: "الحب في الله والبغض في الله"

عباد الله, من أصولِ الإيمانِ عندَ أهلِ السنة, الحبُّ في الله, والبغضُ في الله, عملٌ قلبيٌّ اعتقادي, يَقوى ويزدَاد بقدرِ ما في القلبِ من إيمانٍ صادق, ويقينٍ راسخ, ففي حديثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ t, عن رَسُولِ اللَّهِ r قَالَ: «إِنَّ أَوْثَقَ عُرَى الْإِيمَانِ أَنْ تُحِبَّ فِي اللهِ، وَتُبْغِضَ فِي اللهِ». وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ t، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ r أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ، وَأَبْغَضَ لِلَّهِ، وَأَعْطَى لِلَّهِ، وَمَنَعَ لِلَّهِ فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ».
الحبُّ في اللهِ هو حُبٌّ صادقٌ يَكونُ بينَ مَنْ اجتمَعَت قلوبُهُم على الإيمانِ بِاللهِ وبرسولِهِ, هذا الحبُّ يُوَلِّدُ حلاوةَ الإيمانِ في قلوبِ المُتَحَابَّيْن, ففي الحديث: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَجِدَ طَعْمَ الْإِيمَانِ فَلْيُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ».
عباد الله, والحبُّ في الله, يكونُ بقدرِ ما في قلوبِ المؤمنين من إيمان, وما على سلوكِهِم من تقوى, وما على جوارِحِهم من طاعة قَالَ بعضُ السلف:«أَحِبَّ النَّاسَ عَلَى قَدْرِ تَقْوَاهُمْ». فالمؤمن الصادِقُ مع اللهِ يَرَى أنّ المعيارَ الحقيقي لمحبتِهِ للمؤمنين هو ما في قلوبِهِم للهِ ولدينِهِ ولرسولِهِ فيمَا يظهَرُ عليهم من نُصرَتِهِم للدين, وغَيْرَتِهِم عليه, وصدقِ إتّباعِهِم لَه, فيُحبهم ويُواليهم وينصرُهُم ويدعو لَهم, لِإيمانِهِم واستقامَتِهِم, ولا يخضَعُ هَذَا الحبُّ للمصالِحِ والمنافع. لكن في هذا الزمان اختلت عندَ بعضِ الناس الموازيينُ الدينية, والمعاييرُ الإيمانية, فَصَارَ حُبُّهم وبُغضُهُم على مقاييسِ الدنيا, وتبادلِ المصالِحِ والمنافِع, فمَن يَنفعُني في دنياي أُحِبُّه ولو كان أفسقَ فاسق, وأعصَى العصاة, ومن لا يَنفَعُني ولا أستفيدُ مِنهُ في دنياي لَاَ أُحِبُّه, ولا أهتَمُّ بِهِ, ولا ألتفِتُ لَه, ولو كَانَ رجلاً صالِحاً مصلحاً, وهذا خَلَلٌ عقائدي كبير, أنْ تدورَ المحبةُ على المصلحةِ وجوداً وعدماً, عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ t قَالَ: «أَحِبَّ لِلَّهِ، وَأَبْغِضْ لِلَّهِ، وَعَادِ فِي اللَّهِ، وَوَالِ فِي اللَّهِ، فَإِنَّهُ لَا تُنَالُ وِلَايَةُ اللَّهِ إِلَّا بِذَلِكَ، وَلَا يَجِدُ رَجُلٌ طَعْمَ الْإِيمَانِ وَإِنْ كَثُرَتْ صَلَاتُهُ وَصِيَامُهُ حَتَّى يَكُونَ كَذَلِكَ، وَقَدْ صَارَتْ مُؤاخَاةُ النَّاسِ الْيَوْمَ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا، وَذَلِكَ مَا لَا يُجْزِئُ عَنْ أَهْلِهِ شَيْئًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ». والمعنى, أنَّ كُلَّ صَدَاقَةٍ ومحبةٍ لِغَيْرِ اللَّهِ فَإِنَّهَا تَنْقَلِبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَدَاوَةً إِلَّا مَا كَانَ لِلَّهِ U فَإِنَّهُ دَائِمٌ بِدَوَامِهِ. قَالَ تَعَالَى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}.
فاتقوا الله عباد الله, وَلْنُعِدِ النظرَ في علاقاتِنَا مع بعضنا, وفيمن يستحِقُّ حُبَّنَا, ومودّتَنَا. واستمعوا رحمكم الله لهذا الأثر, عن ابنِ عُمَر t قَالَ: «واللهِ لو قُمْتُ الليلَ لَاَ أَرقُد، وَلَو صُمْتُ النَّهارَ لَاَ أُفطِر، لَحُشِرتُ يومَ القيامَةِ مَعَ مَنْ أُحِبّ». وقَالَ ابنُ مسعودٍ t: «واللهِ الذي لَاَ إلهَ إلا هُوَ لَوْ أنَّ رَجُلاً قَامَ بينَ الرُّكنِ والمقامِ يعبُدُ اللهَ سبعينَ سنةً لَبَعَثَهُ اللهُ مع مَنْ أحَبّ». فانظر يا أخي مَنْ تُحِبُّهُ؟ ومَنْ تُوَاليه؟ ومَنْ تُنَاصِرُهُ؟ ومَنْ تُزَاوِرُهُ؟ ومَنْ تَبْذُلُ لَهُ جَاهَكَ ومَالَك؟ أهو من المتقين؟ أهو من الطائعينَ لله؟ أهو من المتّبعينَ لسنةِ رسولِ الله؟ إن كان منهم فأبشِر بالخيرِ العاجِلِ والآجِل, ففي الحديث القدسي: قَالَ اللَّهُ U: «حَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلَّذِينَ يَتَحَابُّونَ مِنْ أَجْلِي، وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلَّذِينَ يَتَزَاوَرُونَ مِنْ أَجْلِي، وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلَّذِينَ يَتَنَاصَرُونَ مِنْ أَجْلِي، وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلَّذِينَ يَتَصَافَوْنَ مِنْ أَجْلِي - أَوْ قَالَ: يَتَوَاصَلُونَ مِنْ أَجْلِي - وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلَّذِينَ يَتَبَاذَلُونَ مِنْ أَجْلِي». ورُوِيَ: «لَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ، أَحَدُهُمَا بِالْمُشْرِقِ وَالْآخَرُ بِالْمَغْرِبِ، لَجَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ: هَذَا الَّذِي أَحْبَبْتَهُ فِيَّ» بل يُلحِقُ اللهُ تعالى – كرماً منه – الأدنى منهما درجةً بالأعلى درجة, ففي الأثر: «مَنْ أَحَبَّ رَجُلًا لِلَّهِ فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّكَ لِلَّهِ، فَدَخَلَا جَمِيعًا الْجَنَّةَ، فَكَانَ الَّذِي أَحَبَّ لِلَّهِ أَرْفَعَهُمَا مَنْزِلَةً، أُلْحِقَ بِهِ صَاحِبُهُ». تُلحَقُ بدرجَةِ مَنْ تُحِبُّهُ من الأتقياءِ الصالِحين.
اللهم ارزقنا حُبَّك, وحُبَّ نبيّك, وحُبَّ الصالِحينَ من عبادِك, أقول قولي ..
عباد الله, وفي المقابل, المؤمن الصادق يُبْغِضُ العُصَاةَ لله ولو كانوا أقربَ الناس, يُبْغِضُهُم لمعاصيهِم ولفسقِهِم, ولِبُعدِهِم عن اللهِ وعن طاعتِهِ, قَالَ نبيُّ اللهِ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ u: «يَا مَعْشَرَ الْحَوَارِيِّينَ، تَحَبَّبُوا إِلَى اللَّهِ ببُغْضِكُمْ أَهْلَ الْمَعَاصِي، وَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِمَا يُبَاعِدُكُمْ مِنْهُمْ، وَالْتَمِسُوا رِضَاهُ بسَخَطِهِمْ, قَالُوا: يَا رُوحَ اللَّهِ، فَمَنْ نُجَالِسُ؟ قَالَ: جَالِسُوا مَنْ يُذَكِّرُكُمْ بِاللَّهِ رُؤْيَتُهُ، وَمَنْ يَزِيدُ فِي عِلْمِكُمْ مَنْطِقُهُ، وَمَنْ يُرَغِّبُ فِي الْآخِرَةِ عَمَلُهُ».
وإذا كَانَ هَذَا البغضُ في حَقِّ العاصين المؤمنين, فكيفَ بالكافرين الأصليّين؟ ومَنْ مات على ملةِ الكفر؟ إنك لتعجَبُ حينَ تقرأ من يُمجِّدُ الكفار, ويتباكى عليهم بعدَ موتِهِم, ويُعدِّدُ مَآثرَهُم في كلماتٍ تُوحي بمودَّتِهِم ومحبتِهِم والإعجابِ بِهِم, فأين البُغضُ لله لكفرِهِم بالله؟ أين البَرَاءُ من الكفار؟ أينَ الإيمانُ الذي يُحَبِّبُّنا في المؤمنين ويُبغِّضُنَا في الكافرين؟ اعلموا أنَّهُ مهما عَمِلَ الكافرُ من عملٍ خيريّ أو تطوعِيّ أو ناضَلَ أو كافَحَ, فلن ينفعَهُ ذلك عندَ الله, قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا}. إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُدْعَانَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ, يَصِلُ الرَّحِمَ، ويَقْرِي الضَّيْفَ, وَيُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، وَيَفُكُّ الْعَانِ, وَيُحْسِنُ الْجِوَارَ, يعني كَانَ مُتَفَضِّلاً يُقَدِّمُ المعروفَ, ويَبذُلُهُ, تقولُ أمُّ المؤمنين عَائِشَةُ t: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ ذَاكَ نَافِعُهُ؟ قَالَ: «لَا, لَا يَنْفَعُهُ، إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا: رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ». فهذا دلِيلٌ عَلَى أَنَّ مِنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ لَا يَنْفَعُهُ عَمَلٌ. والأعجب حين يأتي مَنْ يترحَّمُ عليهِ بعدَ مَوتِهِ مع أنَّهُ لا يجوزُ الترحمُ عليه, ولا الدعاءُ لَهُ بالمغفرة. لأنَّهُ من أصحابِ النَّار, والدليل: من القرآن, قَالَ تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} ومن السنة: قَالَ رَسُولُ اللهِ r: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ، وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ».
فاتقوا الله عباد الله, واستكمِلُوا إيمانَكم, وحقّقوه, وأحبّوا المؤمنين المتقينَ في الله, ولله, وأبغِضُوا الكافرين والعصاة في الله, ولله, واسألوا الله الثبات على دينه حتى نلقاه.

خطبة بـ عنوان: "النية الصالحة"

عباد الله, منازلُ النعيمِ في الآخرةِ لن يَبلُغَهَا عبدٌ قَصُرَ عُمرُهُ وانقطَعَ بِهِ عملُهُ واخترمَهُ أجلُهُ أعمارُنا قصيرة وأجسادُنا ضعيفة وأعمالُنا مَهما كَثُرَت فهي قليلة لن توفي حق الله علينا لكنَّ اللهَ الرحيمَ الكريمَ لَطيفٌ ودود, فَتَحَ لنَا باباً من الخيرِ عظيم, باباً يَغْفَلُ عَنهُ النَّاس, باباً, إن لَزِمنَاهُ, وحافظنا على بقائِهِ مفتوحاً بلّغنَا اللهُ بِهِ الدرجاتِ الرفيعة, والمنازلَ المُنيفة, والمساكنَ الشريفة, {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} إنه بابُ النية الصالحة, وما يَقَعُ في نفسِكَ أيها المسلم من نيةِ الحرص على الطاعة, ونيةِ العزمِ على الخير, ونيةِ الْهَمِّ بالحسنة, هَذَا بابٌ يغفَلُ عنهُ النَّاس, فنيَّتُكَ أبلَغُ من عَمَلِك, وإن قَصُرَ عُمُرُك, يقولُ النَّبِيُّ r: «نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ» قَالُ أهلُ العلم: وَمَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ حَسَنٌ, وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ U يُخَلِّدُ الْمُؤْمِنَ فِي جَنَّتِهِ بِنِيَّتِهِ لا بِعَمَلِهِ، وَلَوْ جُزِيَ بِعَمَلِهِ؛ لَمْ يَسْتَوْجِبِ التَّخْلِيدَ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ فِي سِنِينَ مَعْدُودَةٍ، وَالْجَزَاءُ يَقَعُ بِمِثْلِهَا وَأَضْعَافِهَا، وَإِنَّمَا يُخَلِّدُهُ اللهُ U بِنِيَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ نَاوِيًا أَنْ يُطِيعَ اللهَ U أَبَدًا لَوْ أَبْقَاهُ أَبَدًا، فَلَمَّا اخْتَرَمَهُ دُونَ نِيَّتِهِ؛ جَزَاهُ عَلَيْهَا التَّخْلِيدَ أَبَدًا. اهـ
عباد الله, مِنَّا مَنْ يَنوِي الخير, لكن لا يستطيعُهُ أصلاً, فهل يفوتُهُ أجرُهُ وثوابُهُ؟ تأملوا هذه المواقف ففيها الجواب, في غزوة تبوك, جاء نفرٌ من فقراءِ الصحابةِ إلى النبيِّ r جائدين بأنفسِهِم لله, يريدونَ أن يَحمِلَهُم معَهُ إلى الجهاد, غيرَ أنَّهُ r اعتذَرَ لَهُم, لَم يجد ما يَحمِلُهُم عليه, فتولَّوُا وأعينُهُم تفيضُ من الدمعِ حَزَناً أن يتخلَّفُوا في المدينةِ عن الجهادِ مع رسول الله, فأنزَلَ الله قولَه: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} فهل فاتَهُمُ الأجر؟ هل فَاتَهُمُ الثواب؟ كلَّا, فإنَّ اللهَ المطلَّعَ على خبايا النفوس, وما تُكِنُّ الصدور, أعطاهم أجرَهُم, وأجزَلَ ثوابَهم, لنيتِهِم الصالحة, وحِرصِهِم على فعلِ الخير, والمشاركةِ فيه, ولو منعَهُم عذرُ الفقرِ أو المرض, في صحيحِ البخاري, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r لَمَّا رَجَعَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ, فَدَنَا مِنَ المَدِينَةِ, قَالَ: «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا, مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا, وَلاَ قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَ: «نَعَمْ وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ، حَبَسَهُمُ العُذْرُ». فَأَعْطَى r لِلْمَعْذُورِ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلَ مَا أَعْطَى لِلْقَوِيِّ الْعَامِلِ, لنيتِهِ المشاركةِ في الخيرِ والعملِ الصالح. فانظروا كيف أنَّ نَيَّتَهُ بَلغَت بِهِ درجةَ العاملين, قَالَ العلماء: النِّيَّةُ دُونَ الْعَمَلِ تَكُونُ طَاعَةً وفي الصحيح: «مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً».
وموقف آخر لِتَرَوْنَ أثرَ النيّة, قَالَ النبيُّ r: وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا، وَلَمْ يُؤْتِهِ مَالًا، فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ هَذَا يعني صاحبَ المال عَمِلْتُ فِيهِ مِثْلَ الَّذِي يَعْمَلُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: فَهُمَا فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ. مجرد أنَّه نوى أن يتصدَّقَ مثل ذاك الغني نَالَ مِثْلَ أجرِهِ.
فالحمدُ للهِ على فضلِهِ وإحسانِهِ مَا دُمنَا نَنوِي الخير فنحنُ في خير فلنستبشر بفضلِ الله, ورحمتِهِ, إنووا الخير, واِعزِمُوا على فعله, وباشروه, ولا تتركوه باختيارِكم بل اِحرصُوا عليهِ جُهدَكُم, فإن حَالَ دونَكَم ودونَهُ حائِل نِلْتُم ثوابَهَ وأجرَهَ, لأنكم نويتمُوه, قَالَ النَّبِيُّ r: «مَنْ أَتَى فِرَاشَهُ وَهُوَ يَنْوِي أَنْ يَقُومَ يُصَلِّيَ مِنَ اللَّيْلِ فَغَلَبَتْهُ عَيْنُهُ حَتَّى يُصْبِحَ، كُتِبَ لَهُ مَا نَوَى، وَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ».
فيا أخي المسلم, إنوِ أن تحافِظَ على الجماعة, إنوِ أن تكونَ من المتهجدين, إنوِ أن تعملَ كالمُنفقِين, إنوِ أن تكونَ كالمرابطين, المجاهدين, إنوِ أن تنصُرَ إخوانَك المظلومين, إنوِ أن تفرّجَ على المَكروبين, قَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ: أَصَابَتْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَجَاعَةٌ, فَمَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ فَقَالَ: وَدِدْتُ أَنَّ هَذَا الرَّمَلَ دَقِيقٌ لِي فَأُطْعِمُهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ, قَالَ: فَأُعْطِيَ عَلَى نِيَّتِهِ. إنوِ الخير اِستحضر النيةَ الصالحة فالنية, لا تحدُّهَا أزمنة, ولا تحولُ دونَهَا أمكنة, ولو حصل لك مانع, بلَغْتَ درجةَ العاملين بنيَّتِكَ. اللهم أصلح نياتِنا, وطهّر سرائرَنا, واجعل قلوبَنا مُقبلةً على الخير, وعَلَى مَا يُرضيك يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ, أقول قولي هذا ..
عباد الله, العادات تنقلِبُ إلى عباداتٍ نؤجَرُ عليها إذا قَرَنَّهَا بالنيةِ الصالِحة, فمثلاً, الزوجُ الذي يَقصِدُ بِجِمَاعِهِ لِامرأتِهِ أن يَعُفَّهَا ويَعُفَّ نفسَهُ ويَصونَهَا عن الحرام مأجورٌ, قَالَ المُصطَفَى r: وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيَأتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ». النفقةُ على الزوجةِ والأولاد إذا صاحبتهُ النيّةُ, واحتسبَهُ الإنسانُ عندَ الله, نَالَ عليهِ من اللهِ أجراً مضاعفاً قَالَ النبيُّ r لسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ t: «وَلَسْتَ تُنْفِقُ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ بِهَا، حَتَّى اللُّقْمَةَ تَجْعَلُهَا فِي فِي امْرَأَتِكَ».
أكلُكَ شُربُكَ حركتُكَ نومُك, إذا نويتَ بها التقوِّيَّ على طاعةِ اللهِ أُجِرتَ عليها, قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ t: «إنّي لأحتسِبُ نومتِي كَمَا أحتسِبُ قَومَتِي».
عَمَلُكَ الوظيفيُّ ودوامُكَ اليوميّ إذَا قرنته بنيةِ نفعِ عبادِ الله, ومصلحةِ الأُمّة, طلباً لمرضاةِ الله, أجرت عليه.
فاتقوا الله عباد الله, واستصحبوا النية الصالحة, لننوِ النيةَ الحسنةَ في عباداتِنَا في معاملاتِنَا، في تربيتِنَا لأولادِنا، وزياراتِنَا لأقاربِنِاَ، في عملِنَا الوظيفي، في أمورنا الدنيوية, في شغلِ أوقاتِنَا, لننوِ النيَّةَ الحسنةَ في كل دقيقةٍ نستقبِلُهَا حتى إذا حَالَ بينَنَا وبينَهَا أجلُ اللهِ المحتوم أدركنا منها بنيَّتِنَا ثوابَ اللهِ المعلوم.
فاللهم أحسِن نياتنا، وصوِّب وُجِهَاتِنَا، وأخلِص لَكَ سَرَائِرَنَا, ثم صلوا وسلموا رحمكم الله ..

خطبة بـ عنوان: "الفتنة في الدين"

عباد الله, مَنْ رَضِيَ باللهِ ربّاً, وبالإسلامِ ديناً, وبمحمدٍ نبيّاً, لن يسلَمَ الفتنةَ, قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}وأعظم الفتن الفتنة في الدين ولذا كان من دعاءِ النبيّ r المأثورِ عنه: وَلَاَ تَجْعَلْ مُصِيبَتِي فِي دِينِي. كُلُّ الفتن تهون إلَّا أن تُفتَنَ في دينِك, فيأتِي مَنْ يُسَاوِمُكَ عليه, ومَن يَضغَطُ عليك لِتَتنازَلَ عنه, ولقد قَصَّ اللهُ علينا قَصَصَ أقوامٍ فُتِنُوا في دينِهم حتى قُتلوا وحُرّقُوا وقُطِّعُوا, قَصَّهُم اللهُ علينا, لِنعلمَ عِظمَ الفتنة في الدين, وعِظَمَ ثوابِ الثباتِ فيها. من ذلك, قصةُ أصحابِ الأخدود, شعبٌ كامل فُتِنُوا في دينهم, والسبب أنهم آمنوا بالله, {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ. الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} جاء ملكُهُم الظالم, فَأَمَرَ بِالْأُخْدُودِ فِي أَفْوَاهِ السِّكَكِ، فَأُضرِمَت فيهَا النِّيرَانَ، وقال لجنودِهِ: مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ أي عن توحيدِ اللهِ فَطرَحَوهُ فِي النَّار. فطُرِحُوا فِيهَا أفراداً وجماعات وأمماً, لا يريدون أن يكفروا باللهِ, رضوا بنارِ الدنيا ولا نار الآخرة. إنها الفتنة في الدين.
ومن ذلك, ماشطةُ ابنةِ فرعون, فُتنت في دينِها, كانت تُمَشِّطُ ابْنَةَ فِرْعَوْنَ, فسَقَطَ الْمُشْطُ, فذكرت اسمَ الله, قَالَتْ: بِسْمِ اللهِ. فَقَالَتْ ابْنَةُ فِرْعَوْنَ: أَبِي؟ قَالَتْ: لَا، رَبِّي وَرَبُّ أَبِيكِ اللهُ. فأخبرت البنتُ أباها, فَدَعَاهَا، قَالَ: يَا فُلانَةُ، وَإِنَّ لَكِ رَبًّا غَيْرِي؟ قَالَتْ: نَعَمْ، رَبِّي وَرَبُّكَ اللهُ. فَأَمَرَ بِبَقَرَةٍ مِنْ نُحَاسٍ فَأُحْمِيَتْ، ثُمَّ أَمَرَ أَنْ تُلْقَى هِيَ وَأَوْلادُهَا فِيهَا، فقالت: لِي حَاجَة, أُحِبُّ أَنْ تَجْمَعَ عِظَامِي وَعِظَامَ وَلَدِي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، وَتَدْفِنَنَا. قَالَ: ذَلِكَ لَكِ. قَالَ: فَأَمَرَ بِأَوْلادِهَا فَأُلْقُوا بَيْنَ يَدَيْهَا، وَاحِدًا وَاحِدًا، إِلَى أَنِ انْتَهَى إِلَى صَبِيٍّ لَهَا مُرْضَعٍ، كَأَنَّهَا تَقَاعَسَتْ مِنْ أَجْلِهِ، فقَالَ: يَا أُمَّهْ، اقْتَحِمِي، فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، فَاقْتَحَمَتْ. إنها الفتنةُ في الدين. وقد أخبرنا النبيُّ r أنه وَجَدَ رَائِحَةً طَيِّبَةً فَقَالَ: مَا هَذِهِ الرَّائِحَةُ الطَّيِّبَةُ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذِهِ رَائِحَةُ مَاشِطَةِ بِنْتِ فِرْعَوْنَ وَأَوْلَادِهَا.
عباد الله, الفتنةُ في الدين عظيمة, ولأنَّها عظيمة, كانت سنةُ الأنبياءِ والمرسلين وأتباعِهِم الهروبَ منها, والفرارَ بدينِ الله من مواطِنِهَا, كأصحاب الكهف, اِعتزَلُوا قومَهُم لَمَّا أشركوا بالله, لِمَاذَا؟ خافوا الفتنةَ في دينهم, ولذلك ورد أنه في آخر الزمان, يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ المُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الجِبَالِ وَمَوَاقِعَ القَطْرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الفِتَنِ.
ومع هذا كُلِّهِ يأتي للأسف من يتعرَّضُ للفتنةِ في الدين, ويقتحِمُهَا بقدميه, ويخوضُ فيها, ويتلوّث بقَذَرِهَا, ويستقِي من طينتِها, تراه ينشأ في بيئةٍ إسلاميّة مِن والدين مسلمين وسط شعائر إسلامية ظاهرة, ولا يَحمدِ اللهَ على هذا, بل تراه يبحث عن ثقافات مستوردة, ويطّلعُ على عقائدَ باطلة بدعوى الِانفتاح على الآخر, أو التقارب مع الآخر, أو زيادةُ معرفة, فيقَعُ في المحذور, ويُفتَنُ في دينه عياذاً بالله, يستغل الشيطانُ ضعفَ إيمانه, وحِرصَه على الِاطلاعِ على الباطل, فيزيّنَه له, ويُحبَّبَه فيه, ولربما أُشرب حُبَّه, وأُعجبَ بِهِ, ومتابعةِ أقوالِ أهله, فينتكِس, فهذا استجلَبَ الفتنةَ لنفسه, وسَمَحَ لهَا أن تتسلَّلَ لَه, ولو أنه سَدَّ بابَها, وأغلق مجراهَا, وقطَع طريقَها, لَمَّا تأثَّر {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}.
وتأملوا قصةَ عُمَر t أَتَى عُمْرُ النبيَّ r فَقَالَ: إِنَّا نَسْمَعُ أَحَادِيثَ مِنْ يهود تُعجِبُنَا, أَفَتَرَى أَنْ نَكْتُبَ بَعْضَهَا؟ وقيل: أَتَاهُ بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقَرَأَهُ عَلَى النَّبِيِّ فَغَضِبَ r, وَقَالَ: أَمُتَهَوِّكُونَ أَنْتُمْ؟ يعني مُتَحَيِّرُونَ مُتَرَدِّدُونَ في دينِكُم, أَمُتَهَوِّكُونَ أَنْتُمْ كَمَا تَهَوَّكَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، لَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُونَهُ، أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُونَهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا، لَمَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي. هذا الكلام قالَهُ النبيُّ r لعمر, وهل أحدٌ يشك في قوةِ إيمانِ عمر, وقوةِ يقينه؟ ومع هذا كُلِّهِ, خَافَ عليه النبيُّ r أن يُفتَنَ في دينِهِ فكيفَ بغيرِهِ وبِمَنْ دونَه؟ البعضُ يَسمحُ لأولاده بالدخول لمواقع الإلحاد والكفر بالله, إلى مواقع يُتكلَّمُ فيها في ثوابت الدين وأصول الشريعة, بكل استهتار, ألا يخاف على دينهم؟ يدخلوها مؤمنين, ويتكلمون بكلمة الكفر, ولربما خرجوا منها كافرين, إنها الفتنة في الدين.
وسؤال: لِمَاذَاَ يُرسِلُ البعضُ أولادَهُ للخارج, لديار الكفر, سواءً لدراسة أو عمل ولا يهتم بدينهم, مع أنهم سيرون كنائس, وسيحتكون بنصارى ضُلَّاَل, ودعاةِ باطل, وعَبَدَةِ شيطان, ولا يهتم بتحصينهم عقائديَّاً, ألا يخافُ على دينِهِم؟ ألا يخاف على عقيدتِهِم؟ المسألة خطيرة, فلا تغفلوا عنها, ولا تتساهلوا بها, فاتقوا الله عباد الله, واحرصوا على أبنائكم وبناتكم, لا تعرضوهم للفتنةِ في دينهم, فأنتم عنهم مسئولون, وعلى تفريطكم في رعاية دينِهِم نادمون, حصّنوهم بدينِ الله, وبكتابِ الله, وأسسوا في نفوسهم مراقبةَ الله, اللهم لا تردنا على أعقابنا بعد إذ هديتنا, اللهم أحيينا مسلمين وتوفنا مسلمين, وأعذنا من الردة في الدين, اللهم قو إيماننا, وحصن أبنائنا, واغرس في قلوبهم حبَّك وحُبَّ نبيك وحُبَّ دينِك وحُبَّ كتابِك والدفاعَ عنها بكل ما أوتوا ..
عباد الله, إياكم ومواطن الفتن التي تَفتِنُ دينَكم, وتُلوّثُ صافيَ عقائدكم, وتُدنّس طاهرَ قلوبكم, وعلاقتِكم بربِّكُم, اِبتعدوا عنها, وفِرُّوا منها, ولقد قال العلماء: لا يجوز للمسلم أن يسافر إلى بلد الكفر إلا بثلاثة شروط:
الشرط الأول: أن يكون عنده علم يدفع به الشبهات؛ الكفار يفرحون باستقدام المسلمين, فيوردون عليهم الشبهة, ليبقي المسلم شاكّاً متذبذباً، فيشك في الثوابت المتيقَّنَة فيضعف إيمانُهُ ويهتز يقينُهُ, ويُسلب منه دينُهُ رويداً رويداً فلابد من علم يدفع به الشبهات
الشرط الثاني: أن يكون عنده دين يحميه من الشهوات؛ بلاد الكفر, بلاد التحرر الشهوات في المتناول، خمر، زني، لوط, شذوذ, علاقات محرمة, معاملات محرمة, فلابد أن يكون عند المسلم دين قوي قائم على مراقبة الله, يعصمه ويحميه من الشهوات.
الشرط الثالث: أن يكون محتاجاً إلى ذلك السفر؛ لمرض أو علم أو تجارة, مضطرّاً له, يضطر للسفر استشفاءً أو يضطر للسفر تعلماً أو يضطر للسفر تجارةً, فلا بأس بذلك حال قيام العلة والضرورة, مع وجود الشرطين السابقين, فإن انتفت انتفى الحكم.
وكل ذلك حتى لا نُفتَنَ في ديننا, وإيماننا بربنا, فاتقوا الله عباد الله, وحافظوا على إيمانكم بربكم, واسألوا الله الثبات عليه حتى الممات.

خطبة بـ عنوان: "الموظف الصالح"

عباد الله, من هو الموظف الصالح؟ الموظف الصالح هو من يراقب الله تعالى في وظيفته التي كلف بالعمل عليها, يراقب الله قبل أن يراقبه مديره أو مسئوله أو الناس أو الصحافة أو الإعلام, يراقب الله فيُتقن عمله, يراقب الله فيَرتقي بقدراته ومهاراته, يراقب الله فيُبدع في مجاله, يراقب الله فلا يَدع عِلةً عليه, ولا يترك مدخلاً إليه.
الموظف الصالح يسعى جاهداً بكل ما أوتي لرفعة مجتمعه وإعماره وإصلاحه وبنائه وتقدمه خدمةً لدينه, وتحملاً لمسؤوليته, واستشعاراً للأمانة التي حُمِّلَهَا, ووفاءً بالعقد الذي ألتزمه, وتحريَّاً للرزق الحلال الذي سيأخذه, لأنَّ أيَّ تقصير في وظيفته هو إخلالٌ بالعقد, وتفريطٌ في الأمانة, والله تعالى سائله عمَّا أخذه مقابلَ عملِهِ.
الموظف الصالح قوي أمين قويٌّ في عمله أمينٌ على ما تحتَ يدِهِ لا يُقصّر ولا يَخون ولا يستغل وظيفته لأجلِ تحقيقِ مصلحةٍ له أو لمعارِفِهِ, دونَ مسوَّغٍ شرعي أو قانوني. قَالَ النبيُّ r: مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فَرَزَقْنَاهُ رِزْقًا، فَمَا أَخَذَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ غُلُولٌ.
الموظف الصالح لا يكونُ سببَ تأخُّرٍ لوطنِهِ أو مِعولَ هدمِ لكيان دولَتِهِ أو لَبِنَةً فاسدةً في بناءِ مجتمعِهِ, تُجرثِمُ ما جاورَهَا, فيستشرِي داؤُهَا, ويتعسَّرُ علاجُهَا.
الموظف الصالح يبرأ إلى الله من خيانةِ الأمانة, وخُبثِ الكسب, ونقضِ العقد, والتحايلِ على المسئولين, لا تغره المناصب, ولا تفسده الأموالُ والرواتب.
وإنَّ لنا في السلفِ الصالِحِ خيرَ مثالٍ يُحتذى, وخيرَ خبرٍ يُحتفى, دعا أميرُ المؤمنين عمرُ t سَعِيدَ بْنَ عَامِرٍ الْجُمَحِيِّ إلى مؤازرته وقال: يا سعيد, إنَّا مُولوك على أهلِ حمص, فقال سعيد: يا عمر, ناشدتك الله ألا تفتنَنِي. فَغَضِبَ عُمرُ وقال: ويحكم وضعتم هذا الأمر في عنقي ثم تخليتم عني والله لا أدعك. ثم ولاه على حمص. ثم مضى سعيد إلى حمص وبعد فترة, وَفِدَ على أميرِ المؤمنين بعضُ مَنْ يَثِقُ بِهِم من أهلِ حمص فقال لَهم: اكتبوا لي أسماءَ فقرائِكم حتى أسُدَّ حاجتَهُم، فرفعوا كتابًا فإذا فيه: فلان وفلان وسعيدُ بن عامر، فقال: ومن سعيد بن عامر؟ فقالوا: أميرُنا. قال: أميرُكُم فقير؟ قالوا: نعم ووالله إنه ليمر عليه الأيام الطوال ولا يوقد في بيته نار، فبكى عمر حتى بللت دموعُهُ لحيتَه. ولم يمض على ذلك وقتٌ طويل حتى أتى عمرُ t ديارَ الشام يتفقد أحوالها فلما نزل بحمص لقيه أهلُها للسلام عليه. فقال: كيف وجدتم أميرَكم؟ قالوا نِعم الأميرُ يا عمر إلا ثلاث فِعَال, لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار وإنه لا يجيب أحداً بليل وإنه تُصيبُهُ من حين إلى آخر غَشية فيغيب عَمَّن في مجلسه قال عمر: اللهم لا تخيب ظني فيه وجمعهم به ثم قال: ما تشكون من أميرِكم؟ قالوا: لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار. فقال عمر: ما تقول في ذلك يا سعيد؟ فَسَكَت قليلاً ثم قال: والله إني كنتُ أكرهُ أن أقولَ ذلك، أما وإنه لا بد منه، فإنه ليس لأهلي خادم، فأقوم في كل صباح فأعجن لَهم عجينَهُم، ثم أتريَّثُ قليلاً حتى يختمِر ثم أخبزُهُ لَهم، ثم أتوضأ وأخرج للناس. قال عمر: وما تشكون منه أيضًا؟ قالوا: إنه لا يجيب أحداً بليل. قال عمر: وما تقول في ذلك يا سعيد؟ قال: إني والله كنت أكره أن أعلن هذا أيضًا. فإنِّي قد جعلتُ النهار لَهم ولربي الليل. ثم قال عمر: وما تشكون منه أيضا؟ قالوا: تصيبه من حين إلى آخر غشية فيغيب عمن في مجلسه, قال عمر: وما هذا ياسعيد؟ فقال: شهدت مصرع خُبيب بن عَدي وأنا مشرك، ورأيت قريش تقطع جسده وهي تقول: أتحب أن يكون محمد مكانك؟ فيقول: والله ما أحب أن أكون آمنا في أهلي وولدي، وأن محمدًا تشوكه شوكة. وإني والله ما ذكرت ذلك اليوم وكيف أني تركت نصرته إلا ظننت أن الله لا يغفر لي. وأصابتني تلك الغشية عند ذلك قال عمر: الحمد لله الذي لَم يخيب ظني فيك.
هكذا يكون تحمل المسئولية, وهكذا تؤدى الأمانة, ووالله لقد أتعبوا من بعدهم, اللهم وفقنا لخدمة ديننا, واقبل أعمالنا, وانفع بنا الإسلام والمسلمين, وتجاوز عن تقصيرنا وهفواتنا يا أرحم الراحمين.
عباد الله, أغلب مظاهر الفساد الإداري والمالي والإنشائي والتربوي, سببها الموظفون الفاسدون, الذين لا يأبهون بتقصيرهم, ولا يبالون بنقدهم, ولا يتحملون مسؤولياتهم, ولا يراقبون الله في أعمالِهِم, همُّهُم نهايةُ الشهر أن يقبضوا مرتباتِهِم, ولربما أكلوا عليها ما أكلوا من رشاوى وعمولات, ولا عليهم بما قدموه لمجتمعهم, وما دروا أنهم سبب الفساد, والتأخر, وعدم التطور, والِارتقاء بالمجتمع وخدماته إلى الأفضل. فإذا وقعت مصيبة أو كارثة تنصلوا عن المسئولية وولولو مع الناس, وناحوا مع النائحين, حتى يخيل للسامع أنه لا ذنب لهم, كقصة المصحف الذي سُرِقَ في مجلسِ مالك بن دينار رحمه الله, كان مالك بن دينار في درسه يعظ الناس, وهم يبكون من حوله, فالتفت الى مصحفه فلم يجده, فالتفت للناس فإذا هم يبكون, فقال لَهُم: ويْحَكُم, كلُّكُم يبكي. فمَن سَرَقَ المصحف؟ ويحَكُم, كلُّكُم يبكِي. فَمَنْ سَرَقَ المصحف؟
فاتقوا الله عباد الله, وراقبوا الله فيما تأتون وما تذرون, راقبوا الله فيما تتولون من مهام ومسئوليات وأعمال, وأحسنوا فيها, إنَّ اللهَ يحب المحسنين.

خطبة بـ عنوان: "ظلم العمال"

عباد الله, دائماً ومع بدايةِ كل عام هجري, يسألُ المخلصونَ ربَّهُم أن يُصلِحَ أحوالَهُم, ويُحسِّنَ مَعَاشَهُم, ويَقضِيَ حوائِجَهُم, ليكونَ عامُهُم الجديدُ, خيراً من عامِهِم الماضي, واللهُ تعالى حكيمٌ سميعٌ مجيب, يستجيبُ الدعاءَ ويحقّقُ الرجاء, لكن هناك ما يحولُ بين صلاحِ أحوالِنا, واستقرارِ أمننا, وسلامةِ مجتمعنا, وبينَ إجابةِ اللهِ لدعائِنَا, أمرٌ هو سببٌ في تأخُّرِ الإجابة, وعدمِ تغيُّرِ الحالِ إلى الأحسن إنه أمرٌ قد يكونُ بعضُنا سبباً فيه, أو يشتركُ بعضُنا فيه بطريقٍ مباشرٍ أو غيرِ مباشر, إنه ظُلمُ العمّالِ والخَدَمِ والمُستخدَمين.
عباد الله, إنَّ اللهَ تعالى حَرَّمَ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِهِ وَحَرَّمَهُ عَلَى عِبَادِهِ, وَلَمَّا حَرَّمَ علينا دماءَ بعضِنَا فهي حرام علينا, فكذلك أموالُنا حرامٌ علينا كحُرمةِ دمائِنا, ومع هذا تَرَى بين الناس وللأسف مَنْ يَظلِمُ العُمَّال, ترى مَنْ يَستَخدِمُهُم ولا يُوفيهِم حَقَّهُم, تَرَى من يتفِقُ مَعَهُم ولا يَفِي بعهدِهِ, تَرَى من يستقدِمُهُم ولا يَصرِفُ مستحقاتِهِم, ولا يأبَهُ بِحَالِهِم, وهَذَا أكلٌ لِحقِهِم, وأكلٌ لأموالِهِم بالباطل, وظلمٌ, والوعيدُ عليهِ شديد, واستمعوا لَهُ من فَمِ النبيِّ r حيثُ قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ كُنْتُ خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ، رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ. هؤلاء الثلاثة لَم يَقدُرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ, رَجُلٌ أَعْطَى بِي أي عاهَدَ بسمِ اللهِ وحَلَفَ بِهِ ثُمَّ غَدَرَ، أي نَقَضَ العَهد ولَم يَفِ بِهِ, ولَم يَبِر بقسمِهِ. اللهُ خَصْمُهُ يومَ القيامة. وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا وهو يَعلَمُ أنَّهُ حُرٌّ فَأَكَلَ ثَمَنَهُ. اللهُ خَصْمُهُ يومَ القيامة. وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا عاملا عنده فَاسْتَوْفَى مِنْهُ يعني العمل الذي استأجَرَهُ من أجله, وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ. هذا هو الشاهد. مَنْ اسْتَأْجَرَ عامِلاً عندَهُ فأدَّى العملَ المكلَّفَ بِهِ وأكَلَ صاحبُ العملِ مَالَهُ وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ. اللهُ Y خَصْمُهُ يومَ القيامة. سيُخاصِمُ اللهَ تعالى.
هل استحضرنا هذا الوعيدَ الشديد؟ مهما كانت الأموالُ فتنة, ومهما كانت الأموالُ مغرية, ومهما كان حُبُّهَا شديدا, إلّا أنَّ أكلَها بهذا الوجه أكلٌ بالباطل, ومَنْ يَفعلُهُ اللهُ خَصْمُهُ يومَ القيامة. قَالَ الله: وَمَنْ كُنْتُ خَصمَهُ خَصَمْتُهُ. فالأمرُ خطير, والواقِعُ مُحزِن, فالتساهُلُ موجود, والظلمُ موجود, واللهُ خَصْمٌ لِجَمِيعِ الظَّالِمِينَ, وسيدافع عن العمَّالِ الضعفاء, ومَنْ يأتونَ للعملِ وتُؤكَلُ حقوقُهُم, اللهُ سيُدَافِعُ عَنهم, وسيُخَاصِمُ مَنْ بَغَى عليهم, وظَلَمَهُم. فليتقِ اللهَ أصحابَ المؤسساتِ والشركات, ولا يأكلوا حقوقَ عُمَّالِهِم, ويماطلوا برواتِبِهِم, ويتلاعبوا بكَدِّهِم وتَعبِهِم وعَرَقِهِم غيرَ آبهين بقولِ النبي r: أَعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ. فكيفَ بمن يُماطِلُ حقوقَ العمّالِ شهوراً عديدة؟ ألا يخشى دعوتَهُم عليه؟ ألا يخافُ مخاصمةَ اللهِ لَه؟ ألا يعلمُ أنَّهُ بهذا الفعلِ المشين يَدفَعُهُم إلى الإضرارِ بأمنِ البلادِ وسَلَامةِ المجتمعِ وصحةِ بيئَتِهِ؟ وأنَّهُ يَدفعُهُم للكسبِ الحرام والخيانةِ والتحايلِ على الأنظمة؟ ألا يعلم هَذَا الظالِمُ الجاهِل أنَّ الأيامَ دُوَل؟ وغِيَرَ الأيامِ آتية؟ والنِقَمَ مفاجِئَة؟ العاملُ ضعيفٌ غريبٌ لا يستطيعُ أن يَشتكيَ أو يَرفع دعوى, وإن ادعى فقَلَّ مَنْ يَنصُرُه, وقَلَّ مَنْ يُنصِفُه, بل قَلَّ مَنْ يُصدِّقُهُ, ولأجل ذلك كان اللهُ العظيمُ في عليائه خصيماً عنه.
فاتقوا الله عباد الله ولنتعاون جميعاً في مناصحةِ من يظلم العمال ومن يَستقدِمُهُم للعملِ, ثم يُهمِلُهُم, ولا يوفِيهم حقَّهُم, لا ترضوا بظلمهم هذا, وتسكتوا عنه, فواللهِ إن شؤمَ ظلمِهِم, وأكلِهِمِ لأموالِ عمالِهِم, على المجتمعِ كُلِّهِ. قَالَ النَّبِيُّ r: لَا قَدَّسَ اللَّهُ أُمَّةً لَا يَأْخُذً الْمَظْلُومُ حَقَّهُ مِنَ الظَّالِمِ، غَيْرَ مُتَعْتَعٍ. أثرُ ظُلمِ الظالِمِ ليسَ فقط على نفسِهِ وإنما يتعدّى أثرُهُ ليَعُمَّ المجتمعَ بِرُمَّتِهِ {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً}. فَخَوِّفُوا مَنْ تَعرفون مِنْ أصحابِ المؤسساتِ والشركاتِ, مِمَّن يَظلِمُ عُمَّالَهُ, خَوّفوهُ بالله, وناصِحُوهُ, وذكروهُ أنَّ بَخْسَ الحقوقِ وأكلَهَا إفسادٌ في الأرض, قَالَ تعالى: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} ذَكِّرُوهُ أنَّ الذي يَأكُلُ أموالَ النَّاسِ بالباطِلِ فهو يَقتُلُ نفسَهُ قبلَ موته, قَالَ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} أَيْ: بِارْتِكَابِ الُمحَرَّمِ وَأَكْلِ أَمْوَالِكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ.
أسألُ اللهَ العليَّ العظيمَ أن يُجنّبَنَا وإيّاكُم الظلمَ بسائِرِ صورِهِ وأشكالِهِ، اللهم اكفنا ظُلمَ الظالمين, اللهم اكفنا أن يَطالُبَنَا أحدٌ من خلقِك بشيءٍ ظلمناهُ فيه ..
عباد الله في الحديثِ الصحيح قَالَ النبيُّ r: أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ صِيَامُ شَهْرِ اللَّهِ الْمُحَرَّمِ. كَانَ r يَتَحرّى صيامَ هذا الشهرِ خصوصاً العاشِرَ مِنهُ المُسمَّى عاشوراء, وأصلُهُ, أنَّهُ r لَمَّا قَدِمَ المدينةَ رَأَى الْيَهُودَ تَصُومُهُ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ, نَجَّى اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ فَصَامَهُ مُوسَى شُكْرَاً لِلَّهِ. فَقَالَ r: أَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ. وَسُئِلَ r عَنْ صَوْمِهِ فَقَالَ: يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ. فلنبادر إلى فضل الله تعالى وثوابِهِ, ولنصم عاشوراء الذي يوافق هذا العام الخميسَ القادم, وصوموا يَوماً قبلَهُ أو يَوماً بعدَهُ, فَقَد عَزَمَ النبيُّ r أن لَا يَصومَهُ مُفرَدَاً مخالفةً لِأهلِ الكتابِ فَقَالَ: إِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ قَالَ الراوي: فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَتَّى تُوُفِّيَ r
فاستعينُوا باللهِ على طاعتِه, واسألوه التوفيقَ لمرضاتِه.

الجمعة، 27 سبتمبر 2013

خطبة بـ عنوان: "ذكر الله حصن المسلم"

عباد الله, ذكر الله تعالى حِصنُ المسلم, ذِكْرُ اللهِ تعالى حِرزٌ وحِصنٌ من الشيطان الرجيم, قَالَ النبيُّ الصادِقُ r: وَآمُرُكُمْ أَنْ تَذْكُرُوا اللَّهَ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ خَرَجَ العَدُوُّ فِي أَثَرِهِ سِرَاعًا حَتَّى إِذَا أَتَى عَلَى حِصْنٍ حَصِينٍ فَأَحْرَزَ نَفْسَهُ مِنْهُمْ كَذَلِكَ العَبْدُ لَا يُحْرِزُ نَفْسَهُ مِنَ الشَّيْطَانِ إِلَّا بِذِكْرِ اللَّهِ.
عباد الله, اِسمعوا هَذِهِ العبارة "إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الكُرْسِيِّ حَتَّى تَخْتِمَهَا فَإِنَّكَ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ وَلاَ يَقْرَبَنَّكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ"من قائلُ هذا الكلام؟ كَلَامُ مَنْ هَذَا يا عباد الله؟ إنَّهُ كلامُ الشيطان عدُّوُنا الأزليُّ الأبديُّ قالَهَا لِأَبِي هُرَيْرَة t ونَقَلَهَا أَبُو هُرَيْرَةَ إلى النبيِّ r فَقَالَ r: صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ.
عباد الله, بذكرِ اللهِ يندَحِرُ الشيطان, بذكرِ اللهِ يَهرُب الشيطان, بذكرِ اللهِ يَصغُر الشيطان قَالَ ابنُ عباسٍ t: الشَّيْطَانُ جَاثِمٌ عَلَى قَلْبِ ابْنِ آدَمَ، فَإِذَا سَهَا وَغَفَلَ وَسْوَسَ، وَإِذَا ذَكَرَ اللَّهَ خَنَسَ. أي تراجَع وتَصَاغر.
عَثَرَت دَابَةٌ بالنبيِّ r ورَجُلٍ فَقَالَ الرجلُ: تَعِس الشَّيْطَانُ. فَقَالَ r: لَا تَقُلْ: تَعِسَ الشَّيْطَانُ فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ تَعِسَ الشَّيْطَانُ تَعَاظَمَ حتى يَكونَ مِثلَ البيت وفي لفظ: مِثْلَ الجَبَل, وَقَالَ: بِقُوَّتِي صَرَعْتُهُ، لكن قُلْ: بِسْمِ اللَّهِ, فإنَّهُ يَتَصَاغَرُ حَتَّى يَصِيرَ مِثْلَ الذُّبَابِ.
قَالَ الحافِظُ ابنُ كثير رحمه الله: وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْقَلْبَ مَتَى ذَكَرَ اللَّهَ تَصَاغَرَ الشَّيْطَانُ وغُلِب, وَإِنْ لَمْ يُذْكَرِ اللَّهَ تَعَاظَمَ وَغَلَبَ.
وقال العلَّامَةُ ابنُ القيّم: وَبِالذِّكْرِ: يَصْرَعُ الْعَبْدُ الشَّيْطَانَ كَمَا يَصْرَعُ الشَّيْطَانُ أَهْلَ الْغَفْلَةِ وَالنِّسْيَانِ. وعن بعضِ السلف: إذا تَمَكَّنَ الذكْرُ من قلبِ الإنسي صَرَعَ كُلَّ شيطانٍ يَدنو مِنه, فيَجتمِعُ الشياطينُ عَلَى الشيطانِ المصروع, فيقولون: ما لهذا؟ فيُقال: قد مسَّهُ الِإنسيّ. أي صَرَعَهُ بذكرِ الله.
وفي المقابل قَالَ تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} قَرِينٌ يُشَارِكُ ويُقلِقُ ويؤذي جسدياً وروحيّاً ويُزعِجُ في اليقظةِ والمنام, في الخلوةِ والجلوة, في الِاجتماع والوحدة, فمَنْ غَفَلَ عن ذكرِ اللهِ حَضَرَ الشيطانُ, وخذوا مثالاً على حضورِ الشياطين إذا غفل العبدُ عن الذكر, ففي الحديثِ الصحيح: إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ، فَذَكَرَ اللهَ عِنْدَ دُخُولِهِ وَعِنْدَ طَعَامِهِ، قَالَ الشَّيْطَانُ أي لِرِفَاقِهِ وأعوَانِهِ: لَا مَبِيتَ لَكُمْ وَلَا عَشَاءَ .. خلاص لا سبيلَ لدخولِهِم, لأنَّ الداخِلَ ذَكَرَ اللهَ عِندَ دخولِهِ قَالَ: وَإِذَا دَخَلَ فَلَمْ يَذْكُرِ اللهَ عِنْدَ دُخُولِهِ قَالَ الشَّيْطَانُ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ وَإِذَا لَمْ يَذْكُرِ اللهَ عِنْدَ طَعَامِهِ قَالَ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ وَالْعَشَاءَ.
ولك أن تتصوَّرَ إذا دَخَلَ الشيطانُ بيتَك, وتَغَذَّى من طعامِك, وظَلَّ يُرَاقِبُ تَصرُّفَاتِك, ويستغِلُّ الفرصَ في إيذائِك وإغوائِك, أنتَ وأهلَ بيتِك ما النتيجة؟
وكذلك في الخروجِ من المنزل, كَمَا في الحديثِ الصحيح:  مَنْ قَالَ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ: بِسْمِ اللَّهِ، تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، يُقَالُ لَهُ: كُفِيتَ، وَوُقِيتَ، وَتَنَحَّى عَنْهُ الشَّيْطَانُ. وفي رواية: فَيَلْقَى الشَّيْطَانُ الشَّيْطَانَ، فَيَقُولُ لَهُ: كَيْفَ لَكَ بِرَجُلٍ قَدْ هُدِيَ وَوُقِيَ وَكُفِيَ؟
ألَا فَلَا تغفلوا يا حَمَاكُم اللهُ, لا تغفلوا عن ذكرِ اللهِ, وَلَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ, فالغفلةُ عن ذكرِ اللهِ ثغرةٌ تَلِجُ مِنهَا الشياطينُ, فتؤذي وتَضُرّ, وَتأمَّلُوا حَالَ المسحورين والممسُوسين والمعيونين وما أصابهم, الوقايةُ خيرٌ من العلاج, فعليكم بالحصونِ الأمينة, والحروزِ المكينة, بذكرِ اللهِ بأنواعه, أذكارِ الصباح والمساء, أذكارِ دخولِ المنزل والخروج منه, أذكارِ النوم والِاستيقاظ, أذكارِ دخولِ الخلاء والخروج منه, أذكارِ الأكل والشرب, اِحفظوها وحَفّظوها أهليكم, لِتسلَمُوا من الشياطين, فلن يَعصِمَكُم مِنهَا إلّا رَبُّهَا وخالِقُها, قَالَ بعضُ السلفِ لطالبِهِ: مَا تصنَعُ بالشيطانِ إذَا سَوَّلَ لك الخطايا؟ قَالَ: أجاهده. قَالَ: فَإِن عادَ؟ قَالَ: أجاهده قَالَ: فَإِن عاد؟ قَالَ: أجاهده. قَالَ: هَذَا يطول, أرأيتَ إن مَررْتَ بِغَنَمٍ فنبَحَكَ كَلبُهَا أَوْ مَنَعَكَ من العبورِ مَا تصنع؟ قَالَ: أكابِدُهُ وأردُّهُ جَهدي, قَالَ: هَذَا يَطولُ عليكَ يا بُنَيّ, ولكن اِستَعَن بصاحِبِ الغَنَمِ يَكُفُّهُ عنك. فلنستعِذْ باللهِ تعالى من الشياطينِ وشرِّهَا وكيدِهَا.
{وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ. وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ}.
اللهم أعذنا من الشيطان الرجيم وكيده وشرّه, اللهم احفظنا وأهلينا ..
أيها الأب الكريم, ذكرُ اللهِ سلاحُكَ القويُّ, ودِرعُكَ الواقي الذي تُلبِسُهُ أولادَك وأهلَك حينَ خروجِهِم من البيت, هل جلستَ مع أبنائِك وبناتِك قبلَ خروجِهِم لمدارِسِهِم وأعمالِهِم فقرأتم سوياً أذكارَ الصباح؟ لا تأخُذُ مِنكم سوى ثلاثَ إلى أربع دقائق فقط. هل فعلتُم ذلك؟ هل تجتمع معهم قبلَ المغرب وتقولون أذكار المساء؟
عملٌ يسير لكن أثره على الواقع كبير وعظيم.
فلا تغفل عن هذا العملِ اليسيرِ كُلَّ يومٍ وليلة, فَهُوَ حِصنُهُم وحِرزُهُم من شياطينِ الإنسِ والجنّ.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ .. إلخ