الجمعة، 13 ديسمبر 2013

خطبة بـ عنوان: "الفتنة في الدين"

عباد الله, مَنْ رَضِيَ باللهِ ربّاً, وبالإسلامِ ديناً, وبمحمدٍ نبيّاً, لن يسلَمَ الفتنةَ, قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}وأعظم الفتن الفتنة في الدين ولذا كان من دعاءِ النبيّ r المأثورِ عنه: وَلَاَ تَجْعَلْ مُصِيبَتِي فِي دِينِي. كُلُّ الفتن تهون إلَّا أن تُفتَنَ في دينِك, فيأتِي مَنْ يُسَاوِمُكَ عليه, ومَن يَضغَطُ عليك لِتَتنازَلَ عنه, ولقد قَصَّ اللهُ علينا قَصَصَ أقوامٍ فُتِنُوا في دينِهم حتى قُتلوا وحُرّقُوا وقُطِّعُوا, قَصَّهُم اللهُ علينا, لِنعلمَ عِظمَ الفتنة في الدين, وعِظَمَ ثوابِ الثباتِ فيها. من ذلك, قصةُ أصحابِ الأخدود, شعبٌ كامل فُتِنُوا في دينهم, والسبب أنهم آمنوا بالله, {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ. الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} جاء ملكُهُم الظالم, فَأَمَرَ بِالْأُخْدُودِ فِي أَفْوَاهِ السِّكَكِ، فَأُضرِمَت فيهَا النِّيرَانَ، وقال لجنودِهِ: مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ أي عن توحيدِ اللهِ فَطرَحَوهُ فِي النَّار. فطُرِحُوا فِيهَا أفراداً وجماعات وأمماً, لا يريدون أن يكفروا باللهِ, رضوا بنارِ الدنيا ولا نار الآخرة. إنها الفتنة في الدين.
ومن ذلك, ماشطةُ ابنةِ فرعون, فُتنت في دينِها, كانت تُمَشِّطُ ابْنَةَ فِرْعَوْنَ, فسَقَطَ الْمُشْطُ, فذكرت اسمَ الله, قَالَتْ: بِسْمِ اللهِ. فَقَالَتْ ابْنَةُ فِرْعَوْنَ: أَبِي؟ قَالَتْ: لَا، رَبِّي وَرَبُّ أَبِيكِ اللهُ. فأخبرت البنتُ أباها, فَدَعَاهَا، قَالَ: يَا فُلانَةُ، وَإِنَّ لَكِ رَبًّا غَيْرِي؟ قَالَتْ: نَعَمْ، رَبِّي وَرَبُّكَ اللهُ. فَأَمَرَ بِبَقَرَةٍ مِنْ نُحَاسٍ فَأُحْمِيَتْ، ثُمَّ أَمَرَ أَنْ تُلْقَى هِيَ وَأَوْلادُهَا فِيهَا، فقالت: لِي حَاجَة, أُحِبُّ أَنْ تَجْمَعَ عِظَامِي وَعِظَامَ وَلَدِي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، وَتَدْفِنَنَا. قَالَ: ذَلِكَ لَكِ. قَالَ: فَأَمَرَ بِأَوْلادِهَا فَأُلْقُوا بَيْنَ يَدَيْهَا، وَاحِدًا وَاحِدًا، إِلَى أَنِ انْتَهَى إِلَى صَبِيٍّ لَهَا مُرْضَعٍ، كَأَنَّهَا تَقَاعَسَتْ مِنْ أَجْلِهِ، فقَالَ: يَا أُمَّهْ، اقْتَحِمِي، فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، فَاقْتَحَمَتْ. إنها الفتنةُ في الدين. وقد أخبرنا النبيُّ r أنه وَجَدَ رَائِحَةً طَيِّبَةً فَقَالَ: مَا هَذِهِ الرَّائِحَةُ الطَّيِّبَةُ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذِهِ رَائِحَةُ مَاشِطَةِ بِنْتِ فِرْعَوْنَ وَأَوْلَادِهَا.
عباد الله, الفتنةُ في الدين عظيمة, ولأنَّها عظيمة, كانت سنةُ الأنبياءِ والمرسلين وأتباعِهِم الهروبَ منها, والفرارَ بدينِ الله من مواطِنِهَا, كأصحاب الكهف, اِعتزَلُوا قومَهُم لَمَّا أشركوا بالله, لِمَاذَا؟ خافوا الفتنةَ في دينهم, ولذلك ورد أنه في آخر الزمان, يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ المُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الجِبَالِ وَمَوَاقِعَ القَطْرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الفِتَنِ.
ومع هذا كُلِّهِ يأتي للأسف من يتعرَّضُ للفتنةِ في الدين, ويقتحِمُهَا بقدميه, ويخوضُ فيها, ويتلوّث بقَذَرِهَا, ويستقِي من طينتِها, تراه ينشأ في بيئةٍ إسلاميّة مِن والدين مسلمين وسط شعائر إسلامية ظاهرة, ولا يَحمدِ اللهَ على هذا, بل تراه يبحث عن ثقافات مستوردة, ويطّلعُ على عقائدَ باطلة بدعوى الِانفتاح على الآخر, أو التقارب مع الآخر, أو زيادةُ معرفة, فيقَعُ في المحذور, ويُفتَنُ في دينه عياذاً بالله, يستغل الشيطانُ ضعفَ إيمانه, وحِرصَه على الِاطلاعِ على الباطل, فيزيّنَه له, ويُحبَّبَه فيه, ولربما أُشرب حُبَّه, وأُعجبَ بِهِ, ومتابعةِ أقوالِ أهله, فينتكِس, فهذا استجلَبَ الفتنةَ لنفسه, وسَمَحَ لهَا أن تتسلَّلَ لَه, ولو أنه سَدَّ بابَها, وأغلق مجراهَا, وقطَع طريقَها, لَمَّا تأثَّر {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}.
وتأملوا قصةَ عُمَر t أَتَى عُمْرُ النبيَّ r فَقَالَ: إِنَّا نَسْمَعُ أَحَادِيثَ مِنْ يهود تُعجِبُنَا, أَفَتَرَى أَنْ نَكْتُبَ بَعْضَهَا؟ وقيل: أَتَاهُ بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقَرَأَهُ عَلَى النَّبِيِّ فَغَضِبَ r, وَقَالَ: أَمُتَهَوِّكُونَ أَنْتُمْ؟ يعني مُتَحَيِّرُونَ مُتَرَدِّدُونَ في دينِكُم, أَمُتَهَوِّكُونَ أَنْتُمْ كَمَا تَهَوَّكَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، لَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُونَهُ، أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُونَهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا، لَمَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي. هذا الكلام قالَهُ النبيُّ r لعمر, وهل أحدٌ يشك في قوةِ إيمانِ عمر, وقوةِ يقينه؟ ومع هذا كُلِّهِ, خَافَ عليه النبيُّ r أن يُفتَنَ في دينِهِ فكيفَ بغيرِهِ وبِمَنْ دونَه؟ البعضُ يَسمحُ لأولاده بالدخول لمواقع الإلحاد والكفر بالله, إلى مواقع يُتكلَّمُ فيها في ثوابت الدين وأصول الشريعة, بكل استهتار, ألا يخاف على دينهم؟ يدخلوها مؤمنين, ويتكلمون بكلمة الكفر, ولربما خرجوا منها كافرين, إنها الفتنة في الدين.
وسؤال: لِمَاذَاَ يُرسِلُ البعضُ أولادَهُ للخارج, لديار الكفر, سواءً لدراسة أو عمل ولا يهتم بدينهم, مع أنهم سيرون كنائس, وسيحتكون بنصارى ضُلَّاَل, ودعاةِ باطل, وعَبَدَةِ شيطان, ولا يهتم بتحصينهم عقائديَّاً, ألا يخافُ على دينِهِم؟ ألا يخاف على عقيدتِهِم؟ المسألة خطيرة, فلا تغفلوا عنها, ولا تتساهلوا بها, فاتقوا الله عباد الله, واحرصوا على أبنائكم وبناتكم, لا تعرضوهم للفتنةِ في دينهم, فأنتم عنهم مسئولون, وعلى تفريطكم في رعاية دينِهِم نادمون, حصّنوهم بدينِ الله, وبكتابِ الله, وأسسوا في نفوسهم مراقبةَ الله, اللهم لا تردنا على أعقابنا بعد إذ هديتنا, اللهم أحيينا مسلمين وتوفنا مسلمين, وأعذنا من الردة في الدين, اللهم قو إيماننا, وحصن أبنائنا, واغرس في قلوبهم حبَّك وحُبَّ نبيك وحُبَّ دينِك وحُبَّ كتابِك والدفاعَ عنها بكل ما أوتوا ..
عباد الله, إياكم ومواطن الفتن التي تَفتِنُ دينَكم, وتُلوّثُ صافيَ عقائدكم, وتُدنّس طاهرَ قلوبكم, وعلاقتِكم بربِّكُم, اِبتعدوا عنها, وفِرُّوا منها, ولقد قال العلماء: لا يجوز للمسلم أن يسافر إلى بلد الكفر إلا بثلاثة شروط:
الشرط الأول: أن يكون عنده علم يدفع به الشبهات؛ الكفار يفرحون باستقدام المسلمين, فيوردون عليهم الشبهة, ليبقي المسلم شاكّاً متذبذباً، فيشك في الثوابت المتيقَّنَة فيضعف إيمانُهُ ويهتز يقينُهُ, ويُسلب منه دينُهُ رويداً رويداً فلابد من علم يدفع به الشبهات
الشرط الثاني: أن يكون عنده دين يحميه من الشهوات؛ بلاد الكفر, بلاد التحرر الشهوات في المتناول، خمر، زني، لوط, شذوذ, علاقات محرمة, معاملات محرمة, فلابد أن يكون عند المسلم دين قوي قائم على مراقبة الله, يعصمه ويحميه من الشهوات.
الشرط الثالث: أن يكون محتاجاً إلى ذلك السفر؛ لمرض أو علم أو تجارة, مضطرّاً له, يضطر للسفر استشفاءً أو يضطر للسفر تعلماً أو يضطر للسفر تجارةً, فلا بأس بذلك حال قيام العلة والضرورة, مع وجود الشرطين السابقين, فإن انتفت انتفى الحكم.
وكل ذلك حتى لا نُفتَنَ في ديننا, وإيماننا بربنا, فاتقوا الله عباد الله, وحافظوا على إيمانكم بربكم, واسألوا الله الثبات عليه حتى الممات.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق