عباد الله, من أصولِ الإيمانِ عندَ أهلِ السنة, الحبُّ في الله, والبغضُ في الله, عملٌ قلبيٌّ اعتقادي, يَقوى ويزدَاد بقدرِ ما في القلبِ من إيمانٍ صادق, ويقينٍ راسخ, ففي حديثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ t, عن رَسُولِ اللَّهِ r قَالَ: «إِنَّ أَوْثَقَ عُرَى الْإِيمَانِ أَنْ تُحِبَّ فِي اللهِ، وَتُبْغِضَ فِي اللهِ». وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ t، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ r أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ، وَأَبْغَضَ لِلَّهِ، وَأَعْطَى لِلَّهِ، وَمَنَعَ لِلَّهِ فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ».
الحبُّ في اللهِ هو حُبٌّ صادقٌ يَكونُ بينَ مَنْ اجتمَعَت قلوبُهُم على الإيمانِ بِاللهِ وبرسولِهِ, هذا الحبُّ يُوَلِّدُ حلاوةَ الإيمانِ في قلوبِ المُتَحَابَّيْن, ففي الحديث: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَجِدَ طَعْمَ الْإِيمَانِ فَلْيُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ».
عباد الله, والحبُّ في الله, يكونُ بقدرِ ما في قلوبِ المؤمنين من إيمان, وما على سلوكِهِم من تقوى, وما على جوارِحِهم من طاعة قَالَ بعضُ السلف:«أَحِبَّ النَّاسَ عَلَى قَدْرِ تَقْوَاهُمْ». فالمؤمن الصادِقُ مع اللهِ يَرَى أنّ المعيارَ الحقيقي لمحبتِهِ للمؤمنين هو ما في قلوبِهِم للهِ ولدينِهِ ولرسولِهِ فيمَا يظهَرُ عليهم من نُصرَتِهِم للدين, وغَيْرَتِهِم عليه, وصدقِ إتّباعِهِم لَه, فيُحبهم ويُواليهم وينصرُهُم ويدعو لَهم, لِإيمانِهِم واستقامَتِهِم, ولا يخضَعُ هَذَا الحبُّ للمصالِحِ والمنافع. لكن في هذا الزمان اختلت عندَ بعضِ الناس الموازيينُ الدينية, والمعاييرُ الإيمانية, فَصَارَ حُبُّهم وبُغضُهُم على مقاييسِ الدنيا, وتبادلِ المصالِحِ والمنافِع, فمَن يَنفعُني في دنياي أُحِبُّه ولو كان أفسقَ فاسق, وأعصَى العصاة, ومن لا يَنفَعُني ولا أستفيدُ مِنهُ في دنياي لَاَ أُحِبُّه, ولا أهتَمُّ بِهِ, ولا ألتفِتُ لَه, ولو كَانَ رجلاً صالِحاً مصلحاً, وهذا خَلَلٌ عقائدي كبير, أنْ تدورَ المحبةُ على المصلحةِ وجوداً وعدماً, عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ t قَالَ: «أَحِبَّ لِلَّهِ، وَأَبْغِضْ لِلَّهِ، وَعَادِ فِي اللَّهِ، وَوَالِ فِي اللَّهِ، فَإِنَّهُ لَا تُنَالُ وِلَايَةُ اللَّهِ إِلَّا بِذَلِكَ، وَلَا يَجِدُ رَجُلٌ طَعْمَ الْإِيمَانِ وَإِنْ كَثُرَتْ صَلَاتُهُ وَصِيَامُهُ حَتَّى يَكُونَ كَذَلِكَ، وَقَدْ صَارَتْ مُؤاخَاةُ النَّاسِ الْيَوْمَ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا، وَذَلِكَ مَا لَا يُجْزِئُ عَنْ أَهْلِهِ شَيْئًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ». والمعنى, أنَّ كُلَّ صَدَاقَةٍ ومحبةٍ لِغَيْرِ اللَّهِ فَإِنَّهَا تَنْقَلِبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَدَاوَةً إِلَّا مَا كَانَ لِلَّهِ U فَإِنَّهُ دَائِمٌ بِدَوَامِهِ. قَالَ تَعَالَى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}.
فاتقوا الله عباد الله, وَلْنُعِدِ النظرَ في علاقاتِنَا مع بعضنا, وفيمن يستحِقُّ حُبَّنَا, ومودّتَنَا. واستمعوا رحمكم الله لهذا الأثر, عن ابنِ عُمَر t قَالَ: «واللهِ لو قُمْتُ الليلَ لَاَ أَرقُد، وَلَو صُمْتُ النَّهارَ لَاَ أُفطِر، لَحُشِرتُ يومَ القيامَةِ مَعَ مَنْ أُحِبّ». وقَالَ ابنُ مسعودٍ t: «واللهِ الذي لَاَ إلهَ إلا هُوَ لَوْ أنَّ رَجُلاً قَامَ بينَ الرُّكنِ والمقامِ يعبُدُ اللهَ سبعينَ سنةً لَبَعَثَهُ اللهُ مع مَنْ أحَبّ». فانظر يا أخي مَنْ تُحِبُّهُ؟ ومَنْ تُوَاليه؟ ومَنْ تُنَاصِرُهُ؟ ومَنْ تُزَاوِرُهُ؟ ومَنْ تَبْذُلُ لَهُ جَاهَكَ ومَالَك؟ أهو من المتقين؟ أهو من الطائعينَ لله؟ أهو من المتّبعينَ لسنةِ رسولِ الله؟ إن كان منهم فأبشِر بالخيرِ العاجِلِ والآجِل, ففي الحديث القدسي: قَالَ اللَّهُ U: «حَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلَّذِينَ يَتَحَابُّونَ مِنْ أَجْلِي، وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلَّذِينَ يَتَزَاوَرُونَ مِنْ أَجْلِي، وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلَّذِينَ يَتَنَاصَرُونَ مِنْ أَجْلِي، وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلَّذِينَ يَتَصَافَوْنَ مِنْ أَجْلِي - أَوْ قَالَ: يَتَوَاصَلُونَ مِنْ أَجْلِي - وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلَّذِينَ يَتَبَاذَلُونَ مِنْ أَجْلِي». ورُوِيَ: «لَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ، أَحَدُهُمَا بِالْمُشْرِقِ وَالْآخَرُ بِالْمَغْرِبِ، لَجَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ: هَذَا الَّذِي أَحْبَبْتَهُ فِيَّ» بل يُلحِقُ اللهُ تعالى – كرماً منه – الأدنى منهما درجةً بالأعلى درجة, ففي الأثر: «مَنْ أَحَبَّ رَجُلًا لِلَّهِ فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّكَ لِلَّهِ، فَدَخَلَا جَمِيعًا الْجَنَّةَ، فَكَانَ الَّذِي أَحَبَّ لِلَّهِ أَرْفَعَهُمَا مَنْزِلَةً، أُلْحِقَ بِهِ صَاحِبُهُ». تُلحَقُ بدرجَةِ مَنْ تُحِبُّهُ من الأتقياءِ الصالِحين.
اللهم ارزقنا حُبَّك, وحُبَّ نبيّك, وحُبَّ الصالِحينَ من عبادِك, أقول قولي ..
عباد الله, وفي المقابل, المؤمن الصادق يُبْغِضُ العُصَاةَ لله ولو كانوا أقربَ الناس, يُبْغِضُهُم لمعاصيهِم ولفسقِهِم, ولِبُعدِهِم عن اللهِ وعن طاعتِهِ, قَالَ نبيُّ اللهِ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ u: «يَا مَعْشَرَ الْحَوَارِيِّينَ، تَحَبَّبُوا إِلَى اللَّهِ ببُغْضِكُمْ أَهْلَ الْمَعَاصِي، وَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِمَا يُبَاعِدُكُمْ مِنْهُمْ، وَالْتَمِسُوا رِضَاهُ بسَخَطِهِمْ, قَالُوا: يَا رُوحَ اللَّهِ، فَمَنْ نُجَالِسُ؟ قَالَ: جَالِسُوا مَنْ يُذَكِّرُكُمْ بِاللَّهِ رُؤْيَتُهُ، وَمَنْ يَزِيدُ فِي عِلْمِكُمْ مَنْطِقُهُ، وَمَنْ يُرَغِّبُ فِي الْآخِرَةِ عَمَلُهُ».
وإذا كَانَ هَذَا البغضُ في حَقِّ العاصين المؤمنين, فكيفَ بالكافرين الأصليّين؟ ومَنْ مات على ملةِ الكفر؟ إنك لتعجَبُ حينَ تقرأ من يُمجِّدُ الكفار, ويتباكى عليهم بعدَ موتِهِم, ويُعدِّدُ مَآثرَهُم في كلماتٍ تُوحي بمودَّتِهِم ومحبتِهِم والإعجابِ بِهِم, فأين البُغضُ لله لكفرِهِم بالله؟ أين البَرَاءُ من الكفار؟ أينَ الإيمانُ الذي يُحَبِّبُّنا في المؤمنين ويُبغِّضُنَا في الكافرين؟ اعلموا أنَّهُ مهما عَمِلَ الكافرُ من عملٍ خيريّ أو تطوعِيّ أو ناضَلَ أو كافَحَ, فلن ينفعَهُ ذلك عندَ الله, قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا}. إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُدْعَانَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ, يَصِلُ الرَّحِمَ، ويَقْرِي الضَّيْفَ, وَيُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، وَيَفُكُّ الْعَانِ, وَيُحْسِنُ الْجِوَارَ, يعني كَانَ مُتَفَضِّلاً يُقَدِّمُ المعروفَ, ويَبذُلُهُ, تقولُ أمُّ المؤمنين عَائِشَةُ t: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ ذَاكَ نَافِعُهُ؟ قَالَ: «لَا, لَا يَنْفَعُهُ، إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا: رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ». فهذا دلِيلٌ عَلَى أَنَّ مِنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ لَا يَنْفَعُهُ عَمَلٌ. والأعجب حين يأتي مَنْ يترحَّمُ عليهِ بعدَ مَوتِهِ مع أنَّهُ لا يجوزُ الترحمُ عليه, ولا الدعاءُ لَهُ بالمغفرة. لأنَّهُ من أصحابِ النَّار, والدليل: من القرآن, قَالَ تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} ومن السنة: قَالَ رَسُولُ اللهِ r: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ، وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ».
فاتقوا الله عباد الله, واستكمِلُوا إيمانَكم, وحقّقوه, وأحبّوا المؤمنين المتقينَ في الله, ولله, وأبغِضُوا الكافرين والعصاة في الله, ولله, واسألوا الله الثبات على دينه حتى نلقاه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق