عباد الله, منازلُ النعيمِ في الآخرةِ لن يَبلُغَهَا عبدٌ قَصُرَ عُمرُهُ وانقطَعَ بِهِ عملُهُ واخترمَهُ أجلُهُ أعمارُنا قصيرة وأجسادُنا ضعيفة وأعمالُنا مَهما كَثُرَت فهي قليلة لن توفي حق الله علينا لكنَّ اللهَ الرحيمَ الكريمَ لَطيفٌ ودود, فَتَحَ لنَا باباً من الخيرِ عظيم, باباً يَغْفَلُ عَنهُ النَّاس, باباً, إن لَزِمنَاهُ, وحافظنا على بقائِهِ مفتوحاً بلّغنَا اللهُ بِهِ الدرجاتِ الرفيعة, والمنازلَ المُنيفة, والمساكنَ الشريفة, {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} إنه بابُ النية الصالحة, وما يَقَعُ في نفسِكَ أيها المسلم من نيةِ الحرص على الطاعة, ونيةِ العزمِ على الخير, ونيةِ الْهَمِّ بالحسنة, هَذَا بابٌ يغفَلُ عنهُ النَّاس, فنيَّتُكَ أبلَغُ من عَمَلِك, وإن قَصُرَ عُمُرُك, يقولُ النَّبِيُّ r: «نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ» قَالُ أهلُ العلم: وَمَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ حَسَنٌ, وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ U يُخَلِّدُ الْمُؤْمِنَ فِي جَنَّتِهِ بِنِيَّتِهِ لا بِعَمَلِهِ، وَلَوْ جُزِيَ بِعَمَلِهِ؛ لَمْ يَسْتَوْجِبِ التَّخْلِيدَ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ فِي سِنِينَ مَعْدُودَةٍ، وَالْجَزَاءُ يَقَعُ بِمِثْلِهَا وَأَضْعَافِهَا، وَإِنَّمَا يُخَلِّدُهُ اللهُ U بِنِيَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ نَاوِيًا أَنْ يُطِيعَ اللهَ U أَبَدًا لَوْ أَبْقَاهُ أَبَدًا، فَلَمَّا اخْتَرَمَهُ دُونَ نِيَّتِهِ؛ جَزَاهُ عَلَيْهَا التَّخْلِيدَ أَبَدًا. اهـ
عباد الله, مِنَّا مَنْ يَنوِي الخير, لكن لا يستطيعُهُ أصلاً, فهل يفوتُهُ أجرُهُ وثوابُهُ؟ تأملوا هذه المواقف ففيها الجواب, في غزوة تبوك, جاء نفرٌ من فقراءِ الصحابةِ إلى النبيِّ r جائدين بأنفسِهِم لله, يريدونَ أن يَحمِلَهُم معَهُ إلى الجهاد, غيرَ أنَّهُ r اعتذَرَ لَهُم, لَم يجد ما يَحمِلُهُم عليه, فتولَّوُا وأعينُهُم تفيضُ من الدمعِ حَزَناً أن يتخلَّفُوا في المدينةِ عن الجهادِ مع رسول الله, فأنزَلَ الله قولَه: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} فهل فاتَهُمُ الأجر؟ هل فَاتَهُمُ الثواب؟ كلَّا, فإنَّ اللهَ المطلَّعَ على خبايا النفوس, وما تُكِنُّ الصدور, أعطاهم أجرَهُم, وأجزَلَ ثوابَهم, لنيتِهِم الصالحة, وحِرصِهِم على فعلِ الخير, والمشاركةِ فيه, ولو منعَهُم عذرُ الفقرِ أو المرض, في صحيحِ البخاري, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r لَمَّا رَجَعَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ, فَدَنَا مِنَ المَدِينَةِ, قَالَ: «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا, مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا, وَلاَ قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَ: «نَعَمْ وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ، حَبَسَهُمُ العُذْرُ». فَأَعْطَى r لِلْمَعْذُورِ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلَ مَا أَعْطَى لِلْقَوِيِّ الْعَامِلِ, لنيتِهِ المشاركةِ في الخيرِ والعملِ الصالح. فانظروا كيف أنَّ نَيَّتَهُ بَلغَت بِهِ درجةَ العاملين, قَالَ العلماء: النِّيَّةُ دُونَ الْعَمَلِ تَكُونُ طَاعَةً وفي الصحيح: «مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً».
وموقف آخر لِتَرَوْنَ أثرَ النيّة, قَالَ النبيُّ r: وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا، وَلَمْ يُؤْتِهِ مَالًا، فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ هَذَا يعني صاحبَ المال عَمِلْتُ فِيهِ مِثْلَ الَّذِي يَعْمَلُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: فَهُمَا فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ. مجرد أنَّه نوى أن يتصدَّقَ مثل ذاك الغني نَالَ مِثْلَ أجرِهِ.
فالحمدُ للهِ على فضلِهِ وإحسانِهِ مَا دُمنَا نَنوِي الخير فنحنُ في خير فلنستبشر بفضلِ الله, ورحمتِهِ, إنووا الخير, واِعزِمُوا على فعله, وباشروه, ولا تتركوه باختيارِكم بل اِحرصُوا عليهِ جُهدَكُم, فإن حَالَ دونَكَم ودونَهُ حائِل نِلْتُم ثوابَهَ وأجرَهَ, لأنكم نويتمُوه, قَالَ النَّبِيُّ r: «مَنْ أَتَى فِرَاشَهُ وَهُوَ يَنْوِي أَنْ يَقُومَ يُصَلِّيَ مِنَ اللَّيْلِ فَغَلَبَتْهُ عَيْنُهُ حَتَّى يُصْبِحَ، كُتِبَ لَهُ مَا نَوَى، وَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ».
فيا أخي المسلم, إنوِ أن تحافِظَ على الجماعة, إنوِ أن تكونَ من المتهجدين, إنوِ أن تعملَ كالمُنفقِين, إنوِ أن تكونَ كالمرابطين, المجاهدين, إنوِ أن تنصُرَ إخوانَك المظلومين, إنوِ أن تفرّجَ على المَكروبين, قَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ: أَصَابَتْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَجَاعَةٌ, فَمَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ فَقَالَ: وَدِدْتُ أَنَّ هَذَا الرَّمَلَ دَقِيقٌ لِي فَأُطْعِمُهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ, قَالَ: فَأُعْطِيَ عَلَى نِيَّتِهِ. إنوِ الخير اِستحضر النيةَ الصالحة فالنية, لا تحدُّهَا أزمنة, ولا تحولُ دونَهَا أمكنة, ولو حصل لك مانع, بلَغْتَ درجةَ العاملين بنيَّتِكَ. اللهم أصلح نياتِنا, وطهّر سرائرَنا, واجعل قلوبَنا مُقبلةً على الخير, وعَلَى مَا يُرضيك يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ, أقول قولي هذا ..
عباد الله, العادات تنقلِبُ إلى عباداتٍ نؤجَرُ عليها إذا قَرَنَّهَا بالنيةِ الصالِحة, فمثلاً, الزوجُ الذي يَقصِدُ بِجِمَاعِهِ لِامرأتِهِ أن يَعُفَّهَا ويَعُفَّ نفسَهُ ويَصونَهَا عن الحرام مأجورٌ, قَالَ المُصطَفَى r: وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيَأتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ». النفقةُ على الزوجةِ والأولاد إذا صاحبتهُ النيّةُ, واحتسبَهُ الإنسانُ عندَ الله, نَالَ عليهِ من اللهِ أجراً مضاعفاً قَالَ النبيُّ r لسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ t: «وَلَسْتَ تُنْفِقُ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ بِهَا، حَتَّى اللُّقْمَةَ تَجْعَلُهَا فِي فِي امْرَأَتِكَ».
أكلُكَ شُربُكَ حركتُكَ نومُك, إذا نويتَ بها التقوِّيَّ على طاعةِ اللهِ أُجِرتَ عليها, قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ t: «إنّي لأحتسِبُ نومتِي كَمَا أحتسِبُ قَومَتِي».
عَمَلُكَ الوظيفيُّ ودوامُكَ اليوميّ إذَا قرنته بنيةِ نفعِ عبادِ الله, ومصلحةِ الأُمّة, طلباً لمرضاةِ الله, أجرت عليه.
فاتقوا الله عباد الله, واستصحبوا النية الصالحة, لننوِ النيةَ الحسنةَ في عباداتِنَا في معاملاتِنَا، في تربيتِنَا لأولادِنا، وزياراتِنَا لأقاربِنِاَ، في عملِنَا الوظيفي، في أمورنا الدنيوية, في شغلِ أوقاتِنَا, لننوِ النيَّةَ الحسنةَ في كل دقيقةٍ نستقبِلُهَا حتى إذا حَالَ بينَنَا وبينَهَا أجلُ اللهِ المحتوم أدركنا منها بنيَّتِنَا ثوابَ اللهِ المعلوم.
فاللهم أحسِن نياتنا، وصوِّب وُجِهَاتِنَا، وأخلِص لَكَ سَرَائِرَنَا, ثم صلوا وسلموا رحمكم الله ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق