عباد الله, دائماً ومع بدايةِ كل عام هجري, يسألُ المخلصونَ ربَّهُم أن يُصلِحَ أحوالَهُم, ويُحسِّنَ مَعَاشَهُم, ويَقضِيَ حوائِجَهُم, ليكونَ عامُهُم الجديدُ, خيراً من عامِهِم الماضي, واللهُ تعالى حكيمٌ سميعٌ مجيب, يستجيبُ الدعاءَ ويحقّقُ الرجاء, لكن هناك ما يحولُ بين صلاحِ أحوالِنا, واستقرارِ أمننا, وسلامةِ مجتمعنا, وبينَ إجابةِ اللهِ لدعائِنَا, أمرٌ هو سببٌ في تأخُّرِ الإجابة, وعدمِ تغيُّرِ الحالِ إلى الأحسن إنه أمرٌ قد يكونُ بعضُنا سبباً فيه, أو يشتركُ بعضُنا فيه بطريقٍ مباشرٍ أو غيرِ مباشر, إنه ظُلمُ العمّالِ والخَدَمِ والمُستخدَمين.
عباد الله, إنَّ اللهَ تعالى حَرَّمَ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِهِ وَحَرَّمَهُ عَلَى عِبَادِهِ, وَلَمَّا حَرَّمَ علينا دماءَ بعضِنَا فهي حرام علينا, فكذلك أموالُنا حرامٌ علينا كحُرمةِ دمائِنا, ومع هذا تَرَى بين الناس وللأسف مَنْ يَظلِمُ العُمَّال, ترى مَنْ يَستَخدِمُهُم ولا يُوفيهِم حَقَّهُم, تَرَى من يتفِقُ مَعَهُم ولا يَفِي بعهدِهِ, تَرَى من يستقدِمُهُم ولا يَصرِفُ مستحقاتِهِم, ولا يأبَهُ بِحَالِهِم, وهَذَا أكلٌ لِحقِهِم, وأكلٌ لأموالِهِم بالباطل, وظلمٌ, والوعيدُ عليهِ شديد, واستمعوا لَهُ من فَمِ النبيِّ r حيثُ قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ كُنْتُ خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ، رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ. هؤلاء الثلاثة لَم يَقدُرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ, رَجُلٌ أَعْطَى بِي أي عاهَدَ بسمِ اللهِ وحَلَفَ بِهِ ثُمَّ غَدَرَ، أي نَقَضَ العَهد ولَم يَفِ بِهِ, ولَم يَبِر بقسمِهِ. اللهُ خَصْمُهُ يومَ القيامة. وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا وهو يَعلَمُ أنَّهُ حُرٌّ فَأَكَلَ ثَمَنَهُ. اللهُ خَصْمُهُ يومَ القيامة. وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا عاملا عنده فَاسْتَوْفَى مِنْهُ يعني العمل الذي استأجَرَهُ من أجله, وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ. هذا هو الشاهد. مَنْ اسْتَأْجَرَ عامِلاً عندَهُ فأدَّى العملَ المكلَّفَ بِهِ وأكَلَ صاحبُ العملِ مَالَهُ وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ. اللهُ Y خَصْمُهُ يومَ القيامة. سيُخاصِمُ اللهَ تعالى.
هل استحضرنا هذا الوعيدَ الشديد؟ مهما كانت الأموالُ فتنة, ومهما كانت الأموالُ مغرية, ومهما كان حُبُّهَا شديدا, إلّا أنَّ أكلَها بهذا الوجه أكلٌ بالباطل, ومَنْ يَفعلُهُ اللهُ خَصْمُهُ يومَ القيامة. قَالَ الله: وَمَنْ كُنْتُ خَصمَهُ خَصَمْتُهُ. فالأمرُ خطير, والواقِعُ مُحزِن, فالتساهُلُ موجود, والظلمُ موجود, واللهُ خَصْمٌ لِجَمِيعِ الظَّالِمِينَ, وسيدافع عن العمَّالِ الضعفاء, ومَنْ يأتونَ للعملِ وتُؤكَلُ حقوقُهُم, اللهُ سيُدَافِعُ عَنهم, وسيُخَاصِمُ مَنْ بَغَى عليهم, وظَلَمَهُم. فليتقِ اللهَ أصحابَ المؤسساتِ والشركات, ولا يأكلوا حقوقَ عُمَّالِهِم, ويماطلوا برواتِبِهِم, ويتلاعبوا بكَدِّهِم وتَعبِهِم وعَرَقِهِم غيرَ آبهين بقولِ النبي r: أَعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ. فكيفَ بمن يُماطِلُ حقوقَ العمّالِ شهوراً عديدة؟ ألا يخشى دعوتَهُم عليه؟ ألا يخافُ مخاصمةَ اللهِ لَه؟ ألا يعلمُ أنَّهُ بهذا الفعلِ المشين يَدفَعُهُم إلى الإضرارِ بأمنِ البلادِ وسَلَامةِ المجتمعِ وصحةِ بيئَتِهِ؟ وأنَّهُ يَدفعُهُم للكسبِ الحرام والخيانةِ والتحايلِ على الأنظمة؟ ألا يعلم هَذَا الظالِمُ الجاهِل أنَّ الأيامَ دُوَل؟ وغِيَرَ الأيامِ آتية؟ والنِقَمَ مفاجِئَة؟ العاملُ ضعيفٌ غريبٌ لا يستطيعُ أن يَشتكيَ أو يَرفع دعوى, وإن ادعى فقَلَّ مَنْ يَنصُرُه, وقَلَّ مَنْ يُنصِفُه, بل قَلَّ مَنْ يُصدِّقُهُ, ولأجل ذلك كان اللهُ العظيمُ في عليائه خصيماً عنه.
فاتقوا الله عباد الله ولنتعاون جميعاً في مناصحةِ من يظلم العمال ومن يَستقدِمُهُم للعملِ, ثم يُهمِلُهُم, ولا يوفِيهم حقَّهُم, لا ترضوا بظلمهم هذا, وتسكتوا عنه, فواللهِ إن شؤمَ ظلمِهِم, وأكلِهِمِ لأموالِ عمالِهِم, على المجتمعِ كُلِّهِ. قَالَ النَّبِيُّ r: لَا قَدَّسَ اللَّهُ أُمَّةً لَا يَأْخُذً الْمَظْلُومُ حَقَّهُ مِنَ الظَّالِمِ، غَيْرَ مُتَعْتَعٍ. أثرُ ظُلمِ الظالِمِ ليسَ فقط على نفسِهِ وإنما يتعدّى أثرُهُ ليَعُمَّ المجتمعَ بِرُمَّتِهِ {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً}. فَخَوِّفُوا مَنْ تَعرفون مِنْ أصحابِ المؤسساتِ والشركاتِ, مِمَّن يَظلِمُ عُمَّالَهُ, خَوّفوهُ بالله, وناصِحُوهُ, وذكروهُ أنَّ بَخْسَ الحقوقِ وأكلَهَا إفسادٌ في الأرض, قَالَ تعالى: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} ذَكِّرُوهُ أنَّ الذي يَأكُلُ أموالَ النَّاسِ بالباطِلِ فهو يَقتُلُ نفسَهُ قبلَ موته, قَالَ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} أَيْ: بِارْتِكَابِ الُمحَرَّمِ وَأَكْلِ أَمْوَالِكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ.
أسألُ اللهَ العليَّ العظيمَ أن يُجنّبَنَا وإيّاكُم الظلمَ بسائِرِ صورِهِ وأشكالِهِ، اللهم اكفنا ظُلمَ الظالمين, اللهم اكفنا أن يَطالُبَنَا أحدٌ من خلقِك بشيءٍ ظلمناهُ فيه ..
عباد الله في الحديثِ الصحيح قَالَ النبيُّ r: أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ صِيَامُ شَهْرِ اللَّهِ الْمُحَرَّمِ. كَانَ r يَتَحرّى صيامَ هذا الشهرِ خصوصاً العاشِرَ مِنهُ المُسمَّى عاشوراء, وأصلُهُ, أنَّهُ r لَمَّا قَدِمَ المدينةَ رَأَى الْيَهُودَ تَصُومُهُ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ, نَجَّى اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ فَصَامَهُ مُوسَى شُكْرَاً لِلَّهِ. فَقَالَ r: أَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ. وَسُئِلَ r عَنْ صَوْمِهِ فَقَالَ: يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ. فلنبادر إلى فضل الله تعالى وثوابِهِ, ولنصم عاشوراء الذي يوافق هذا العام الخميسَ القادم, وصوموا يَوماً قبلَهُ أو يَوماً بعدَهُ, فَقَد عَزَمَ النبيُّ r أن لَا يَصومَهُ مُفرَدَاً مخالفةً لِأهلِ الكتابِ فَقَالَ: إِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ قَالَ الراوي: فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَتَّى تُوُفِّيَ r
فاستعينُوا باللهِ على طاعتِه, واسألوه التوفيقَ لمرضاتِه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق