الخميس، 22 أغسطس 2013

خطبة بـ عنوان: "وانقلبت الموازيين"

عباد الله, في زمن الفتن يغيبُ العقل وتتحكّمُ العواطِف, وتثورُ حميَّةُ الظلمة, ويَتَدَاعَونَ ويَتنَادَون من كل مكان, فيأتِي الظالِمُ الأفّاكُ ليقولَ: إنَّهُ مُصلِح منقذ مخلص, فتنقَلِبُ الموازين, فيُصبِحُ إفسادُهُ في الأرضِ إِصلَاَحَاً, ويُصبِحُ اِنقلابُهُ إنقاذاً, ويُصبِحُ تَدَخْلُهُ تَخليصاً,{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} في الفتنةِ يَكثُرُ السفهاء, وتَكثُرُ أقاويلُهُم, في الفتنةِ يَكثُرُ كلامُ المنافقين والمُتخاذِلين والمُرجِفِين والرويبضة, والكُلُّ يَهرِفُ بِمَا يَعرِفُ ومَا لَاَ يَعرِف. قَالَ النبيُّ r: إِنَّهَا سَتَأْتِي عَلَى النَّاسِ سِنُونَ خَدَّاعَةٌ، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ، وفي رواية: يُتَّهَمُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَيُؤْتَمَنُ الْمُتَّهَمُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ. قِيلَ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: السَّفِيهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ.
في زماننا تَرَى السفيهَ يتطاوَلُ على الشرفاء, وترى الفاسِقَ يتطاوَلُ على الأتقياء, وترى الماجن الساخر يتطاولُ على العبادِ الصلحاء, وأين الثرى من الثريا؟ لِمَاذَا كُّلُ هَذَا؟ لأنها الفتنةُ المنتشِرَةُ عبرَ وسائلِ الإعلام, والتي سَرَتَ قنواتُهُا إلى كُلِّ بيتٍ بإعلامٍ مُضَلِّلٍ, يُزوِّقُ الباطِلَ ويُجمِّلُهُ ويُرسِّخُهُ ويجعَلُهُ حقائِقَ مُسَلَّمٌ بها ثم يَنْطِقُ بها الرُّوَيْبِضَةُ. فيظهَرُ المنطِقُ الفرعونيُّ المتكرّرُ في كل زمانٍ ومكان, مَنطِقُ الكُفْرِ والكِبْرِ {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}. فسمى ضلالَهُ رشاداً, وهو نفسُ عبارة: إن لَم تكن معي فأنتَ ضدي.
إعلامُ فتنة يُصوِّرُ أهلَ الحقِّ أنَّهُم ظَلَامِيُّون مُخرِّبونَ مُفسِدُون وأهلَ الباطِلِ مُنقِذُونَ مُصلِحُونَ, كَمَا قَالَ فرعونُ لقومِهِ: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ}. سبحان الله, فرعونُ يُظهِرُ غَيرتَهُ على دينِ النَّاسِ وأمنِهِم، فهو يَخافُ عليهم من إفسادِ موسَى في الأرضِ, فلابُدَّ من قتلِهِ, هَذَا مَنطِقُ فُرعونَ الأمس, وهاهو التاريخُ يُعيدُ نفسَهُ، وما أشبَهَ الليلةَ بالبارِحَة, وما أكثَرَ الفراعنةَ فِي زمانِنَا, فَكُلُّ مَنْ يُنادِي بِحُكمِ الإسلامِ الصحيح, وتطبيقِ الشريعة, وإقامةِ الحدود, ودَعْمِ الإسلاميينَ المُصلِحين, قيل عنهُ: أصوليٌّ مُفسِدٌ فَتَّان, {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ}. مَنطِقٌ منكوس, وأفعالٌ تقهَرُ النفوس, {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ}.
فَمَا أعظَمَ الخَطبُ, وما أشدَّ المصيبة, إِذَاَ اختلَّ المَنطِقُ وانتكَسَ المفهوم، أقولُ هذا يا عباد الله, لِتَثْبُتُوا ولا تتزعزَعُوا, فمَعَ هذِهِ الأراجيفِ تتقلَّبُ القلوب وتنتكِسُ العُقول ويشك الله في جهود الاسلاميين, إلا مَنْ رَحِمَ الله, إلا الواثِقُ باللهِ الواثِقُ بدينِهِ, الواثقُ برجاله المخُلصين, فهذا لن يَضرَّهُ كَذِبُ كاذب, وإرجافُ مُرجِف, وتشويهُ إعلام, بل لا تزيدُهُ الفتنةُ إلَّا تَمسُّكَاً بالحق, وثَبَاتَاً عليه, ودعوةً إليه, ودِفَاعَاً عَنه, ومَنْ وُقِيَ فتنةَ إفكِ الإعلامِ فبَقِيَ فِكرُهُ سَليماً, وبَقِيَت قَنَاعَاتُهُ نقيّةً لا يَشوبُهَا شائبةٌ ولَاَ يلوّثُهَا ملِّوثٌ فقد وُقِيَ الشَّر {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ. وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.
اللهم يا حي يا قيوم أرنا الحق حقا وارزقنا ..
عباد الله, انقلابُ الموازيين والتلاعُبُ بالمفاهيم فِتنةٌ كبحرٍ لُجيٍّ سَحيقٍ لَاَ سَاحِلَ لَه غَرِقَ فيهِ خَلقٌ كَثير, اِنقلَبت عندَهُم موازينُ الحُكُمِ والتصنيف, فَصَارَ المتهَمُ عندَهُم بَرِيئَاً, وَالبَرِيءُ مُتَّهَمَاً, والقاتِلُ مُنقِذاً, والمقتولُ المُسالِمُ مُخرّباً مُفسِدَاً, وصَاحِبُ الحقّ معتدياً إرهابيّاً مُطَارَدَاً. لِمَاذَا انقلبت عندَهُم الموازيين؟ لِأنَّهُم يُتَابِعونَ إعلامَ تشويهِ الحقائق, وفرضِ الأمرِ الواقع, ومَهمَا تُحاوِلُ أن تُصَحِّحَ أفكارَهُم, رَفَضُوكَ وخَاصَمُوكَ ورُبَّمَا آذَوك, {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا}. وَلَا عَجَبَ فِيَمَنْ هَلَكَ كيفَ هَلَك؟ لكن العَجَبَ لِمَنْ نَجَا كيفَ نَجَا؟
فَخُذُوا حِذرَكُم, وصُمُّوا آذانَكم, ولا تُفسِدْ قَنَاعَاتِكُم تَصرِيحاتُ أهلِ الَأهوَاءِ, ومُبتغِي العلوِ في الأرضِ عبرَ قنواتِ النفاقِ وفضائياتِ السوءِ التي أجلَبَت علينَا بخيلِهَا ورَجلِهَا, وشاركتنا بيوتَنَا ومجالِسَنَا, وطارَت بأخبارِهَا صُحُفُنَا وأجهزَتُنَا, وللأسف.
اِلزموا الحقَّ, واثبتُوا عَليه, وادْعُوا لِرِجَالِهِ, {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.

الجمعة، 16 أغسطس 2013

خطبة بـ عنوان: "المستقبل للإسلام"

عباد الله, ولأنَّ اللهَ تعالى كَتَبَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فَكُلَّ مَا وَقَعَ وَيَقَعُ وَسَيَقَع مكتوبٌ عندَهُ تعالى, وكُلُّ قَضَاءٍ قَضَاهُ اللهُ فهو خَير, لكن مَا {كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} فَيَظُنُّ البعضُ بقضاءٍ شَرَّاً فيُصيبُهُم يأسٌ وإحباط, لِقِصَرِ نَظَرِهِم, وعَدمِ معرفتِهِم بالغيب فإذا هو خيرٌ{فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} فَلابُدَّ من الثقةِ باللهِ تعالى, واعتقادِ أَنَّهُ لا يَجرِي في الكونِ إلا ما يُريدُ لحِكَمٍ صالِحَةٍ يُريدُهَا, فَلَابُدَّ أن يكونَ المسلمونَ على صِلَةٍ بربِّهِم, معتمدينَ عليه، مبتهلينَ إليه أن يهيئَ لَهُم أسبابَ القوةِ والنصرِ والتمكين.
وإن من أخطرِ القضايا التي يقع فيها كثيرٌ من المسلمين خصوصاً في هذا الزمن سوءَ الظنِّ باللهِ {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} يَظنُّونَ أنَّ اللهَ لا ينصُرُ شريعتَه, ولا ينصُرُ دينَه، ولا ينصُرُ المسلمين, ونُجيبُهُم بأنه إذا كان الإسلامُ لن يَنتصِرَ فلمَاذا أنزَلَ اللهُ الكتاب؟ وأرسلَ الرسولَ؟ وشَرَعَ الدين؟ لماذا نُسخت كُلُّ الأديانِ السابقةِ بالإسلام إذَا كان الإسلامُ لن ينتصر؟ النصرُ للإسلام, والمستقبلُ لدينِنَا لا محالة, قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}. وقال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}. وقال تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} إذاً المسألةُ مسألةُ وقت, واستيفاءُ تحقُّقِ شروطِ النصر من الإيمانِ الخالص والتوكلِ الصادق والأخذِ بأسباب التمكين وتصفيةِ الصف من الخونةِ والمُخذِّلين, فالحقُّ لا يُغلَبُ أبداً, لكن يتأخّر ويُضيَّقُ عليه ويُعتدَى على أصحابه وتُشوَّهُ صورتُهُم ويُحَارَبُون, كُلُّ ذلك تَمحيصاً لَهُم, ورِفعَةً في درجاتِهِم, ومَحقاً لأعدائهم, وتأمَّلُوا هذِهِ الأحاديثَ الشريفةَ المبشّرِةَ لنَا, والتي تزيدنا ثِقَةً بربِّنَا وبدينِنَا, وبنصرِهِ لنا, والتي نَطَقَ بها الصادقُ المصدوقُ r, فقد قَالَ يوماً لأصحابِهِ: إِنَّ اللهَ زَوَى لِي الْأَرْضَ, أي جمَعَهَا وضمَّهَا فنظَرَ إليهَا r نظرةً حقيقيّةً بعينِهِ, فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا. وقَالَ r: لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ يعني الدين, مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلَا يَتْرُكُ اللهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ, أي لا بيتَ حَجَرٍ في حاضرة, ولا بيتَ وَبَرٍ في بادية, إِلَّا أَدْخَلَهُ اللهُ هَذَا الدِّينَ، بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللهُ بِهِ الْإِسْلَامَ، وَذُلًّا يُذِلُّ اللهُ بِهِ الْكُفْرَ. وهذا أمرٌ لَم يَتحقّق بَعد, فلابد أن يَتحقق كما جاء في الحديثِ الآخر أنَّ عَبْدَاللهِ بْنَ عَمْرِو y، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ حَوْلَ رَسُولِ اللهِ r نَكْتُبُ أي نكتُبُ حديثَه إِذْ سُئِلَ أَيُّ الْمَدِينَتَيْنِ تُفْتَحُ أَوَّلًا: قُسْطَنْطِينِيَّةُ أَوْ رُومِيَّةُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: مَدِينَةُ هِرَقْلَ تُفْتَحُ أَوَّلًا. يَعْنِي قُسْطَنْطِينِيَّةَ. فروما لَم تُفتَحُ بَعد فلابُدّ أن تُفتَحَ, لأنَّ النبيَّ r أخبَرَ بذلك.
وَقَالَ r: تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضَّاً، أَيْ: يُصِيبُ الرَّعِيَّةَ فِيهِ ظُلْمٌ يُعَضُّونَ فِيهِ عَضَّا، فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً، أَيْ: قَهْرًا وَغَلَبَةً, يتصارعون على الحُكم ويتغَالَبُونَ عليه, فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا, ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةً عَلَى مِنْهَاجِ نُبُوَّةٍ ثُمَّ سَكَتَ r. فَهَذِهِ الأحاديثُ لابُدَّ أن تتحَقَّقَ, لأنَّهَا خبرٌ من اللهِ تعالى, عَلَى لسانِ نبيّهِ الصادِق r.
فَمَا الواجِبُ على المسلمين الآن؟ الواجبُ على المسلمينَ أن يَثِقُوا باللهِ تعالى, وبنصرِهِ, وَأنَّهُ مَعَهُم, وَلَنْ يَتْرُكَهُم, كيفَ لَاَ؟ وقد قَالَ تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}. وعليهم أن يعتقِدُوا أنَّ المستقبلَ للإسلامِ قَطعاً رَغْمَ تِلكَ الهَزَّاتِ والهَنَّاتِ والِابتلاءاتِ التي تُصيبُهُم من حُكُومَاتِهِم أو من أعدائِهِم. ثم عليهم أنْ لَاَ يَكَلُّوا ولا يَمَلُّوا في نُصرةِ دينِهِم, والِاهتمامِ بقضاياه مُتذكِّرينَ قولَ النبيّ r: مَنْ لَمْ يَهْتَمَّ بِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ مِنْهُمْ, وَمَنْ لَمْ يُصْبِحْ وَيُمْسِ نَاصِحًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِكِتَابِهِ ولإِمَامِهِ ولِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ مِنْهُمْ. اللهم انصر دينَك, وكتابَك, وسنةَ نبيك, وعبادَك المجاهدينَ الصادقين .. إلَخ
عباد الله, مشاهِدُ الدماءِ والجثث التي رأينها قبل يومين في ميادين مصر, وقبلَها رأينها في سوريا, وقبلَها رأينا أجساداً تُحرَقُ في بورما وأراكان, وقبلَها مجازرَ تُرتكَبُ في فلسطين على أيدي الصهاينة اليهود. كلُّهَا مشاهِدُ ومناظِرُ تُدمِي القلب, لكن عزاؤُنا في قولِ الحقِّ تعالَى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} وفي قوله تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وفي قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}. وعزاؤُنا أيضاً في قولِ النبيِّ r: إِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي لِأُمَّتِي أَنْ لَا يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ بِعَامَّةٍ، وَلَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ، فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ، وَإِنَّ رَبِّي قَالَ لِي: يَا مُحَمَّدُ إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ، وَإِنِّي أَعْطَيْتُكَ لِأُمَّتِكَ أَنْ لَا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، أي لا أهلِكَهُم بقحطٍ يعمُّهُم إن وَقَعَ قَحطٌ يَكونُ في ناحيَةٍ يسيرةٍ بالنسبةِ إلى باقي بلادِ الِإسلام, وَأَنْ لَا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ أَيْ أصلَ مُجْتَمَعِهِمْ وَمَوْضِعَ سُلْطَانِهِمْ. وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا يعني عدوَّهُم لو اجتمَعَ عليهم من أطرافِ الأرضِ فلن يَستأصِلَ شأفتَهُم ولا دينَهُم. قال: حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا, وَحَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يَسْبِي بَعْضًا.
عباد الله, مشاهدُ الدماءِ والجُثثِ والقتلِ المتعمَّدِ فيها خيرٌ لنا {لَاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}. إنَّ الله تعالى بهذه المشاهِدِ المؤلِمَةِ مَيَّزَ لنا بينَ المؤمنين الخُلَّصِ, مِنَ المنافقينَ والموالينَ للكافرين. ميَّزَ بينَ مَنْ يُحِبُّ الدينَ ويَفخَرُ بِهِ, ويَدعُو له, وبين مَنْ يَكرَهُ الدينَ, ويَهزَأُ بِهِ ويُحارِبُهُ. بهذه الفتن انكشَفَ الغطاءُ وانفضحَت المواقِفُ السياسيّةُ والدينيّةُ بل والإعلاميّةُ المُخزية, {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}.
اللهم في هذه الساعة من الجمعة صل وسلم على نبينا محمد ونسألك اللهم أن ترحم من مات من المسلمين في ميادين مصر, اللهم ارحمهم, واكتبهم في الشهداء, اللهم داوي جرحاهم, وأمِّن خائفَهُم, وأطعم جائعهم. اللهم كُن معهم ولا تَكُن عليهم.
اللهم ول عليهم خيارَهُم, واكفهم شرارَهُم من المنافقين ومن يُعادي الدين.
اللهم يا منتقمُ يا جبار, يا عزيزُ يا قهار, انتقِم مِمَّنْ سَفَكَ دماءَ المسلمين في مصر, اللهم أرنا في الظالمين قُدرتَك, وأنزِل عليهم نِقمتَك, وصُبَّ عليهم عَذَابَكَ ورجزَك, إلهَ الحق.
اللهم اشفِ صدورَنا يا ربنا بصلاحِ حالَ المسلمين, واجتماعِ كلمتهم, ونصرِهِم على عدوهم, في الشام, وفي مصر, وفي فلسطين, وفي كل مكان يا حي يا قيوم يا رب العالمين.
عباد الله, اذكروا الله العظيم يذكركم .. إلَخ

خطبة عيد الفطر المبارك 1434هـ

نحمدُ اللهَ تعالى حَمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه على ما مَنَّ به علينا وتفضَّل.
مَدَّ في أعمارِنا, فصُمنَا شهرَنا, وأخرجَنا زكاتَنَا, وحضَرنا عيدَنا, ووسَّع في أرزاقِنا, فوسّعنا على أنفسِنا وأولادِنا, وأصحَّ أبدانَنا, وأمَّنَنا في أوطانِنا.
فَلَهُ حمدُنا وشكرُنا وتوحيدُنا, وله ثناؤُنَا وتسبيحُنَا وتمجيدُنَا. الله أكبر (تسع مرات) الله أكبر كبيراً، والحمدُ لله كثيراً، وسبحانَ الله بكرةً وأصيلاً, سبحانَ موجِدِ الأشياء, وفاطِرِ السماء، سبحانَ الفعّالِ لِمّا يَشاء، سبحانَ سامِعِ الأصوات، باعِثِ الأموات، ومُصَرِّفِ الأوقات، ومُيسِّرِ الأقوات، سبحانَ العالِمِ بِمَا مَضَى وما هو آت.
عباد الله, تنفَّسَ الصُبحُ, وأشرَقَت الشَمسُ, على يومٍ عَظِيمٍ وَعِيدٍ كَرِيمٍ, يومِ عيدِ الفطرِ المبارك, فيهِ تفرحونَ أن أديتم ركناً من أركانِ الإسلام, صيامِ شهرِ رمضان, ثم جِئتُم فيهِ إِلى بيتِ اللهِ تُكَبِّرُونَ اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُم، وأصبحتم تَحمَدُونَ المَولى عَلَى مَا وَهَبَكُم وَآتَاكُم {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}.
فيومُكُم يومُ الفرحِ والذكر, ويومُ السرورِ والبِشر, ويومُ التكبيرِ والشكر.
الله اكبر، الله اكبر، الله أكبر, لا اله إلا الله، والله اكبر ، الله اكبر ، والحمد لله
عباد الله, العيدُ توقيتٌ صنعَهُ اللهُ لنا, لكنَّ شعورَ الفرحةِ به نحنُ مَنْ نَصنَعُهُ, فرحةُ العيدِ لن يتذوَّقَهَا حَقَّ مَذَاقِهَا إلَّا الطائعون الذين صاموا وقاموا ودعوا وتصدقوا إيماناً واحتساباً, وأنا أريدُ لهؤلاء الفائزين بفضلِ اللهِ أن يَكونَ عَيدُهُم عيدين, وفَرحتُهُم فرحتين, لماذا؟ لأنَّ الفرحةَ الحقيقيةَ في أيامِ العيد إنما تُقَاسُ بما نُقدِّمُهُ من إنجازاتٍ وأعمالٍ وتضحيات, فاسمحوا لي أن أدلُّكُم عَلَى أعمالٍ, تُضَاعِفُ فَرحَتَكُم في العيدِ بل ويَتَضَاعَفُ معهَا أجرُكُم:
أولاً: تذكروا أخوانَكُم الذين يأتي عليهم هذا اليوم وقد مُزِجَت فرحتُهُ بالآلام والأحزان, فحياتُهم مُثخَنَةٌ بِالجراح, بلادٌ تعاني ويلاتِ الحروب, وبلادٌ تعاني ويلاتِ الفقرِ والقتلِ والاضطهاد, وبلادٌ تعاني فتنةَ الانقساماتِ والانشقاقات, يا تُرَى أيُّ عيدٍ يَعيشُهُ مَن هُم تحتَ القصفِ والحِصَارِ ليلَ نهار؟ أيُّ عيدٍ يَعيشُهُ أخوانُنا اللاجئونَ المشردون في المخيمات؟ أيُّ عيدٍ يَعيشُهُ مَنْ ابتُلوا في دينِهِم وضُيّقَ عليهم في أرزاقِهِم؟
عَظُمَ البلاءُ ولا مُغيثَ لشامِنَا      رَبـي أنتَ المُرتَجَــــى لبلائِـنَا
كُلُّ جُــــــــرحٍ سَوفَ يَبـــــرأ       فَامتَطِــــــي يـــا شامُ صَبـرا
أهلَنَا فِي الشـــــــــــــامِ صَبرا        إنَّ بعدَ العُســــــــرِ يُسْـرَا
أهلَنَا فِي الشـــــــــــامِ صبرا        إنَّ بعدَ الصَبــــــــــرِ نَصْـرَا
حتى تكونَ فرحتُنا فرحتين اِجعلوا جزءًا من يومِكُم هذا في دعمِ إخوانِكم بدعائِكم, بالسؤالِ عن أحوالِهِم, بنشرِ أخبارِهِم, بدعمِهِم بالمالِ والمعونات, بإحياءِ شعورِ النصرةِ لَهم, وثِقُوا أنَّكُم بذلك تفرحونَ فرحتين: فرحةَ العيد, وفرحةَ المواساةِ يومَ العيد.
الله اكبر ، الله اكبر ، لا اله إلا الله ، والله اكبر ، الله اكبر ، والحمد لله
ثانياً: حتى يكونَ عيدُكم عيدين صِلُوا أهلَ ودِّ أبيكم, مَنْ كَانَ والدُك يُحِبُّ زيارتَه, ويتواصَلُ معَه, ويَصِلُهُ بِبِرِّهِ وإحسانِهِ, صِلهُ أنتَ في هذا اليوم, وبِرَّهُ في هذا اليوم, وأكرِمْهُ, وهنّئهُ بالعيد, لِتفرَحَ فرحتين: فرحةَ العيد, وفرحةَ إرضاءِ والديك, وبرِّهِمَا بعدَ موتِهِمَا.
عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ عُمَرَ t قَالَ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصِلَ أَبَاهُ فِي قَبْرِهِ، فَلْيَصِلْ إِخْوَانَ أَبِيهِ مِنْ بَعْدِهِ. وَعَن عبدِالله بنِ دِينَار عَن عبدِالله بنِ عمر y أَنَّ رجلاً من الْأَعْرَاب لَقِيَهُ بطرِيقِ مَكَّة فَسلَّمَ عَلَيْهِ ابنُ عمر وَحملَهُ على حمَارٍ يَركبُهُ وَأَعْطَاهُ عِمَامَةً كَانَت عَلَى رَأسِهِ, قَالَ ابْنُ دِينَار فَقُلْنَا لَهُ: أصلحَكَ اللهُ إنهم الْأَعْرَاب وهُم يَرضونَ باليسير, فَقَالَ عبدُالله بنُ عمر: إِنَّ أَبَا هَذَا كَانَ وِدّاً لعمرَ بنِ الْخطاب وَإِنِّي سَمِعت النبيَّ r يَقُول: إِنَّ أَبَرَّ الْبِرِ صِلَةَ الْوَلَدِ أهلَ وِدِّ أَبِيه. الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر كبيراً
ثالثاً: حتى يكونَ عيدُكم عيدين, فَكَمَا طهَّرتُم في هذا اليوم أبدانَكم وأثوابَكُم فطهروا سرائرَكم وقلوبَكم على إخوانِكم, العيدُ فرصةٌ لتتصافَحَ الأيدي المتقاطِعة وتتلاقَى الوجوهُ المُتدابرة, وتتصافى القلوبُ المُتنافِرة, رَحِمَ اللهُ قلباً تطهَّر اليوم, رَحِمَ اللهُ نفساً عفّت وسامَحت, رَحِمَ اللهُ يداً للمصافحةِ والمسامحة بادَرَت, العيدُ فرصةٌ لإقالةِ العثرات, والعفوِ عن الزلات, ونسيانِ الهفوات, لننسَى في هذا اليوم كُلَّ خصومةٍ أو نزاعٍ أو زَعَل, ولنبدأ صفحةً جديدةً من العلاقةِ الحميمةِ في الله, بهذا تكونُ فرحتُكُم اليوم فرحتين: فرحةَ العيد, وفرحةَ رضا الله عنك أيها المُسامِحُ, المتنازِلُ عن حقّك.
رابعاً: وحتى يكونَ عيدُكم عيدين, وسّعُوا في هذا اليومِ على أهليكم وأولادِكم فِي غَيْرِ سَرَفٍ وَلَا مَخِيلَةٍ, واجعلوهُ يوماً مختلفاً أدخِلُوا فيهِ السرورَ عليهم بما أباحَهُ اللهُ سماعاً ورؤيةً من اللهوِ المباح, ففي عهدِ النبوة, وفي يومِ عيدٍ كَانَتِ الْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ بِحِرَابِهِم بينَ يدي رَسُولِ اللَّهِ r ويَتَكَلَّمُونَ بِكَلَامٍ لَا يَفْهَمْهُ, فَقَالَ r: مَا يَقُولُونَ؟ قَالُوا: يقولون: مُحَمَّدٌ عَبدٌ صَالِح. فَقَالَ r لعائشة: تَشْتَهِينَ تَنْظُرِينَ؟ قالت: نَعَمْ فأقامَهَا ورائَهُ يَستُرُهَا وَوَضَعَتْ رَأْسَهَا عَلَى مَنْكِبِهِ تَنظُرُ لَهم, وَهُوَ يَقُولُ: دُونَكُمْ يَا بَنِي أَرْفِدَةَ. تقولُ عَائِشَةُ: فَلَمْ أَحْفَظْ مِنْ قَوْلِهِمْ غَيْرَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ: أَبُو الْقَاسِمِ طَيِّبٌ, أَبُو الْقَاسِمِ طَيِّبٌ r, بَقيت تُشَاهِدُهُم حتّى مَلَّت ثم انصرفت, وما تحرَّكَ رسولُ اللهِ r حتى لا يُضايِقَهَا. دُعَابةٌ وخِفّةٌ وحُسنُ عِشرَة r, وفي يومِ عيدٍ أيضاً أَذِنَ النبيُّ r لِجَارِيَتَينِ صغيرتين مِنْ الْأَنْصَارِ تُغَنِّيَانِ وتَضرِبَانِ بالدف في بيتِ عائشة, فَدَخَلَ أَبُوها الصّديقُ فَانْتَهَرَهُمَا, قَالَ: أَمِزْمَارُ الشَّيْطَانِ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ؟ وكان r مُضْطَجِعَاً مُسَجًّى بِثَوْبِهِ, قد حَوَّلَ وَجْهَهُ إلى الجدار, فلَمَّا أنكَرَ أبوبكر عليهمَا كَشَفَ رَسُولُ اللهِ r عن وجهِهِ الثوب, وَقَالَ: دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ, فَإِنَّهَا أَيَّامُ عِيدٍ.
الله اكبر ، الله اكبر ، لا اله إلا الله ، والله اكبر ، الله اكبر ، والحمد لله
خامساً: وحتى تكونَ فرحتُكُم اليوم فرحتين, وأجرُكُم عند الله أجرين, طهروُهُ من المخالفاتِ الشرعية, والمنكراتِ القولية والفعلية, اِعزموا العقدَ وبيّتُوا النيةَ, على عدمِ معصيةِ اللهِ خلالَ الأيامِ القادمةِ أيامِ اللهوِ والفرح, فقد قَالَ بعضُ السلف: مَنْ صَامَ رمضانَ, وهو يُحدِّثُ نفسَهُ إذَا أَفطَرَ بعدَ رمضان عَصَى ربَّه فصِيَامُهُ عليهِ مردُود. ومن صامَ رمضان، وهو يُحدِّثُ نفسَهُ إذَا أفطَرَ بعدَ رمضان أن لا يَعصِيَ اللهَ دَخَلَ الجنةَ بغيرِ حسابٍ ولا مسألة.
لقد عِشتُم أجواءَ الإيمانِ في شهرِ رمضان, فإياكم في العيدِ وطاعةَ الشيطان.
فليسَ العيدُ لِمَنْ لَبِسَ الجديد، وهو من طاعةِ رَبهِ بعيد, ليسَ العيدُ لِمَنْ تجمَّلَ باللباسِ والمركوب، وهو منغمسٌ في المعاصي والذنوب. ليس العيدُ لِمَنْ حاز الدرهمَ والدينار ونهارُهُ وليلُهُ يتحمَّلُ فيهما الأوزار. العيد حقيقية لِمَن أطاعَ اللهَ المجيد, وخافَ يومَ الوعيد, ولَم تُلهِهِ فرحةُ العيدِ عن الاستقامةِ للهِ يومَ العيد قَالَ عَلِيُّ t: العيدُ لِمَنْ قَبِلَ اللهُ صومَه, وغَفَرَ ذنبَه, وكُلُّ يومٍ لا نَعصِ اللهَ فيهِ فهو عِيد.
سادساً: وحتى تكونَ فرحتُكُم فرحتين زُوروا أقارِبَكم, وجيرَانَكم, وصِلُوا أرحَامَكم, تصافحوا, تآلفوا, تبادلوا التهاني, قولوا لبعضِكُم: تقبل الله منَّا ومنكم, وأعادَهُ عليكم.
زُوْرُوْا أَقَارِبَكُمْ زُوْرُوْا أَحِبَّتَــــــــكُمْ        تَبَادَلُوْا صَفْــوَ كَأْسٍ طَابَ رَيَّاهُ
فَالْعِيْدُ رَوْضٌ مِنَ التَّحْنَانِ يَبْعَثُهُ        أَهْلُ الصَّفَاءِ وَعَيْنُ الْحُبِّ تَرْعَاهُ
بهذه الأعمالِ يكونُ عيدُكُم هذا عيدين, وفرحتُكُم فرحتين.
أسألُ اللهَ العظيمَ في هذه الساعة أن يجعلَ أيامَنا وأيامَكم كُلَّهَا فَرحٌ وسعادة, وأن يبسُطَ لنا ولكم من الخيرِ وزيادة, ويبارِكَ لنا ولكم في الكتابِ والسنّة، ويُعظِمَ لنَا ولَكُم النعمةَ والمِنَّة، ويَرزُقَنَا جَميعاً الفردوسَ الأعلَى من الجنَّة. أقولُ قولي هذا ..
الله أكبر كبيراً, والحمد لله كثيراً, وسبحان الله بكرةً وأصيلاً.
ونداءٌ للمرأةِ المسلمة: أيتها المباركة, كنتِ في شهرِ الخيرِ والبركة, صُمتي وقمُتي, وتَصدقتي وصَليتي, وتَلوتي وذَكرتي, فلا تُفسدي ما صَنعتي, وتُشتّتي ما جمعتي, اِحذري أن تكوني مبعثَ إثارة أو مثارَ فتنة أو وسيلةَ إِغراء, أو مادةَ إِغواء خُصوصاً أيام العيد, فتُفسدِي كُلَّ ما عَملتيهِ من طاعاتٍ وقربات. تذكري أنَّ في النّارِ صِنفاً من النساء حذَّرَ منهُنَّ النبيُّ r فَقَالَ: نِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ، مَائِلَاتٌ، مُمِيلَاتٌ، عَلَى رُءُوسِهِنَّ أَسْنِمَةُ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا, وفي رواية: اِلْعَنُوهُمْ؛ فَإِنَّهُنَّ مَلْعُونَاتٌ. هذا مصيرُ من تبرجت وترجّلت, وبَرَزَت وتكشَّفَت؛ فاتقي الله يا أمةَ الله, وأدّي حَقَّ الزوجِ والأولاد, اِحتشمي ولا تبرّجِي تَستَّرِي ولا تَكشَّفِي وعلى قدرِ استقامَتِكِ وصلاحِكِ يَصلُحُ بيتُكِ, بل وتَصلُحُ الأمَّةُ كُلُّهَا, لأنَّكَ المدرسةُ الحقيقيةُ لصناعةِ الرجال.
أيها الآباء والأولياء, صونوا نساءَكم، احفظوا أعراضَكم, واحذروا التفريطَ والتشاغُلَ والتقصيرَ والتساهُل, الذي لا تُؤمَنُ لَوَاحِقُهُ وتوابِعُهُ, وتواليه وعواقِبُهُ, جنِّبُوا أسرَكُم ونسائَكُم أماكنَ اللهوِ والغفلة, واعلموا أنَّ بين يدي الله تجتمعُ الخصوم فاحذر أيها الأب أن يكونَ خُصومُك بين يدي اللهِ من أهلِ بيتِك, نتيجةَ تفريطِك وغشِّك في أداءِ الأمانة.
الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله ، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد

خطبة بـ عنوان: "من دروس غزوة بدر (أهمية الدعاء)"

عباد الله, في مثل هذا اليوم الجمعة السابع عشر من رمضان من السنة الثانية من الهجرة كانت غزوةُ بدرٍ الكبرى, التي سماها الله في القرآن{يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} دروسُ هذه الغزوة كثيرة, لا يسعُهَا هذا الموقف, ولا تحصرُهَا خطبةُ جمعة, إنما أقف معكم وقفةً واحدةً مع مشهدٍ واحد من مشاهِدِ هذه الغزوة, ألا وهو أثرُ الدعاء وأهميتُهُ في تحقيقِ النصر, وسرعةِ الفرج, وإنزالِ المددِ الإلهي, والعونِ السماوي من اللهِ الذي بيدِهِ أسبابُ النصر وحدَه {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ}.
عباد الله, حين رأى رسولُ اللهِ r كتائِبَ المشركين وهي تزحَفُ لأرضِ المعركة, ماذا صنع؟ التجأ إلى الله بعقله وقلبه ويديه إلى من في السماء وقال: اللهُمّ, إنّك أَنْزَلْت عَلَيّ الْكِتَابَ وَأَمَرْتنِي بِالْقِتَالِ وَوَعَدَتْنِي إحْدَى الطّائِفَتَيْنِ وَأَنْتَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ. اللهُمّ هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ أَقْبَلَتْ بِخُيَلَائِهَا وَفَخْرِهَا، تُحَادُّك وَتُكَذِّبُ رَسُولَك, اللهُمّ، نَصْرُك الّذِي وَعَدْتنِي, اللهُمّ أَحِنْهُمْ الْغَدَاةَ أَي أهلكهم. وفي موطن آخر, نَظَرَ r إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: اللهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ, اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ حُفَاةٌ فَاحْمِلْهُمْ، اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ عُرَاةٌ فَاكْسُهُمْ اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ جِيَاعٌ فَأَشْبِعْهُمْ, فَمَا زَالَ يدعو مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ, فَأَتَاهُ الصدّيقُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ, ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ، وَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ. وجاءت الاستجابةُ من السميعِ القريبِ المُجيبِ سريعةً قويةً, فيتلقى جبريلُ أوامِرَ ربِّ العزة, وينزلُ من السماء ومعه ألفٌ من الملائكةِ عَلَى خَيْلٍ بُلْقٍ عَلَيْهِمْ ثِيَابٌ بِيضٌ وَعَلَى رُءُوسِهِمْ عَمَائِمُ بِيضٌ قَدْ أَرْخَوْا أَطْرَافَهَا بَيْنَ أَكْتَافِهِمْ تَطِيرُ إلى الْأَرْضِ, فشارَكَت في المعركةِ وقتلَت المشركين مَدَدَاً من الله لنبيّه بسبب استغاثتِهِ ودعائه قال الله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} أَيْ: مُتَتَابِعِينَ بَعْضُهُمْ فِي إِثْرِ بَعْضٍ. عباد الله, دعا النبيُّ r ربَّهُ في بدر, وهو المؤيَّدُ بحفظِ الله, والموعودُ بنصر الله, والمحفوظُ بعنايةِ الله, لكنه وَقَفَ ودَعَا, وبذَلَ السبب, وألَحَّ في المسألة حتى سقط رداؤه عن كتفه, لنتعلَّمَ مِنه r أن لا نغفَلَ عن الدعاء في مواطِن الشدة والبلاء التي تصيبُنا وتصيبُ إخوانَنا المسلمين في كل مكان فإنه أخذٌ بسببٍ معنويٍّ قويّ جالبٍ للنصر والفرج لا نغفل عن الدعاء, فالدعاء يَستجلِبُ المنافع ويَدفَعُ الضر ويرُدُّ قضاء السوء, الدعاء سلاحٌ نمدُّ به إخوانَنا المجاهدين في بلادِ الشام وفي فلسطين, الدعاء حِصنٌ نبنيهِ لإخوانِنَا المضطهدينَ والمنكوبين في كل مكان, الدعاء دعمٌ حقيقيٌّ لإخوانِنا المظلومين في كل مكان عليكم بالدعاء خصوصاً وأنتم في رحاب شهرٍ كريم, وقد قال الله لنبيه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} هل تعلمون أن هذه الآية توسطت آياتِ الصيام وجاءت بعدَ آية: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}؟ إشارةٌ حكيمةٌ من ربٍ حكيمٍ لتجتهدوا في الدعاء في شهر رمضان. فاللهم أجب دعائنا, وحقق رجائنا ..
عباد الله, الدعاءُ وما أدراكُم ما الدعاءُ؟ سِلَاحُ المؤمن, وسِهَامٌ نافِذَةٌ, وبَريدٌ عاجِلٌ جِدَّاً بينَ العبدِ الضعيفِ والربِّ القوي, بينَ العبدِ الفقيرِ والربِّ الغني, يقولُ النبيُّ r: حَرِّزُوا أَمْوَالَكُمْ بِالزَّكَاةِ، وَدَاوَوْا مَرَضَاكُمْ بِالصَّدَقَةِ، وَادْفَعُوا عَنْكُمْ طَوَارِقَ الْبَلَاءِ بِالدُّعَاءِ، فَإِنَّ الدُّعَاءَ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ, مَا نَزَلَ يَكْشِفُهُ, وَمَا لَمْ يَنْزِلْ يَحْبِسُهُ.
أتَهـــــزَأُ بالـدعـاءِ وتَزدريــــهِ        وَمَا تَدرِي مَا صَنَعَ الدعاءُ
سِهَامُ الليلِ لَا تُخطِئ ولَكِن       لَهَا أجَلٌ ولِلَأجَـلِ انقضاءُ
شهرُ رمضان شهر إجابةِ الدعوات, وتفريجِ الكربات فُرصتُكُم يَا ذَوِي الحاجاتِ والفَاقَاتِ والطلبات أنزِلُوا حوائِجَكُم على الله, اِقرَعُوا بِهَا أبوابَ السماء, اِعرضوها على مولَاكم وثِقُوا أنَّهُ سيستجيبُ لَكُم, خصوصاً أنكم مقبلون على عشرٍمباركات, فيها ليلةٌ خيرٌ من ألفِ شهر من حُرِمَ خيرَهَا فقد حُرِم, ثِقُوا بربكم واعلموا أنه سبحانَهُ حَيِيٌّ كريمٌ يستحي من عبدِهِ أن يَرفَعَ إليه يديهِ داعياً مُبتَهِلَاً راجِياً ثُمّ يردُّهُمَا صِفراً خاليتينِ من الخير كُلُّ الحبالِ تَتصرَّمُ إلَّا حَبلُهُ, وكُلُّ الَأبوابِ تُوصَدُ إلَّا بابُهُ. تَحَرَّوا بِدُعَائِكُم الَأوقاتَ الشريفة كثُلثِ الليلِ الَآخر وفي السجود ولَحظةِ الِإفطار وهذه الساعة وآخرِ سَاعةٍ من الجمعة وأدبارِ الصلوات وبينَ الَأذانين وفي القنوت وألِحُّوا على اللهِ ألِحُّوا على اللهِ في الدعاء فَإِنَّهُ يُحِبُّ الْمُلِحِّينَ فِي الدُّعَاءِ.
ثُمَّ اعلموا أنَّ الدعاءَ موقوفٌ بين السماءِ والَأرضِ حتى يُصلَّى على رسولِ اللهِ r ..

خطبة بـ عنوان: "شهر البركات"

عباد الله, ولأنَّ النبيَّ r أعطي جوامع الكلم, فقد أجمل كل ما في هذا الشهر من خير في كلمة واحدة, ولفظة واحدة, موجزة جامعة, ألا وهي قولُهُ r: أَتَاكُمْ رَمَضَانُ, شَهْرُ بَرَكَةٍ .. وكذلك قولُهُ r في حديث آخر: قَدْ أَظَلَّكُم شَهْرٌ مُبَارَك.
ونقف عند قول النبي r رمضان شهر بركة والبركة هنا مطلقة, بركة في كل شيء. البركة: هي الزيادة والنماء والكثرة، وفي لسان العرب معنى البركة: الكثرة في كل خير, والمبارك: الذي قد باركَه الله تعالى, وهو ما يأتي من قِبَلِهِ الخيرُ الكثيرُ.
وشهر رمضان شهر مبارك, قال أهل العلم: أي كَثُرَ خيرُهُ الحسِّيّ والمعنوي كما هو مشاهَدٌ فيه, ففيه بركةٌ في أعمالِ البر, وبركةٌ في ثوابِهَا, وبركةٌ في أعمالِ الدنيا, وبركةٌ في أعمالِ القلوب, وبركةٌ في أعمالِ الجوارح.
جاء شهرُ الصيامِ بالبركاتِ       فأكرِمْ به مِنْ زائرٍ هُوَ آتِ
شهرٌ فيه يَكثُرُ القليلُ، ويعمُّ النفعُ، ويتَّصِلُ الخيرُ، وتتمُّ الكفايةُ، ويعلُو الرِّضا، وتطيبُ النفوس, بركةٌ في حسناته, فالطاعات فيه مضاعفة, الصوم ذاته مضاعفٌ ثوابُهُ بلا حَدٍّ وبلا عَدٍّ, أما غيرُهُ فقد قَالَ بعضُ السلف: إذا حضر شهر رمضان فانبسطوا فيه بالنفقة, فإن النفقة فيه مضاعفة كالنفقة في سبيل الله, وتسبيحةٌ فيه أفضل من ألف تسبيحة في غيره, وصومُ يومٍ من رمضان أفضل من ألف يوم, وركعةٌ فيه أفضل من ألف ركعة. ودعاءُ الصائمِ فيه سواءً طيلةَ نهارِهِ أو عندَ فطرِهِ مُجاب, وعمرةٌ في رمضان تَعدِلُ حِجَّةً مع النبيّ r, كل ذلك من بركاته. وهو شهرٌ السيئاتُ فيه مغفورة. فمن صامه وقامه إيماناً واحتساباً غُفِرَ لَهُ ما تقدم من ذنبه. والسيئات أيضاً بعدَهُ وقبلَهُ مغفورة بسببه, فرمضان إلى رمضان كفارةٌ لِمَا بينهُمَا. شهرُ بركة فأعمال القلوب فيه معمورة. والأرزاق فيه موفورة. وأجسادُ الصالحين فيه نَشِطَةٌ قويّة. وأرواحُهُم فيه منتعشَةٌ فرِحَة. وأعمالُ الدنيا فيه منجَزَةٌ ميسَّرَة. وأخلَاَقُ المؤمنين فيه هيّنةٌ لينة, لأنَّ الصومَ يُهذّبُ الخُلق, ويُزكّي النفس. شهرُ بركة فأجواءُ المجتمع تفوحُ فيها عطورُ الإيمان, وطِيبُ القرآن, الشياطينُ تُكبَّل وتُحجَزُ عن العبادِ فيه؛ ليَكثُرَ الخيرُ, ويَقِلَّ الشَّر, وما أعظمَهَا من نعمةٍ لِمَن عَقِلَهَا.
عباد الله, أحد عشر شهراً ونحن نخوض غمار الحياة في أمواج الدنيا التي ترمينا في كل اتجاه, فتهتز القلوب, وتتشتت النفوس, وكل طرف حولنا يجرنا إليه لنعيش حالة من التشتت والتبعثر واللا استقرار لا نفسياً ولا روحياً فيأتي شهرُ البركة بروحانيتِهِ وبركتِهِ فيعالج هذا الجانب, يأتي مدرسةً تعلم الصبر واليقين, يأتي موسماً يربي على البر والفضيلة, يأتي شهراً يدعو للتلاحم والتراحم, يأتي مهدئاً لأروحنا, مطمئناً لقلوبنا, مسعداً لنفوسنا, موقظاً لضمائرنا, جامعاً لغاياتنا المبعثرة لغاية واحدة هي طاعةُ الله, والأنسُ بقربه, والتلذذُ بمناجاته, وكفى بها راحة, وكفى بها استقراراً, وكفى بها سعادةً, فحقاً إنه شهر بركة.
اللهم تقبل منا ما مضى من شهرنا, وبارك لنا فيما تبقى, ووفقنا لطاعتك وطاعة رسولك ..
عباد الله, سوق الخير في رمضان نُصبت, فأين المتاجرون؟ وساحة العفو فيه اتسعت, فأين المتنافسون؟ أبواب الجنة فيه فُتحت، فأين الراغبون؟ وأبواب النار فيه أُغلقت, فأين التائبون؟ شهر رمضان أيام معدودات مضى ثلثُه وبقي ثلثاه, وأيامه تتسارع, ولياليه تتسابق, وستمضي سريعا, فالبدار البدار, إياك يا أخي أن تحرم نفسك في رمضان من رحمة الله، فإن الخاسر ورب الكعبة من مرَّ عليه رمضان ولَم يفز فيه برحمة الرحيم الرحمن, اللهم اغفر لنا وارحمنا وتب علينا واكتبنا في هذا الشهر الكريم من المعتقين من النار.. هذا وصلوا وسلموا .. اللهم إنه قد مضى ثلثُ شهرنا, فأيقظنا يا ربنا من سبات الغفلة, ووفقنا لتدارك ما بقي من شهرنا فيما يرضيك ..