عباد الله, ولأنَّ النبيَّ r أعطي جوامع الكلم, فقد أجمل كل ما في هذا الشهر من خير في كلمة واحدة, ولفظة واحدة, موجزة جامعة, ألا وهي قولُهُ r: أَتَاكُمْ رَمَضَانُ, شَهْرُ بَرَكَةٍ .. وكذلك قولُهُ r في حديث آخر: قَدْ أَظَلَّكُم شَهْرٌ مُبَارَك.
ونقف عند قول النبي r رمضان شهر بركة والبركة هنا مطلقة, بركة في كل شيء. البركة: هي الزيادة والنماء والكثرة، وفي لسان العرب معنى البركة: الكثرة في كل خير, والمبارك: الذي قد باركَه الله تعالى, وهو ما يأتي من قِبَلِهِ الخيرُ الكثيرُ.
وشهر رمضان شهر مبارك, قال أهل العلم: أي كَثُرَ خيرُهُ الحسِّيّ والمعنوي كما هو مشاهَدٌ فيه, ففيه بركةٌ في أعمالِ البر, وبركةٌ في ثوابِهَا, وبركةٌ في أعمالِ الدنيا, وبركةٌ في أعمالِ القلوب, وبركةٌ في أعمالِ الجوارح.
جاء شهرُ الصيامِ بالبركاتِ فأكرِمْ به مِنْ زائرٍ هُوَ آتِ
شهرٌ فيه يَكثُرُ القليلُ، ويعمُّ النفعُ، ويتَّصِلُ الخيرُ، وتتمُّ الكفايةُ، ويعلُو الرِّضا، وتطيبُ النفوس, بركةٌ في حسناته, فالطاعات فيه مضاعفة, الصوم ذاته مضاعفٌ ثوابُهُ بلا حَدٍّ وبلا عَدٍّ, أما غيرُهُ فقد قَالَ بعضُ السلف: إذا حضر شهر رمضان فانبسطوا فيه بالنفقة, فإن النفقة فيه مضاعفة كالنفقة في سبيل الله, وتسبيحةٌ فيه أفضل من ألف تسبيحة في غيره, وصومُ يومٍ من رمضان أفضل من ألف يوم, وركعةٌ فيه أفضل من ألف ركعة. ودعاءُ الصائمِ فيه سواءً طيلةَ نهارِهِ أو عندَ فطرِهِ مُجاب, وعمرةٌ في رمضان تَعدِلُ حِجَّةً مع النبيّ r, كل ذلك من بركاته. وهو شهرٌ السيئاتُ فيه مغفورة. فمن صامه وقامه إيماناً واحتساباً غُفِرَ لَهُ ما تقدم من ذنبه. والسيئات أيضاً بعدَهُ وقبلَهُ مغفورة بسببه, فرمضان إلى رمضان كفارةٌ لِمَا بينهُمَا. شهرُ بركة فأعمال القلوب فيه معمورة. والأرزاق فيه موفورة. وأجسادُ الصالحين فيه نَشِطَةٌ قويّة. وأرواحُهُم فيه منتعشَةٌ فرِحَة. وأعمالُ الدنيا فيه منجَزَةٌ ميسَّرَة. وأخلَاَقُ المؤمنين فيه هيّنةٌ لينة, لأنَّ الصومَ يُهذّبُ الخُلق, ويُزكّي النفس. شهرُ بركة فأجواءُ المجتمع تفوحُ فيها عطورُ الإيمان, وطِيبُ القرآن, الشياطينُ تُكبَّل وتُحجَزُ عن العبادِ فيه؛ ليَكثُرَ الخيرُ, ويَقِلَّ الشَّر, وما أعظمَهَا من نعمةٍ لِمَن عَقِلَهَا.
عباد الله, أحد عشر شهراً ونحن نخوض غمار الحياة في أمواج الدنيا التي ترمينا في كل اتجاه, فتهتز القلوب, وتتشتت النفوس, وكل طرف حولنا يجرنا إليه لنعيش حالة من التشتت والتبعثر واللا استقرار لا نفسياً ولا روحياً فيأتي شهرُ البركة بروحانيتِهِ وبركتِهِ فيعالج هذا الجانب, يأتي مدرسةً تعلم الصبر واليقين, يأتي موسماً يربي على البر والفضيلة, يأتي شهراً يدعو للتلاحم والتراحم, يأتي مهدئاً لأروحنا, مطمئناً لقلوبنا, مسعداً لنفوسنا, موقظاً لضمائرنا, جامعاً لغاياتنا المبعثرة لغاية واحدة هي طاعةُ الله, والأنسُ بقربه, والتلذذُ بمناجاته, وكفى بها راحة, وكفى بها استقراراً, وكفى بها سعادةً, فحقاً إنه شهر بركة.
اللهم تقبل منا ما مضى من شهرنا, وبارك لنا فيما تبقى, ووفقنا لطاعتك وطاعة رسولك ..
عباد الله, سوق الخير في رمضان نُصبت, فأين المتاجرون؟ وساحة العفو فيه اتسعت, فأين المتنافسون؟ أبواب الجنة فيه فُتحت، فأين الراغبون؟ وأبواب النار فيه أُغلقت, فأين التائبون؟ شهر رمضان أيام معدودات مضى ثلثُه وبقي ثلثاه, وأيامه تتسارع, ولياليه تتسابق, وستمضي سريعا, فالبدار البدار, إياك يا أخي أن تحرم نفسك في رمضان من رحمة الله، فإن الخاسر ورب الكعبة من مرَّ عليه رمضان ولَم يفز فيه برحمة الرحيم الرحمن, اللهم اغفر لنا وارحمنا وتب علينا واكتبنا في هذا الشهر الكريم من المعتقين من النار.. هذا وصلوا وسلموا .. اللهم إنه قد مضى ثلثُ شهرنا, فأيقظنا يا ربنا من سبات الغفلة, ووفقنا لتدارك ما بقي من شهرنا فيما يرضيك ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق