عباد الله, في زمن الفتن يغيبُ العقل وتتحكّمُ العواطِف, وتثورُ حميَّةُ الظلمة, ويَتَدَاعَونَ ويَتنَادَون من كل مكان, فيأتِي الظالِمُ الأفّاكُ ليقولَ: إنَّهُ مُصلِح منقذ مخلص, فتنقَلِبُ الموازين, فيُصبِحُ إفسادُهُ في الأرضِ إِصلَاَحَاً, ويُصبِحُ اِنقلابُهُ إنقاذاً, ويُصبِحُ تَدَخْلُهُ تَخليصاً,{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} في الفتنةِ يَكثُرُ السفهاء, وتَكثُرُ أقاويلُهُم, في الفتنةِ يَكثُرُ كلامُ المنافقين والمُتخاذِلين والمُرجِفِين والرويبضة, والكُلُّ يَهرِفُ بِمَا يَعرِفُ ومَا لَاَ يَعرِف. قَالَ النبيُّ r: إِنَّهَا سَتَأْتِي عَلَى النَّاسِ سِنُونَ خَدَّاعَةٌ، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ، وفي رواية: يُتَّهَمُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَيُؤْتَمَنُ الْمُتَّهَمُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ. قِيلَ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: السَّفِيهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ.
في زماننا تَرَى السفيهَ يتطاوَلُ على الشرفاء, وترى الفاسِقَ يتطاوَلُ على الأتقياء, وترى الماجن الساخر يتطاولُ على العبادِ الصلحاء, وأين الثرى من الثريا؟ لِمَاذَا كُّلُ هَذَا؟ لأنها الفتنةُ المنتشِرَةُ عبرَ وسائلِ الإعلام, والتي سَرَتَ قنواتُهُا إلى كُلِّ بيتٍ بإعلامٍ مُضَلِّلٍ, يُزوِّقُ الباطِلَ ويُجمِّلُهُ ويُرسِّخُهُ ويجعَلُهُ حقائِقَ مُسَلَّمٌ بها ثم يَنْطِقُ بها الرُّوَيْبِضَةُ. فيظهَرُ المنطِقُ الفرعونيُّ المتكرّرُ في كل زمانٍ ومكان, مَنطِقُ الكُفْرِ والكِبْرِ {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}. فسمى ضلالَهُ رشاداً, وهو نفسُ عبارة: إن لَم تكن معي فأنتَ ضدي.
إعلامُ فتنة يُصوِّرُ أهلَ الحقِّ أنَّهُم ظَلَامِيُّون مُخرِّبونَ مُفسِدُون وأهلَ الباطِلِ مُنقِذُونَ مُصلِحُونَ, كَمَا قَالَ فرعونُ لقومِهِ: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ}. سبحان الله, فرعونُ يُظهِرُ غَيرتَهُ على دينِ النَّاسِ وأمنِهِم، فهو يَخافُ عليهم من إفسادِ موسَى في الأرضِ, فلابُدَّ من قتلِهِ, هَذَا مَنطِقُ فُرعونَ الأمس, وهاهو التاريخُ يُعيدُ نفسَهُ، وما أشبَهَ الليلةَ بالبارِحَة, وما أكثَرَ الفراعنةَ فِي زمانِنَا, فَكُلُّ مَنْ يُنادِي بِحُكمِ الإسلامِ الصحيح, وتطبيقِ الشريعة, وإقامةِ الحدود, ودَعْمِ الإسلاميينَ المُصلِحين, قيل عنهُ: أصوليٌّ مُفسِدٌ فَتَّان, {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ}. مَنطِقٌ منكوس, وأفعالٌ تقهَرُ النفوس, {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ}.
فَمَا أعظَمَ الخَطبُ, وما أشدَّ المصيبة, إِذَاَ اختلَّ المَنطِقُ وانتكَسَ المفهوم، أقولُ هذا يا عباد الله, لِتَثْبُتُوا ولا تتزعزَعُوا, فمَعَ هذِهِ الأراجيفِ تتقلَّبُ القلوب وتنتكِسُ العُقول ويشك الله في جهود الاسلاميين, إلا مَنْ رَحِمَ الله, إلا الواثِقُ باللهِ الواثِقُ بدينِهِ, الواثقُ برجاله المخُلصين, فهذا لن يَضرَّهُ كَذِبُ كاذب, وإرجافُ مُرجِف, وتشويهُ إعلام, بل لا تزيدُهُ الفتنةُ إلَّا تَمسُّكَاً بالحق, وثَبَاتَاً عليه, ودعوةً إليه, ودِفَاعَاً عَنه, ومَنْ وُقِيَ فتنةَ إفكِ الإعلامِ فبَقِيَ فِكرُهُ سَليماً, وبَقِيَت قَنَاعَاتُهُ نقيّةً لا يَشوبُهَا شائبةٌ ولَاَ يلوّثُهَا ملِّوثٌ فقد وُقِيَ الشَّر {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ. وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.
اللهم يا حي يا قيوم أرنا الحق حقا وارزقنا ..
عباد الله, انقلابُ الموازيين والتلاعُبُ بالمفاهيم فِتنةٌ كبحرٍ لُجيٍّ سَحيقٍ لَاَ سَاحِلَ لَه غَرِقَ فيهِ خَلقٌ كَثير, اِنقلَبت عندَهُم موازينُ الحُكُمِ والتصنيف, فَصَارَ المتهَمُ عندَهُم بَرِيئَاً, وَالبَرِيءُ مُتَّهَمَاً, والقاتِلُ مُنقِذاً, والمقتولُ المُسالِمُ مُخرّباً مُفسِدَاً, وصَاحِبُ الحقّ معتدياً إرهابيّاً مُطَارَدَاً. لِمَاذَا انقلبت عندَهُم الموازيين؟ لِأنَّهُم يُتَابِعونَ إعلامَ تشويهِ الحقائق, وفرضِ الأمرِ الواقع, ومَهمَا تُحاوِلُ أن تُصَحِّحَ أفكارَهُم, رَفَضُوكَ وخَاصَمُوكَ ورُبَّمَا آذَوك, {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا}. وَلَا عَجَبَ فِيَمَنْ هَلَكَ كيفَ هَلَك؟ لكن العَجَبَ لِمَنْ نَجَا كيفَ نَجَا؟
فَخُذُوا حِذرَكُم, وصُمُّوا آذانَكم, ولا تُفسِدْ قَنَاعَاتِكُم تَصرِيحاتُ أهلِ الَأهوَاءِ, ومُبتغِي العلوِ في الأرضِ عبرَ قنواتِ النفاقِ وفضائياتِ السوءِ التي أجلَبَت علينَا بخيلِهَا ورَجلِهَا, وشاركتنا بيوتَنَا ومجالِسَنَا, وطارَت بأخبارِهَا صُحُفُنَا وأجهزَتُنَا, وللأسف.
اِلزموا الحقَّ, واثبتُوا عَليه, وادْعُوا لِرِجَالِهِ, {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق