الجمعة، 21 فبراير 2014

خطبة بـ عنوان: "أحسن اختيار جلسائك"

أخي المسلم, أيها المبارك, قضيةٌ يجب أن تعتنيَ بها, وتَحرِصَ عليها, ولا تتساهَلَ فيها, إنها تُحدّدُ معالِمَك, وترسمُ شخصيتَك, وتؤثرُ على أفكارِك وتوجهاتِك ومبادئِك, إنها اختيارُ جلسائِك. مَنْ تجلس معه فهو جليسُك, مَنْ تقرأ له فهو جليسُك, مَنْ تتابع حديثَه فهو جليسُك, مَنْ تستمعُ له فهو جليسُك, فأحسن اختيارَهُم.
الناس بالنسبة لك على ثلاثةِ أصناف: صنفٌ هم لك كالغذاء, لا يُستغنَى عنه. وصِنفٌ هم لك كالدواء, لا يُحتَاجُ إليه إلا زمناً معينا. وصنفٌ هم لك كالداء, لا يُحتاجُ إليهِ أبدا. فأحسن اختيارَ جلسائك, إنه قد ورد في الحديثِ الصحيح: يأتي على الناسِ زمانٌ يُقَالَ لِلرَّجُلِ:«مَا أَجْلَدَهُ مَا أَظْرَفَهُ مَا أَعْقَلَهُ لكن مَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ» فاحذر أن يكونَ جليسُكَ من أمثالِ هؤلاء. وورد في الحديثِ الصحيح الآخر, سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتُ, يَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ, قِيلَ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟ قَالَ: «الرَّجُلُ التَّافِهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ». وقيل: «السَّفِيهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ».
أحسن اختيارَ جلسائك أن لا يكونَ بينَهم رويبضة. رويبضة يعني رابضٌ عن معالي الأمور, ومشارِفِ الأحوال, ومفاخِرِ الأفعال, رابِضٌ حِسَّاً ومَعنى, لا ينبعِثُ في شي, ولا إلى شيء, سوى كثرةِ الكلامِ في علمِ الكبار, وقضايا الأمّة, وحوادِثِ المجتمع, يتكلم في كل شيء, ويتدخَّلُ في كل شيء, ويُحلِّلُ كُلَّ شيء, ويوزّعُ الاتهامات, ويُقصي ويُدنِي, ويستعلي ويستعدي, ويزايد ويفتات, وكَثْرَةُ الكَلَامِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ يُقسِّي الْقَلْبَ ياعباد الله وَأَبْعَدُ النَّاسِ مِنَ اللَّهِ ذو القَلْبِ القَاسِي.قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مَنْ كَانَ مَنْطِقُهُ فِي غَيْرِ ذِكْرِ اللهِ فَقَدْ لَغَا، وَمَنْ كَانَ نَظَرُهُ فِي غَيْرِ اعْتِبَارٍ فَقَدْ سَهَا، وَمَنْ كَانَ صَمْتُهُ فِي غَيْرِ فِكْرٍ فَقَدْ لَهَى.
مَنْ كَثُرَ كلامُهُ كَثُرَ خَطؤُهُ, ومن كَثُرَ خطؤُهُ قَلَّ احترامُهُ, أحسن اختيارَ جُلَسَائِك, فإنَّكَ قد تجلس مع رويبضة وأنت لا تشعر. قد تجلس معه على فضائية أو إخبارية أو على موقعٍ على شبكة النت لساعاتٍ طويلة, فيتكلم كثيرا, ويَخلِطُ كثيرا, ويَهرِفُ بما لا يعرف, يتكلم بكلامٍ, يَضُرُّك ولا يُفيدُك, يُضلِّلُ عنك الحقائق, ويُشكِّك في عقيدتِك, ويشوِّشُ أفكارَك, ويؤثِّرُ على تفكيرِك, واتخاذِ قرارِك. قد تجلِسُ معه على صحيفةٍ ورقية أو إلكترونية فتقرأ مقالا طويلا لرجلٍ مُلَّوثِ الفكر لا تستفيد منه سوى الهمزِ واللمز, والتهويلِ والتطبيلِ, والإثارةِ والتأليب, والتشدُّقِ في الكلام, والتقعُّرِ في الألفاظ, فتَمُرُّ الأوقاتُ والنظراتُ على مقالِهِ, فيُؤثِّرُ في خَوَاطِرِكَ وأفكارِكَ ومنطقِك. وما أحسَنَ ما قيل :
وَلَاَ تَصْحَبِ الكَسْلَانَ فِي حَاجَاتِهِ        كَـــــمْ صالِحٍ بِفَسادِ آخرَ يَفْسُدُ
عَدْوَى البليدِ إلى الْجـليدِ سَـريعَةٌ         وَالْجَمْرُ يُوضَعُ في الرَّمَادِ فَيَخْمُدُ
هؤلاء جلساءُ سُوء, وقد قيل: الْوَحْدَةُ خَيْرٌ مِنْ جَلِيسِ السُّوءِ، فأحسِنَ اختيارَ جُلَسَائِك, فإذا رأيتَ منهم مَنْ يَخوضُ في آياتِ الله, وَيَتَّخِذُوهَا هُزُوًا, ويتكلَّمُ بِمَا يخالِفُ الحق, من تحسينِ الباطل, والدعوةِ إليه, ومدحِ أهله, وتبريرِ فعلِهِ, والإعراضِ عن الحقِّ والسنة, والقدحِ والجرحِ في سَلَفِ الأُمَّة, فَلَا تجلِس معهم, ولا تَسمَع لَهُم, ولا تقرأ لَهُم, قَالَ تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} آيةٌ واضحةُ الدِّلَالة, صريحةُ العبارة, وهي أمرٌ من اللهِ لرسولِهِ أصلَا, ولأمَّتِهِ تَبَعَا. أعوذُ باللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيم: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} ..
أخي المسلم, أيها المبارك, أحسن اختيارَ جلسائك, وخُذْ مواصَفَاتِهِم من رسولِ اللهِ r, فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ y قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ جُلَسَائِنَا خَيْرٌ؟ قَالَ: «مَنْ ذَكَّرَكُمْ بِاللَّهِ رُؤْيتَهُ، وَزَادَ فِي عِلْمِكُمْ مَنْطِقَهُ، وَذَكَّرَكُمْ بِالْآخِرَةِ عَمَلُهُ». هؤلاء هُم مَن تُجَالِس, قولُهُم فِعلُهُم حالُهُم يُذَكِّرُكَ بالله, ويُقَرِّبُكَ من الله, والمَرءُ يُصلِحُهُ الجليسُ الصَّالِحُ.
فأحسِن اختيارَ جلسائك, واعمل بوصيةِ الفاروقِ عُمَرَ t حيثُ قَالَ: «عليكَ بإخوانِ الصدقِ, فَعِشْ في أكنَافِهم، فإنَّهم زِينةٌ في الرَّخاءِ, وعُدَّةٌ في البَلاءِ، وَاحْذَرْ صَدِيقَكَ إِلَّا الْأَمِينَ، وَلا أَمِينَ إِلَّاَ مَنْ خَشِيَ اللَّهَ ولَا تَصْحَبِ الْفَاجِرَ فَيُعَلِّمَكَ مِنْ فُجُورِهِ، وَلا تُفْشِ إِلَيْهِ سِرَّكَ, فَيَفْضَحْكَ، وَاسْتَشِرْ فِي أَمْرِكَ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ اللَّهَ».
هذا وصلوا وسلموا ..

خطبة بـ عنوان: "من أساليب حل المشكلات الزوجية"

أما بعد, فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله تعالى, فَاتَّقُوهُ سبحانه, وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ الظَّاهِرَة، وَآلائِهِ الْبَاهِرَة، فَدِينُنَا خَيْرُ الأَدْيَانِ، وَأُمَّتُنَا خَيْرُ الأُمَمِ، وَنَبِيُّنَا أَفْضَلُ الأَنْبِيَاءِ، وَنَحْنُ بَيْنَ ذَلِكَ فِي صِحَّةٍ فِي الأَبْدَانِ، وَأَمْنٍ فِي الأَوْطَانِ، وَرَغَدٍ فِي الْعَيْشِ وَأَمَان.
عباد الله, من نِعَمِ اللهِ علينا أن خَلَقَ لنَا أزواجاً نَسكُنُ إليها, ونأنسُ بها, وجعل بينَنا وبينَ زوجاتِنا مودةً ورحمة, ولكن, ولأننا بشر, ولأن النزعة البشرية مع المؤثرات النفسية مع الوساوس الشيطانية قد تجتمع في لحظة فيحصل بسببها خلافٌ داخلَ البيتِ المسلم, وقد يتطور الخلاف تطوراً مخيفا, حتى يظفَرَ الشيطانُ ببغيتِهِ, فيتفارق الزوجان لسببٍ تافه, وحتى تعرفوا فرحة إبليس بحصولِ هذا الفراق, ووقوع الشقاقِ ثم الطلاق, تأملوا هذا الأثر, يَقولُ النبيُّ الصادِقُ r: إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً يَجِيءُ أَحَدُهُمْ، فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا، قَالَ: وَيَجِيءُ أَحَدُهُمْ، فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِهِ، قَالَ: فَيُدْنِيهِ مِنْهُ - أَوْ قَالَ: فَيَلْتَزِمُهُ - وَيَقُولُ: نِعْمَ أَنْتَ أَنْتَ.
عباد الله, ومع هذا حَرِصَ الإسلامُ بتوجيهاتِهِ الربانيّة وتشريعاتِهِ القرآنية وإرشاداتِهِ النبوية على تجنيبِ الأسرة شرورَ الشقاقِ والخصام، ووجّهَنا إلى حَلِّ المشاكل بأساليب يسيرة لكن تحتاج لقلبٍ صادق وعقلٍ واعي وإدراكٍ لِحجم المسئولية وخطورةِ المسألة إذا غَفلْنَا عنها. فتعالوا نستعرِضُ سوياً جملةً من أساليبِ حَلِّ المشكلاتِ الزوجية, وكيفيةَ احتوائِها بطرقٍ سهلةٍ حكيمة, وكُلُّ إِنْسَانٍ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَة, وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ.
من أساليب حل المشكلات الزوجية أن يفهَمَ كُلُّ زوجٍ زوجَه, ويفهَمَ نفسيَّتَه, ويفهَمَ متى غضبُهُ؟ حتى يتدخَّلَ فوراً لتهدئتِهِ, ولا يَزيدُ النَّارَ وقوداً, ودُونَكُم رَسُولُ اللَّهِ r يقولُ لزوجِهِ عَائِشَةَ t: إِنِّي لَأَعْلَمُ إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً، وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى. قَالَتْ: مِنْ أَيْنَ تَعْرِفُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: أَمَّا إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً، فَإِنَّكِ تَقُولِينَ: لاَ وَرَبِّ مُحَمَّدٍ، وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى، قُلْتِ: لاَ وَرَبِّ إِبْرَاهِيمَ. فتقولُ لَهُ الحبيبةُ عَائِشَةُ t: أَجَلْ, وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ مَا أَهْجُرُ إِلَّا اسْمَكَ. فَهِمَهَا r, وفَهِمَ نفسيَّتَهَا من معاشرتِهِ لَهَا, وهذا ما تَفتقدُهُ كثيرٌ من بيوتِ المسلمين, وأُسَرِهِم, أنَّ الزوجَ لا يَفهَمُ زَوجتَه ولا تَفهمه, ولا يعرف ما يُغضِبُهَا؟ ومَا يُرضِيَهَا؟ ومتى تغضب؟ وكيف تغضب؟ ولماذا تغضب؟ وكيفَ ترضى؟ ومتى ترضى؟ ولأجلِ ذلك, يحصُلُ التنافُرُ لأتفَهِ سببٍ, وأدنى كلمةٍ, فإذا انفعَلَ طرفٌ, انفعَلَ الآخر, وإذا غَضِبَتِ المرأةُ ثارَ الرجل, والعكس, وما أجملَ ما قالَهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ t لزوجتِهِ: إذا رأيتِني غَضِبتُ، فَرَضِّني، وإذا رأيتُكِ غَضبتِي رَضيتُكِ، وإلَّا لَم نَصطَحِب.
يقولُ الإمامُ أحمدُ في حَقِّ زَوجتِهِ أُمِّ ولدِهِ صَالِح مُثنِيَاً عليها: أقامَت أمُّ صالِح معي عشرينَ سنةً فَمَا اختلفتُ أنا وهِيَ في كلمة. لأنَّهُ فَهِمَهَا وفَهِمته, واحتواها واحتوته.
عباد الله, ومِنْ أساليبِ حَلِّ المشكلاتِ الزوجيَّةِ أن يتحمَّلَ الزوجُ ضعفَ المرأة وعجزَها ونفسيتَها وما يعتريها من مؤثراتٍ جسدية تؤثّرُ على سلوكِهَا بعضَ الأوقات, فليلتمس لها العُذْر, وهذا ما أرشدَنَا له النبيُّ المُربِّي r فقال: إِنَّ المَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلاَهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ. المؤمنُ يطلُبُ المعاذير، والمنافِقُ يطلُبُ الزلَّات، وحين تَحسُنُ النوايا، وتتوادُّ القلوب، يكونُ التَّعَقُّلُ والتَّحَمُّلُ والمُداراة، علاجاً لكثيرٍ من المشكلات.
ومن أساليبِ حَلِّ المُشكلاتِ الزوجية, الإنصاف, وما أقلَّهُ في زمانِنا, الإنصاف, أن لا ينسَى الزوجُ ما عند زوجته من أخلاقٍ حسنة وصفاتٍ حميدة، المنصف من اغتفَرَ قليلَ خطأِ المرءِ في كثيرِ صوابه. وهذا هو معنى قولِ النَّبِيِّ r: لَاَ يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، - أي لا يُبغِض - إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ. غَضُّ الطرفِ من شِيَمِ الكرام, ونسيانُ الإحسانِ لؤم, والوقوفُ على كُلِّ خَطَأ مدعاةٌ للنُّفْرَة, وقد قيل:
سَامِحْ أخَـــاكَ إذا خلَــــطْ      مِنْهُ الِإصَابَــةَ بالغَلَـــــطْ
وتَجَـــــــافَ عنْ تعْنيفِـــــهِ      إنْ زاغَ يَومـــاً أو قَسَطْ
واعْــلَمْ بأنّكَ إنْ طلبْـــــتَ      مُهَذَّباً رُمْــــتَ الشّطَطْ
مَنْ ذَا الذِي مَا سَاءَ قَـطُّ      وَمَنْ لهُ الـحُسْــنى فقطْ
اللَّهُمَّ يَاحَيُّ يَا قَيُّومُ يَاذَا الْجَلَالِ وَالإِكْرَامِ، نَسْأَلُكَ أَنْ تُصْلِحَ بُيُوتَنَا، وَتَحْفَظَ أَهلنا, وتَهْدِيَ زوجاتِنَا وأبنائَنَا وبناتِنَا, رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ..
عباد الله, ومن أساليبِ حَلِّ المشكلاتِ الزوجية, التروِّي, والتُّؤَدَة, وعَدَمُ الِاستعجالِ في اتخاذِ القرارِ في مواطِنِ الغَضب, وإثارةِ المشاكل, أعلمُ أنَّ كثيراً من النساء تتفنَّنُ في إثارةِ حفيظةِ الزوج, والِانفعالِ أمامَه, فعليهِ أن يُقَابِلَ أيَّ مُشكلةٍ بالحِلمِ والأَناةِ والرِّفْق واللِّين والتأنّي والعقل, واللهُ U يُعطِي عَلَى الرِفقِ مَا لَاَ يُعطِي عَلَى العُنف, وهو سبحانه يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ. وتأمَّلُوا هذه القصة,
كَانَ النَّبِيُّ r عِنْدَ أمِّ المؤمنين عَائِشَةَ t, فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِينَ بِصَحْفَةٍ فِيهَا طَعَامٌ، فَجَاءَ الخَادِمُ بالصَّحْفَةِ, فَلَمَّا رأتْهَا أمُّنَا عَائِشَةُ t غَشِيَتْهَا الغَيْرَة فَضَرَبَتِ يَدَ الخَادِمِ, فَسَقَطَتِ الصَّحْفَةُ فَانْفَلَقَتْ يعني تكسَّرَت فَقَامَ النبيُّ r بِنَفْسِهِ فَجَمَعَ فِلَقَ الصَّحْفَةِ ثُمَّ جَعَلَ r يَجْمَعُ فِيهَا الطَّعَامَ الَّذِي كَانَ فِيها، وَيَقُولُ: غَارَتْ أُمُّكُمْ, غَارَتْ أُمُّكُمْ. ثُمَّ حَبَسَ r الخَادِمَ حَتَّى أُتِيَ بِصَحْفَةٍ صَحِيحَةٍ مِنْ عِنْدِ عَائِشَة فَدَفَعَهَا إِلَى الَّتِي كُسِرَتْ صَحْفَتُهَا، وَأَمْسَكَ المَكْسُورَةَ فِي بَيْتِ عائِشَة. ولَمْ يَزِدْ على ذلك.
تأملوا رحمكم الله هذه الأناة وتلك الحكمة من النبيِّ الكريمِ r في معالجةِ هذا الخطأ واحتواءِ المشكلة قبل أن تتفَاقَم وتعظُم, كُلُّ ذلك بهدوءٍ ورفقٍ ولِين وحِلْمٍ منه r، فليكن لنا فيه المثلُ الأعلى, والقدوةُ الحسنةُ في التعامُلِ مع المشكلاتِ اليومية في حياتِنَا الزوجية.
ثم صلوا وسلموا رحمكم الله على خيرِ البريّة, وأزكى البشرية, ومعلّمِ الإنسانيةِ الخير..

السبت، 1 فبراير 2014

خطبة بـ عنوان: "عمارة المساجد"

فأوصيكم أيها الناس ويا من حضرنا في أول جمعة في هذا الجامع المبارك أوصيكم جميعاً ونفسي بتقوى الله تعالى فإنها وصيةُ اللهِ للأولين والآخرين, قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ}. فحقِّقُوا تقوى الله تعالى في مُعاملاتِكم, وتَعَامُلاتِكُم, وسائِرِ شؤونكم, وأبشروا, {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا.وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا}{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا}.
عباد الله، أحبُّ بقاعِ الأرضِ إلى اللهِ, المساجد, هكذا أخبرَنَا رسولُ اللهِ r.
المَسَاجِدُ, هي بيوتُ الله, {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا}. المَسَاجِدُ, يُرفَعُ فيها ذِكرُ الله, ويُذكَرُ فيها اسمُ الله, {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ}.
المَسَاجِدُ, مَجمعُنا اليومي ومؤتمَرُنا الإيماني, مَنْ تَعَلَّقَ قَلبُهُ بها, أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ. المَسَاجِدُ رياضُ الجنة, هي مُتَنَزَّلُ الرحمة, ومَهبَطُ الملائكة, ومَحَلُّ السكينة, قَالَ مَالِكُ ابْنُ دِينَارٍ: «إِنَّ اللَّهَ U يَقُولُ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُعَذِّبَ عِبَادِي، فَإِذَا نَظَرْتُ إِلَى جُلَسَاءِ الْقُرْآنِ, وَعُمَّارِ الْمَسَاجِدِ, وَوِلْدَانِ الْإِسْلَامِ, يَسْكُنُ غَضَبِي».
المَسَاجِدُ, قِلَاعُ المتقين, وحصونُ العلم, ودورُ المتعلمين, عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ t، قَالَ: «مَا مِنْ رَجُلٍ يَغْدُو إِلَى الْمَسْجِدِ لِخَيْرٍ يَتَعَلَّمُهُ أَوْ يُعَلِّمُهُ إِلَّا كُتِبَ لَهُ أَجْرُ مُجَاهِدٍ لَا يَنْقَلِبُ إِلَّا غَانِمًا».
عباد الله, مَنْ أرَادَ رِفعةَ الدرجات, ومَحوَ الخطيئات, وتَكثيرَ الحسنات, والمُنقَلَبَ الحَسَن في الحياةِ, وبعدَ الممات, فليَكُن من عُمَّارِ المساجِد طيلةَ الأوقات.
وعِمَارَةُ الْمَسْاجِدِ, نَوْعَانِ: الأولُ: عِمَارَةٌ حِسِّيَّةُ, بِبِنَائِهَا وَتَشْيِيدِهَا وتهيئَتِهَا. وهذا فَضلُهُ عظيم, قَالَ النَّبِيُّ r: «مَنْ بَنَى مَسْجِدًا يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللهِ بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ». والمثلية الواردة في الحديث لإيضاح أن الجزاء من جنس العمل، فهي كَمَّاً لا كيفاً؛ لأن موضِعَ شبرٍ في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها. وهذا الجزاء يشمَلُ كُلَّ مسجدٍ صغيرًا كان أم كبيرًا، أو كان بعضَ مسجد، فالمُسَاهِمُ مع غيرِهِ في بناءِ مسجد, والمُجدِّدُ له, ومَنْ أدخَلَ توسعةً عليهِ يكونُ داخلاً في الحديثِ, ويؤيّدُ هذا المعنى ما وَرَدَ في الحديث الصحيح«مَنْ بَنَى مَسْجِدًا لِلَّهِ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ، أَوْ أَصْغَرَ، بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ». الْقَطَاةُ طائرٌ صَغِيْرُ الْحَجْمِ، وَمَفْحَصُهُ مَحَلُّ عُشِّهِ وَبَيْضِهِ, وهو مكانٌ صغيرٌ جدًا، فَدَلَّ عَلَى أنَّ أيَّ تَبَرُّعٍ يُسهِمُ في بناءِ مسجد, موعودٌ صاحبه ببيت في الجنة.
والنوع الثاني من عِمَارَةِ الْمَسْجِدِ, عِمَارَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ، بِالْصَّلاةِ وَالْذِّكْرِ وَالْدُّعَاءِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآَنِ وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ والقرباتِ. وهي المرادَةُ في قولِهِ تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}, قَالَ الحافِظُ ابنُ كثير رحمه الله: «وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ عِمَارَتِهَا زَخْرَفَتَهَا وَإِقَامَةَ صُورَتِهَا فَقَطْ، إِنَّمَا عِمَارَتُهَا بِذِكْرِ اللَّهِ فِيهَا, وَإِقَامَةِ شَرْعِهِ فيها، ورفعها عن الدنس والشرك». إنَّ اللهَ تعالى امتدَحَ رِجَالاً بيوتُهُم المَسَاجِدُ, هي في قلوبِهِم, لا دنيا عنها تُشغِلُهُم ولا مَالٌ عنها يُلهيهم, قال تعالى في شأنهم: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ..ما جزاؤهم؟{لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}. قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ:«إِنَّ لِلْمَسَاجِدِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ أَوْتَادًا، جُلَسَاؤُهُمُ الْمَلَائِكَةُ، فَإِنْ فَقَدُوهُمْ سَأَلُوا عَنْهُمْ، فَإِنْ كَانُوا مَرْضَى عَادُوهُمْ، وَإِنْ كَانُوا فِي حَاجَةٍ أَعَانُوهُمْ».
هذا جزاءُ عُمَّارِهَا, ومَنْ يَرتادُهَا, ويَغدو ويروحُ إليها, بل أكثر, قَالَ النبيُّ r: «مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ، أَوْ رَاحَ، أَعَدَّ اللهُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ نُزُلًا، كُلَّمَا غَدَا، أَوْ رَاحَ». وَعَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ t قَالَ: أَدْرَكْتُ أَصْحَابَ النَّبِيِّ r وَهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْمَسَاجِدَ بُيُوتُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، وَإِنَّهُ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكْرِمَ مَنْ زَارَهُ فِيهَا. قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ t لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ، لِيَكُنِ الْمَسْجِدُ بَيْتَكَ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ r، يَقُولُ: «إِنَّ الْمَسْجِدَ بَيْتُ كُلِّ تَقِيٍّ، وَقَدْ ضَمِنَ اللَّهُ لِمَنْ كَانَتِ الْمَسَاجِدُ بُيُوتَهُمْ بِالرَّوْحِ وَالرَّحْمَةِ وَالْجَوَازِ عَلَى الصِّرَاطِ إِلَى رِضْوَانِ اللَّهِ واَلْجَنَّة».
بارك الله لي ولكم في الكتابِ والسنة, ونفعنا وإياكم بما فيهما من الآياتِ والهُدَى والحكمة, وثبَّتَنا وإياكم على ما كانَ عليهِ سَلفُ الأمَّة, وأقول قولي هذا .. إِلِخ
عباد الله خَصَّكُمُ اللهُ تعالى في هَذِهِ البُقْعَةِ من أرضِ الحرم, بهذا الجامِعِ المبارك, فَمَا المطلوبُ مِنَّا؟ ما واجِبُنَا؟ أولاً: أن نَشْكُرَ اللهَ تعالى أن هَيئَ لنَا ولَكُم مِثْلَ هذا الجامع ثُمَّ نُترجِمَ شُكرَنَا إلى واقعٍ عملي, بأن نرعى حرمةَ هذا المسجد, ونصونَه, ونعتنيَ به, ونحرِصَ على نظافتِهِ وتطهيرِه, وصيانتِهِ عن الأقذارِ الحِسيَّة, عَنْ أَنَسٍ t, أَنَّ النَّبِيَّ r رَأَى نُخَامَةً فِي المَسْجِدِ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَتَّى رُئِيَ فِي وَجْهِهِ. وَلَمَّا بَالَ أَعْرَابِيٌّ فِي طَرَفِ الْمَسْجِدِ، قَالَ لَهُ النبيُّ r: «إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ، وَلَا الْقَذَرِ, إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللهِ U، وَالصَّلَاةِ, وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ». كَمَا يَجِبُ أن يُطَهَّرَ المسجدُ عن الروائِحِ الكريهة, مِمَّا يُنَفِّرُ المصلين, ويؤذي ملائكةَ الرحمن, وإذَا كَانَ النَّبِيُّ r أَمَرَ مَنْ أكَلَ ثُومَاً أو بَصَلاً أن يَعْتَزِلَ المَسْجِد،  وَيَقْعُدَ فِي بَيْتِهِ, فكيفَ بِمَنْ يَتَعَاطَى مَا هُو أخبثُ مادةً, وأنتَنُ ريحاً؟ كَمَا يُصَانُ المسجدُ عن الأمورِ الدنيوية, من تجارةٍ, ورَفْعِ صوتٍ بكلامٍ دنيوي, سَمِعَ أَبُو الدَّرْدَاءِ t رَجُلًا، يَقُولُ لِصَاحِبِهِ فِي الْمَسْجِدِ: اشْتَرَيْتُ وَسَقَ حَطَبٍ بِكَذَا، فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: «إِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُعَمَّرْ لِهَذَا». وعَنْ خَلَفِ بْنِ أَيُّوبَ أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ، فَأَتَاهُ غُلَامُهُ يَسْأَلُهُ عَنْ شَيْءٍ، فَقَامَ فَخَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ ثُمَّ أَجَابَهُ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: مَا تَكَلَّمْتُ فِي الْمَسْجِدِ بِكَلِمِ الدُّنْيَا مُنْذُ كَذَا سَنَةٍ, فَكَرِهْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ الْيَوْمَ.
فاتقوا الله عباد الله, واعرفوا لبيوتِ اللهِ حُرمتَها, وعظّمُوا ما عظَّمَ الله, عظِّمُوا بيوتَه, ومواطِنَ عبادتِهِ, {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}.

خطبة بـ عنوان: "قصة إسلام أم أبي هريرة"

عباد الله, السيرةُ النبوية على صاحبها أفضلُ الصلاةِ والسلام, فيها ما يُهذِّبُ النفوس, وفيها ما يُصلح القلوب, وفيها ما يُزكّي الأرواح, وفيها ما يُقرّبُ من الله فيها وصايا وفوائد, وحِكَم, وأسرار, وإشارات, تُربّي أخلاقنا, وتُصلِحُ مجتمعنا, وتُقوِّم أخطائنا, وتُعدِّلُ سلوكَنَا, لابُدَّ إن كنا حقَّاً نُحِبُّ الرسولَ r أن لا نغفَلَ عن سيرتِهِ r, فنقِفُ بينَ الفَيْنَةِ والأخرى على بعض قصصها.
واليوم نَقِفُ مع قصةٍ من السيرة, مرويَّةٌ في كُتبِ السُّنَّة, هي قِصَّةُ إسلامِ أمِّ أبي هريرة t, وهي ثابتة في صحيح مسلم, يَحكيهَا أبوهريرة بنفسِهِ فيقول t: كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الْإِسْلَامِ, وَهِيَ مُشْرِكَةٌ، فَدَعَوْتُهَا يَوْمًا, فَأَسْمَعَتْنِي فِي رَسُولِ اللهِ r مَا أَكْرَهُ، يعني تكلَّمَت في النبيِّ r قال: فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ r وَأَنَا أَبْكِي، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ, إِنِّي كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الْإِسْلَامِ فَتَأْبَى عَلَيَّ، فَدَعَوْتُهَا الْيَوْمَ فَأَسْمَعَتْنِي فِيكَ مَا أَكْرَهُ، فَادْعُ اللهَ أَنْ يَهْدِيَ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ, فَقَالَ رَسُولُ اللهِ r: اللهُمَّ اهْدِ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ. فَخَرَجْتُ مُسْتَبْشِرًا بِدَعْوَةِ نَبِيِّ اللهِ r، فَلَمَّا جِئْتُ فَصِرْتُ إِلَى الْبَابِ، فَإِذَا هُوَ مُجَافٌ يعني مغلق، فَسَمِعَتْ أُمِّي خَشْفَ قَدَمَيَّ، فَقَالَتْ: مَكَانَكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ, وَسَمِعْتُ خَضْخَضَةَ الْمَاءِ، قَالَ: فَاغْتَسَلَتْ وَلَبِسَتْ دِرْعَهَا وَعَجِلَتْ عَنْ خِمَارِهَا، فَفَتَحَتِ الْبَابَ، ثُمَّ قَالَتْ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ, أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى النبيّ r وَأَنَا أَبْكِي مِنَ الْفَرَحِ, المرة الأولى جاء يبكي من الحُزنِ على أُمِّه. وهذه المرة جاءَ يبكي من الفرح, قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَبْشِرْ, قَدِ اسْتَجَابَ اللهُ دَعْوَتَكَ, وَهَدَى أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ خَيْرًا، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ ادْعُ اللهَ أَنْ يُحَبِّبَنِي أَنَا وَأُمِّي إِلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيُحَبِّبَهُمْ إِلَيْنَا، قَالَ: فَقَالَ r: اللهُمَّ حَبِّبْ عُبَيْدَكَ هَذَا يَعْنِي أَبَا هُرَيْرَةَ وَأُمَّهُ إِلَى عِبَادِكَ الْمُؤْمِنِينَ وَحَبِّبْ إِلَيْهِمِ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: فَمَا خُلِقَ مُؤْمِنٌ يَسْمَعُ بِي وَلَا يَرَانِي إِلَّا أَحَبَّنِي. انتهت.
عباد الله, في القصة فوائد وأحكام, منها, حُسنُ صُحبةِ الأم, ولو كانت على غيرِ الإسلام, أمُّ أبي هريرة كانت مشركة, ومع هذا يُحسِنُ صُحبَتَها, ويَرْعَى حَقَّهَا, ويَدعوهَا لدينِ الله, فكيفَ لو كانت مُسلمة؟ كيفَ لو كانت عابدة؟ كيفَ لو كَانت من الأمَّهاتِ الصالِحات؟ فيها إشارةٌ إلى حُسْنِ التعامل مع الأمَّهات, فَهُم أولى النَّاسِ بِبِرِنَا, وحُسنِ صُحبَتِنَا ولو كانت فاسقة أو عاصية نُحسِنُ صُحبَتَها, وننصَحُهَا بالمعروف, ونوصيها بالمعروف, ونبيّنُ لهَا طاعةَ اللهِ, ونُحذّرُهَا من معصيةِ اللهِ بالمعروف, إن طلبت الأم من ابنها معصية, فلا طاعةَ لمخلوقٍ في معصيةِ الخالق, قَالَ تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} قد يَرَى أحدُنا من أمِّهِ ما يكرَه في عادةٍ أو خُلُقٍ أو سُلوكٍ أو حتى في عبادة فلابُدَّ من حُسنِ الصحبةِ, والحكمةِ في النصيحة, لتحقيقِ معنى البر, ولا داعي للاسترسال مع الشيطان حتى يُوقِعَ المرءَ في العقوق, عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ t قَالَتْ: قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ إِذْ عَاهَدَهُمْ رَسُولُ اللهِ r فَاسْتَفْتَيْتُه, قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ رَاغِبَةٌ يعني عَنِ الْإِسْلَامِ كَارِهَةٌ لَهُ، تقول: أَفَأَصِلُ أُمِّي؟ قَالَ: نَعَمْ، صِلِي أُمَّكِ.
هذا في بِرِّهَا وهي مُشرِكة, فكيف بالمؤمنة؟ أتَى رَجُلٌ النبيَّ r قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ أَرَدْتُ الْجِهَادَ مَعَكَ أَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، قَالَ: وَيْحَكَ أَحَيَّةٌ أُمُّكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: ارْجِعْ فَبَرَّهَا. ثُمَّ أتَاهُ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ أَرَدْتُ الْجِهَادَ مَعَكَ أَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، قَالَ: وَيْحَكَ، أَحَيَّةٌ أُمُّكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَارْجِعْ إِلَيْهَا فَبَرَّهَا. ثُمَّ أَتَاهُ مِنْ أَمَامِهِ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ أَرَدْتُ الْجِهَادَ مَعَكَ، أَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، قَالَ: وَيْحَكَ، أَحَيَّةٌ أُمُّكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: وَيْحَكَ، إلْزَمْ رِجْلَهَا، فَثَمَّ الْجَنَّةُ. تأملوا عبارة: إلزم رجلها, أي كُنْ خَاضِعَاً ذليلَاً خادِمَاً مطأطأ الرأس تسمَعُ وتطيع, لماذا؟ لأن الجنة التي يطلبها المجاهدون في سبيل الله هذا طريقُها, وهُنَا مَكانُهَا, لِمَنْ طَلَبَهَا.
عباد الله, فَرَحُ أبي هريرة t بإسلامِ أُمِّه هو عينُ البِرّ, وهذا ما جعلَهُ يطمَعُ في بِرٍّ آخر, وكرمٍ من اللهِ آخر, حينَ طَلَبَ النبيَّ r أن يَدعُوَ لَهُ ولأمِّهِ, قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ, ادْعُ اللهَ أَنْ يُحَبِّبَنِي أَنَا وَأُمِّي إِلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِين وَيُحَبِّبَهُمْ إِلَيْنَا وهذا من بِرِّهِ بِهَا بعدَ إسلامِهَا ويُستفَادُ من هذه الجزئيَّةِ من القصةِ أنَّهُ يَجوزُ للعبدِ أن يَلتمِسَ دعوةَ الصالِحين, وأهلِ العلمِ والفضلِ والتُّقى ومن يُرجى بَركتُهُم مِمَّن نَحسبُهُم من الصالحين وذلك في حياتِهِم فهذا جائِز, رَأَى النَّبِيُّ r رَجُلاً يَتَقَلَّبُ فِي الرَّمْضَاءِ, وَيَقُولُ: يَا نَفْسُ نَوْمٌ بِاللَّيْلِ، وَبَاطِلٌ بِالنَّهَارِ، وتُرَجِّينَ أَنْ تَدْخُلِي الْجَنَّةَ؟ فَقَالَ r لأصحابِهِ: دُونَكُمْ أَخُوكُمْ، فقالوا للرجل: ادْعُ اللهَ لَنَا يَرْحَمْكَ اللهُ، قَالَ: اللهُمَّ اجْمَعْ عَلَى الْهُدَى أَمْرَهُمْ، قالوا: زِدْنَا، قَالَ: اللهُمَّ اجْعَلِ التَّقْوَى زَادَهُمْ، قالوا: زِدْنَا، فَقَالَ النَّبِيُّ r: زِدْهُمِ اللهُمَّ, وَفِّقْهُ، قَالَ: اللهُمَّ اجْعَلِ الْجَنَّةَ مَآبَهُمْ. فيجوزُ للعبد أن يلتمِسَ دعوةَ الصالِحين, في حياتهم أمّا بعدَ موتِهِم فلا، لأنه لا عمل لَهم فقد انتقلوا لدارِ الجزاء. وهذا وإن كان جائزاً فالمشروع والأولى للمسلم أن يتوجَّهَ إلى اللهِ مباشرةً.
عباد الله, وفي القصةِ دليلٌ على أنَّ مَنْ يُحِبُّ أبا هريرة فهو مؤمن, ومَنْ يُبغِضُهُ فهو غيرُ مؤمن, والشاهِدُ دعوةُ النبي r: اللهُمَّ حَبِّبْ أَبَا هُرَيْرَةَ وَأُمَّهُ إِلَى عِبَادِكَ الْمُؤْمِنِينَ, وقَولُ أبي هُريرة: فَمَا خُلِقَ مُؤْمِنٌ يَسْمَعُ بِي وَلَا يَرَانِي إِلَّا أَحَبَّنِي. فأهلُ السُّنَّةِ يحبونَ الصحابة جميعاً, ويحبونُ أبا هريرة, وأهلُ البدعِ والأهواء يقدحون في الصحابة, ويقدحونَ في أبي هريرة, بل يُبغِضونَه. وحُبُّ الصحابةِ دِينٌ وَإِيمَانٌ وَإِحْسَانٌ، وَبُغْضُهُم كُفْرٌ وَنِفَاقٌ وَطُغْيَانٌ. قَالَ r: مَنْ سَبَّ أَصْحَابِي فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا. يعني لا فرضاً ولا نفلاً, وأبوهريرة t من أصحابه المُقرَّبِين.
يَا سَائِلي عَنْ مَذهَبِي وعقيدتِي       رُزِقَ الهُدَى مَنْ للهدايةِ يَسْأَلُ
اِســمعْ كَلامَ مُحَقِّــــقٍ فِي قَولـِهِ       لَاَ يَنثَنِـــــــــــي عَنهُ وَلَاَ يَتَبَدَّلُ
حُبُّ الصَّحَابَةِ كُلِّهِم لِي مَذْهَبُ       وَمودَّةُ القُرْبَى بِــــهَا أتوسَّـــــلُ
بارك الله لي ولكم ..
عباد الله, الصحابةُ تَعَلُّقُهُم برسولِ الله شديد, وحبُّهُم صادق, ومودَّتُهُم صادقة, ليست مزيفة أو شعارات أو ادعاءات, الشاهد من القصة, أنَّ أبا هريرة لَمَّا دَعَا أمَّهُ إلى الِإسْلَاَم, أسمعتُهُ كلاماً قبيحاً سيئاً فِي رَسُولِ اللهِ r, أسمعتهُ مَا يَكْرَهُ، مَا يَكْرَهُ سَمَاعَهُ في النَّبِيّ r وهكذا الصحابةُ كُلُّهُم, الواحِدُ منهم يُحِبُّ رسولَ اللهِ أكثرَ من أمِّهِ وأبيه, وصاحبَتِهِ وبَنيهِ, ونفسِهِ التي بينَ جنبيه, والتعرضُّ لَهُ r يُغضِبُهُم, ويُثيرُهُم, ويَستَفِزُّهُم, ورُبَّمَا يَجعلُهُم يُقدِمونَ على أمرٍ عظيم, مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ r عَلَى عَبْدِاللَّهِ بْنِ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولَ، وَهُوَ فِي ظِلٍّ, فَلَمَّا رأى رسولَ اللهِ r قَالَ: قَدْ غَبَّرَ عَلَيْنَا ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ، يتأفَّفُ من رسولِ الله, ويَلمِزُهُ بِجَدِّهِ لِأُمِّهِ, مَنْ سَمِعَ مَقالَتَه؟ ابْنُهُ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عَبْدِاللَّهِ وكان من خِيرةِ الصحابة, سَمِعَ أباه يتأفَّفُ ويسخَرُ من رسولِ اللهِ r فَقَالَ لرسولِ اللهِ: وَالَّذِي أَكْرَمَكَ, وَأَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ, لَئِنْ شِئْتَ لَآتِيَنَّكَ بِرَأْسِهِ. يعني يقتلُ أباه, لأنه سَخِرَ من رسولِ اللهِ, فَقَالَ لَهُ الرحمةُ المهداة, قَالَ لَهُ المُعلّمُ المُربّي r: لَا، وَلَكِنْ بِرَّ أَبَاكَ, وَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُ. يَقتُلُ أباه, لأنَّهُ سَخِرَ من رسولِ اللهِ r, وهل السخريةُ من رسولِ اللهِ هيِّنَة؟ حُبُّ الرسولِ r فريضة, وجَنابُهُ مصون, والدفاعُ عنه واجب, والمسلم المُحِبُّ الصادق لا يَرضى لمنافق أو منافقة, أن يتطاولوا على رسولِ اللهِ r, أو يسخروا منه, أو يهزؤوا بسنته r, وإذا سمعوه لا يُشيعوه أو يَنشروه, لأنَّهُ من إشاعةِ الفاحشة, ونخشى أن يَغضَبَ اللهُ لرسولِهِ إن لَم تُلْجَمْ ألسنَةُ الشانئين, {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
اللهم صل على محمد ..

خطبة بـ عنوان: "من ثمرات المرض"

عباد الله, ولأنَّ الدنيا ناقصةٌ, فلذَّاتُها يشوبُها كَدَر, وكُلُّ ما فيها من نعيمٍ يعترِيهِ نقص, فصحةُ الأجساد, وعافيةُ الأبدان, لا تدومُ وإن دامت فناقصة حيث تُصيبُها الأسقامُ والأمراضُ بين الفينة والأخرى, ولا يسلم من ذلك بشر,
ثمانيةٌ لابُدَّ منها على الفَتَى          ولابُدَّ أن تَجريَ عليهِ الثمانيه
سرورٌ وهمٌّ واجتماعٌ وفرقةٌ          ويُسْرٌ وعُسْرٌ ثم سُقْمٌ وعافية
المسلم لن يسلم في الدنيا من المرض والبلاء, وهذه حكمةٌ ماضية, وسُنةٌ جارية, عن كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ r: مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الْخَامَةِ مِنَ الزَّرْعِ، تُفِيئُهَا الرِّيحُ، تَصْرَعُهَا مَرَّةً وَتَعْدِلُهَا أُخْرَى حَتَّى تَهِيجَ، وَمَثَلُ الْكَافِرِ كَمَثَلِ الْأَرْزَةِ الْمُجْذِيَةِ عَلَى أَصْلِهَا، لَا يُفِيئُهَا شَيْءٌ، حَتَّى يَكُونَ انْجِعَافُهَا مَرَّةً وَاحِدَةً. فالمسلم كالزرع أوَّل ما يَنبتُ يكون غضًّا، تُميلُهُ الريحُ مع كلِّ جِهة, وهذه كناية, عَلَى أَنَّ المؤمنَ كثيرُ الآلام في بَدَنه أو أهْله أو ماله، بخلاف الكافر, فهو قليل المصائب كالشجرة الصُّلبة تميلُ مَيْلة واحدةً فيها مَوتُها.
عباد الله, لولا هذه الأسقام والأمراض التي تصيبنا مع احتسابنا وصبرنا لوردنا القيامة مفاليس, فهي في ظاهرها ألم وشدة, وفي باطنها تخفيف ورحمة, في ظاهرها مشقة, وفي باطنِها رفعة مرض المسلم كفَّارةٌ لسيِّئاته، ورِفعةٌ لدرجاته, وزيادةٌ في حسناته, قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ r وَهُوَ يُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا، فَمَسِسْتُهُ بِيَدِي فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا؟ فَقَالَ r: أَجَلْ، إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلاَنِ مِنْكُمْ. فَقُلْتُ: ذَلِكَ أَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ؟ قَالَ: أَجَلْ. ثُمَّ قَالَ r:مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى، مَرَضٌ فَمَا سِوَاهُ، إِلَّا حَطَّ اللَّهُ لَهُ سَيِّئَاتِهِ، كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا.
فالأمراض وإنْ قَلَّتْ يؤْجَرُ المسلمُ عليها، وتُكَفَّرُ عنه بِهَا خطاياه؛ حتى يمشيَ على الأرضِ وليستْ عليه خطيئة. عَنْ أُمِّ الْعَلَاءِ قَالَتْ: عَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ r وَأَنَا مَرِيضَةٌ، فَقَالَ: أَبْشِرِي يَا أُمَّ الْعَلَاءِ، فَإِنَّ مَرَضَ الْمُسْلِمِ يُذْهِبُ اللَّهُ بِهِ خَطَايَاهُ، كَمَا تُذْهِبُ النَّارُ خَبَثَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. واشتدادُ المرضِ ودوامُهُ خيرٌ لصاحبه، وليسَ في ذلك دليلٌ على أنَّ به هوانًا على ربِّه, كلا, سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ r: أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟ قَالَ: الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ البَلَاءُ بِالعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ.
فالمرضُ ليس شرّاً كُلَّه, بل فيهِ خير, وخيرٌ كثير, إن صبرَنا ورضيَنا, فهو سببٌ من أسبابِ تطهيرِنا قبل قُدومِنا على ربِّنا, دَخَلَ النبيُّ r عَلَى أُمِّ السَّائِبِ فَقَالَ: مَا لَكِ؟ يَا أُمَّ السَّائِبِ تُزَفْزِفِينَ؟ قَالَتْ: الْحُمَّى، لَا بَارَكَ اللهُ فِيهَا، فَقَالَ: لَا تَسُبِّي الْحُمَّى، فَإِنَّهَا تُذْهِبُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ، كَمَا يُذْهِبُ الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ.
فالحرارةُ المتكرِّرة التي تَعرِضُ لنا في الصيفِ وفي الشتاء من منافعِهَا: تكفيرُ السيِّئات؛ قال أبو هريرة t: ما مِن وَجَعٍ يُصيبني أحبَّ إليّ من الْحُمَّى, إنَّها تَدخُلُ في كُلِّ مَفْصِلٍ من ابن آدمَ، وإنَّ الله ليُعْطِيَ كلَّ مَفْصِل قِسْطًا من الأجْر.
تِلكُم من ثمراتِ المرضِ, ولا يعني ما ذكرناهُ, أن يتمناهُ المرءُ لنفسِهِ قبلَ وقوعِهِ, كَلَّا, بل إنَّ الشارِعَ الحكيمَ علَّمَنَا أن نسألَ اللهَ العافية, وأنّها خيرُ عطاءٍ بعدَ اليقين ففي الحديث: سَلُوا اللَّهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فَإِنَّهُ مَا أُوتِيَ عَبْدٌ بَعْدَ يَقِينٍ شَيْئًا خَيْرًا مِنَ الْعَافِيَةِ, قَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ ابْنُ أَبِي بَكْرَةَ لِأَبِيهِ: يَا أَبَتِ, إِنِّي أَسْمَعُكَ تَدْعُو كُلَّ غَدَاةٍ, اللَّهُمَّ عَافِنِي فِي بَدَنِي، اللَّهُمَّ عَافِنِي فِي سَمْعِي، اللَّهُمَّ عَافِنِي فِي بَصَرِي، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، تُعِيدُهَا ثَلَاثًا، حِينَ تُصْبِحُ، وَثَلَاثًا حِينَ تُمْسِي. فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ r يَدْعُو بِهِنَّ, فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَسْتَنَّ بِسُنَّتِهِ.
قَالَ أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ: سَمِعْتُ عُثْمَانَ ابْنَ عَفَّانَt، يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ r يَقُولُ: مَنْ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ الَّذِي لَا يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَيْءٌ، فِي الْأَرْضِ، وَلَا فِي السَّمَاءِ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، لَمْ تُصِبْهُ فَجْأَةُ بَلَاءٍ، حَتَّى يُصْبِحَ، وَمَنْ قَالَهَا حِينَ يُصْبِحُ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ، لَمْ تُصِبْهُ فَجْأَةُ بَلَاءٍ حَتَّى يُمْسِيَ. فَأَصَابَ أَبَانَ بْنَ عُثْمَانَ الْفَالِجُ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ الَّذِي سَمِعَ مِنْهُ الْحَدِيثَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: مَا لَكَ تَنْظُرُ إِلَيَّ؟ فَوَاللَّهِ مَا كَذَبْتُ عَلَى عُثْمَانَ, وَلَا كَذَبَ عُثْمَانُ عَلَى النَّبِيِّ r, وَلَكِنَّ الْيَوْمَ الَّذِي أَصَابَنِي فِيهِ غَضِبْتُ فَنَسِيتُ أَنْ أَقُولَهَا.
فاللهم لك الحمد على ما تأخُذُ وما تُعطِي, وعلى ما تُعَافي وما تَبتلي. أقول قولي هذا
عباد الله, التوقي من الأمراض والعملُ على دَفْعها قبلَ وقوعها مُباح فمثلاً اللِّقَاحات التي تُعْطَى عن أمراضٍ مُحتملة مُباحة إذا اعْتُقِد أنَّها مجرَّدُ سببٍ من الأسباب, وأنَّ دافِعَ البلاء هو الله وحده, وقد جاء في السُّنة ما يدل على جواز ذلك, قَالَ النَّبِيُّ r: مَنْ تَصَبَّحَ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعَ تَمَرَاتٍ عَجْوَةً، لَمْ يَضُرَّهُ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ سُمٌّ وَلاَ سِحْرٌ. فالتصبُّح بسبعٍ من عَجْوة المدينة سببٌ لدَفْع مرضٍ مُحْتمَل لَم يَقَعْ. فكأنها لِقَاحٌ, لا يُعتقَدُ فيهِ, لكنَّه سبب, {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
اللَّهُمَّ اشف مرضانا ومرضى المسلمين, اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ مُذْهِبَ الْبَأْسِ، اشْفِهم أَنْتَ الشَّافِي، لَا شَافِيَ إِلَّا أَنْتَ، اشْفِهِم شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا يا أرحم الراحمين,
هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله ..