السبت، 1 فبراير 2014

خطبة بـ عنوان: "قصة إسلام أم أبي هريرة"

عباد الله, السيرةُ النبوية على صاحبها أفضلُ الصلاةِ والسلام, فيها ما يُهذِّبُ النفوس, وفيها ما يُصلح القلوب, وفيها ما يُزكّي الأرواح, وفيها ما يُقرّبُ من الله فيها وصايا وفوائد, وحِكَم, وأسرار, وإشارات, تُربّي أخلاقنا, وتُصلِحُ مجتمعنا, وتُقوِّم أخطائنا, وتُعدِّلُ سلوكَنَا, لابُدَّ إن كنا حقَّاً نُحِبُّ الرسولَ r أن لا نغفَلَ عن سيرتِهِ r, فنقِفُ بينَ الفَيْنَةِ والأخرى على بعض قصصها.
واليوم نَقِفُ مع قصةٍ من السيرة, مرويَّةٌ في كُتبِ السُّنَّة, هي قِصَّةُ إسلامِ أمِّ أبي هريرة t, وهي ثابتة في صحيح مسلم, يَحكيهَا أبوهريرة بنفسِهِ فيقول t: كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الْإِسْلَامِ, وَهِيَ مُشْرِكَةٌ، فَدَعَوْتُهَا يَوْمًا, فَأَسْمَعَتْنِي فِي رَسُولِ اللهِ r مَا أَكْرَهُ، يعني تكلَّمَت في النبيِّ r قال: فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ r وَأَنَا أَبْكِي، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ, إِنِّي كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الْإِسْلَامِ فَتَأْبَى عَلَيَّ، فَدَعَوْتُهَا الْيَوْمَ فَأَسْمَعَتْنِي فِيكَ مَا أَكْرَهُ، فَادْعُ اللهَ أَنْ يَهْدِيَ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ, فَقَالَ رَسُولُ اللهِ r: اللهُمَّ اهْدِ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ. فَخَرَجْتُ مُسْتَبْشِرًا بِدَعْوَةِ نَبِيِّ اللهِ r، فَلَمَّا جِئْتُ فَصِرْتُ إِلَى الْبَابِ، فَإِذَا هُوَ مُجَافٌ يعني مغلق، فَسَمِعَتْ أُمِّي خَشْفَ قَدَمَيَّ، فَقَالَتْ: مَكَانَكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ, وَسَمِعْتُ خَضْخَضَةَ الْمَاءِ، قَالَ: فَاغْتَسَلَتْ وَلَبِسَتْ دِرْعَهَا وَعَجِلَتْ عَنْ خِمَارِهَا، فَفَتَحَتِ الْبَابَ، ثُمَّ قَالَتْ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ, أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى النبيّ r وَأَنَا أَبْكِي مِنَ الْفَرَحِ, المرة الأولى جاء يبكي من الحُزنِ على أُمِّه. وهذه المرة جاءَ يبكي من الفرح, قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَبْشِرْ, قَدِ اسْتَجَابَ اللهُ دَعْوَتَكَ, وَهَدَى أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ خَيْرًا، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ ادْعُ اللهَ أَنْ يُحَبِّبَنِي أَنَا وَأُمِّي إِلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيُحَبِّبَهُمْ إِلَيْنَا، قَالَ: فَقَالَ r: اللهُمَّ حَبِّبْ عُبَيْدَكَ هَذَا يَعْنِي أَبَا هُرَيْرَةَ وَأُمَّهُ إِلَى عِبَادِكَ الْمُؤْمِنِينَ وَحَبِّبْ إِلَيْهِمِ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: فَمَا خُلِقَ مُؤْمِنٌ يَسْمَعُ بِي وَلَا يَرَانِي إِلَّا أَحَبَّنِي. انتهت.
عباد الله, في القصة فوائد وأحكام, منها, حُسنُ صُحبةِ الأم, ولو كانت على غيرِ الإسلام, أمُّ أبي هريرة كانت مشركة, ومع هذا يُحسِنُ صُحبَتَها, ويَرْعَى حَقَّهَا, ويَدعوهَا لدينِ الله, فكيفَ لو كانت مُسلمة؟ كيفَ لو كانت عابدة؟ كيفَ لو كَانت من الأمَّهاتِ الصالِحات؟ فيها إشارةٌ إلى حُسْنِ التعامل مع الأمَّهات, فَهُم أولى النَّاسِ بِبِرِنَا, وحُسنِ صُحبَتِنَا ولو كانت فاسقة أو عاصية نُحسِنُ صُحبَتَها, وننصَحُهَا بالمعروف, ونوصيها بالمعروف, ونبيّنُ لهَا طاعةَ اللهِ, ونُحذّرُهَا من معصيةِ اللهِ بالمعروف, إن طلبت الأم من ابنها معصية, فلا طاعةَ لمخلوقٍ في معصيةِ الخالق, قَالَ تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} قد يَرَى أحدُنا من أمِّهِ ما يكرَه في عادةٍ أو خُلُقٍ أو سُلوكٍ أو حتى في عبادة فلابُدَّ من حُسنِ الصحبةِ, والحكمةِ في النصيحة, لتحقيقِ معنى البر, ولا داعي للاسترسال مع الشيطان حتى يُوقِعَ المرءَ في العقوق, عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ t قَالَتْ: قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ إِذْ عَاهَدَهُمْ رَسُولُ اللهِ r فَاسْتَفْتَيْتُه, قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ رَاغِبَةٌ يعني عَنِ الْإِسْلَامِ كَارِهَةٌ لَهُ، تقول: أَفَأَصِلُ أُمِّي؟ قَالَ: نَعَمْ، صِلِي أُمَّكِ.
هذا في بِرِّهَا وهي مُشرِكة, فكيف بالمؤمنة؟ أتَى رَجُلٌ النبيَّ r قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ أَرَدْتُ الْجِهَادَ مَعَكَ أَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، قَالَ: وَيْحَكَ أَحَيَّةٌ أُمُّكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: ارْجِعْ فَبَرَّهَا. ثُمَّ أتَاهُ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ أَرَدْتُ الْجِهَادَ مَعَكَ أَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، قَالَ: وَيْحَكَ، أَحَيَّةٌ أُمُّكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَارْجِعْ إِلَيْهَا فَبَرَّهَا. ثُمَّ أَتَاهُ مِنْ أَمَامِهِ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ أَرَدْتُ الْجِهَادَ مَعَكَ، أَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، قَالَ: وَيْحَكَ، أَحَيَّةٌ أُمُّكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: وَيْحَكَ، إلْزَمْ رِجْلَهَا، فَثَمَّ الْجَنَّةُ. تأملوا عبارة: إلزم رجلها, أي كُنْ خَاضِعَاً ذليلَاً خادِمَاً مطأطأ الرأس تسمَعُ وتطيع, لماذا؟ لأن الجنة التي يطلبها المجاهدون في سبيل الله هذا طريقُها, وهُنَا مَكانُهَا, لِمَنْ طَلَبَهَا.
عباد الله, فَرَحُ أبي هريرة t بإسلامِ أُمِّه هو عينُ البِرّ, وهذا ما جعلَهُ يطمَعُ في بِرٍّ آخر, وكرمٍ من اللهِ آخر, حينَ طَلَبَ النبيَّ r أن يَدعُوَ لَهُ ولأمِّهِ, قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ, ادْعُ اللهَ أَنْ يُحَبِّبَنِي أَنَا وَأُمِّي إِلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِين وَيُحَبِّبَهُمْ إِلَيْنَا وهذا من بِرِّهِ بِهَا بعدَ إسلامِهَا ويُستفَادُ من هذه الجزئيَّةِ من القصةِ أنَّهُ يَجوزُ للعبدِ أن يَلتمِسَ دعوةَ الصالِحين, وأهلِ العلمِ والفضلِ والتُّقى ومن يُرجى بَركتُهُم مِمَّن نَحسبُهُم من الصالحين وذلك في حياتِهِم فهذا جائِز, رَأَى النَّبِيُّ r رَجُلاً يَتَقَلَّبُ فِي الرَّمْضَاءِ, وَيَقُولُ: يَا نَفْسُ نَوْمٌ بِاللَّيْلِ، وَبَاطِلٌ بِالنَّهَارِ، وتُرَجِّينَ أَنْ تَدْخُلِي الْجَنَّةَ؟ فَقَالَ r لأصحابِهِ: دُونَكُمْ أَخُوكُمْ، فقالوا للرجل: ادْعُ اللهَ لَنَا يَرْحَمْكَ اللهُ، قَالَ: اللهُمَّ اجْمَعْ عَلَى الْهُدَى أَمْرَهُمْ، قالوا: زِدْنَا، قَالَ: اللهُمَّ اجْعَلِ التَّقْوَى زَادَهُمْ، قالوا: زِدْنَا، فَقَالَ النَّبِيُّ r: زِدْهُمِ اللهُمَّ, وَفِّقْهُ، قَالَ: اللهُمَّ اجْعَلِ الْجَنَّةَ مَآبَهُمْ. فيجوزُ للعبد أن يلتمِسَ دعوةَ الصالِحين, في حياتهم أمّا بعدَ موتِهِم فلا، لأنه لا عمل لَهم فقد انتقلوا لدارِ الجزاء. وهذا وإن كان جائزاً فالمشروع والأولى للمسلم أن يتوجَّهَ إلى اللهِ مباشرةً.
عباد الله, وفي القصةِ دليلٌ على أنَّ مَنْ يُحِبُّ أبا هريرة فهو مؤمن, ومَنْ يُبغِضُهُ فهو غيرُ مؤمن, والشاهِدُ دعوةُ النبي r: اللهُمَّ حَبِّبْ أَبَا هُرَيْرَةَ وَأُمَّهُ إِلَى عِبَادِكَ الْمُؤْمِنِينَ, وقَولُ أبي هُريرة: فَمَا خُلِقَ مُؤْمِنٌ يَسْمَعُ بِي وَلَا يَرَانِي إِلَّا أَحَبَّنِي. فأهلُ السُّنَّةِ يحبونَ الصحابة جميعاً, ويحبونُ أبا هريرة, وأهلُ البدعِ والأهواء يقدحون في الصحابة, ويقدحونَ في أبي هريرة, بل يُبغِضونَه. وحُبُّ الصحابةِ دِينٌ وَإِيمَانٌ وَإِحْسَانٌ، وَبُغْضُهُم كُفْرٌ وَنِفَاقٌ وَطُغْيَانٌ. قَالَ r: مَنْ سَبَّ أَصْحَابِي فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا. يعني لا فرضاً ولا نفلاً, وأبوهريرة t من أصحابه المُقرَّبِين.
يَا سَائِلي عَنْ مَذهَبِي وعقيدتِي       رُزِقَ الهُدَى مَنْ للهدايةِ يَسْأَلُ
اِســمعْ كَلامَ مُحَقِّــــقٍ فِي قَولـِهِ       لَاَ يَنثَنِـــــــــــي عَنهُ وَلَاَ يَتَبَدَّلُ
حُبُّ الصَّحَابَةِ كُلِّهِم لِي مَذْهَبُ       وَمودَّةُ القُرْبَى بِــــهَا أتوسَّـــــلُ
بارك الله لي ولكم ..
عباد الله, الصحابةُ تَعَلُّقُهُم برسولِ الله شديد, وحبُّهُم صادق, ومودَّتُهُم صادقة, ليست مزيفة أو شعارات أو ادعاءات, الشاهد من القصة, أنَّ أبا هريرة لَمَّا دَعَا أمَّهُ إلى الِإسْلَاَم, أسمعتُهُ كلاماً قبيحاً سيئاً فِي رَسُولِ اللهِ r, أسمعتهُ مَا يَكْرَهُ، مَا يَكْرَهُ سَمَاعَهُ في النَّبِيّ r وهكذا الصحابةُ كُلُّهُم, الواحِدُ منهم يُحِبُّ رسولَ اللهِ أكثرَ من أمِّهِ وأبيه, وصاحبَتِهِ وبَنيهِ, ونفسِهِ التي بينَ جنبيه, والتعرضُّ لَهُ r يُغضِبُهُم, ويُثيرُهُم, ويَستَفِزُّهُم, ورُبَّمَا يَجعلُهُم يُقدِمونَ على أمرٍ عظيم, مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ r عَلَى عَبْدِاللَّهِ بْنِ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولَ، وَهُوَ فِي ظِلٍّ, فَلَمَّا رأى رسولَ اللهِ r قَالَ: قَدْ غَبَّرَ عَلَيْنَا ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ، يتأفَّفُ من رسولِ الله, ويَلمِزُهُ بِجَدِّهِ لِأُمِّهِ, مَنْ سَمِعَ مَقالَتَه؟ ابْنُهُ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عَبْدِاللَّهِ وكان من خِيرةِ الصحابة, سَمِعَ أباه يتأفَّفُ ويسخَرُ من رسولِ اللهِ r فَقَالَ لرسولِ اللهِ: وَالَّذِي أَكْرَمَكَ, وَأَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ, لَئِنْ شِئْتَ لَآتِيَنَّكَ بِرَأْسِهِ. يعني يقتلُ أباه, لأنه سَخِرَ من رسولِ اللهِ, فَقَالَ لَهُ الرحمةُ المهداة, قَالَ لَهُ المُعلّمُ المُربّي r: لَا، وَلَكِنْ بِرَّ أَبَاكَ, وَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُ. يَقتُلُ أباه, لأنَّهُ سَخِرَ من رسولِ اللهِ r, وهل السخريةُ من رسولِ اللهِ هيِّنَة؟ حُبُّ الرسولِ r فريضة, وجَنابُهُ مصون, والدفاعُ عنه واجب, والمسلم المُحِبُّ الصادق لا يَرضى لمنافق أو منافقة, أن يتطاولوا على رسولِ اللهِ r, أو يسخروا منه, أو يهزؤوا بسنته r, وإذا سمعوه لا يُشيعوه أو يَنشروه, لأنَّهُ من إشاعةِ الفاحشة, ونخشى أن يَغضَبَ اللهُ لرسولِهِ إن لَم تُلْجَمْ ألسنَةُ الشانئين, {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
اللهم صل على محمد ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق