السبت، 1 فبراير 2014

خطبة بـ عنوان: "عمارة المساجد"

فأوصيكم أيها الناس ويا من حضرنا في أول جمعة في هذا الجامع المبارك أوصيكم جميعاً ونفسي بتقوى الله تعالى فإنها وصيةُ اللهِ للأولين والآخرين, قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ}. فحقِّقُوا تقوى الله تعالى في مُعاملاتِكم, وتَعَامُلاتِكُم, وسائِرِ شؤونكم, وأبشروا, {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا.وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا}{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا}.
عباد الله، أحبُّ بقاعِ الأرضِ إلى اللهِ, المساجد, هكذا أخبرَنَا رسولُ اللهِ r.
المَسَاجِدُ, هي بيوتُ الله, {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا}. المَسَاجِدُ, يُرفَعُ فيها ذِكرُ الله, ويُذكَرُ فيها اسمُ الله, {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ}.
المَسَاجِدُ, مَجمعُنا اليومي ومؤتمَرُنا الإيماني, مَنْ تَعَلَّقَ قَلبُهُ بها, أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ. المَسَاجِدُ رياضُ الجنة, هي مُتَنَزَّلُ الرحمة, ومَهبَطُ الملائكة, ومَحَلُّ السكينة, قَالَ مَالِكُ ابْنُ دِينَارٍ: «إِنَّ اللَّهَ U يَقُولُ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُعَذِّبَ عِبَادِي، فَإِذَا نَظَرْتُ إِلَى جُلَسَاءِ الْقُرْآنِ, وَعُمَّارِ الْمَسَاجِدِ, وَوِلْدَانِ الْإِسْلَامِ, يَسْكُنُ غَضَبِي».
المَسَاجِدُ, قِلَاعُ المتقين, وحصونُ العلم, ودورُ المتعلمين, عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ t، قَالَ: «مَا مِنْ رَجُلٍ يَغْدُو إِلَى الْمَسْجِدِ لِخَيْرٍ يَتَعَلَّمُهُ أَوْ يُعَلِّمُهُ إِلَّا كُتِبَ لَهُ أَجْرُ مُجَاهِدٍ لَا يَنْقَلِبُ إِلَّا غَانِمًا».
عباد الله, مَنْ أرَادَ رِفعةَ الدرجات, ومَحوَ الخطيئات, وتَكثيرَ الحسنات, والمُنقَلَبَ الحَسَن في الحياةِ, وبعدَ الممات, فليَكُن من عُمَّارِ المساجِد طيلةَ الأوقات.
وعِمَارَةُ الْمَسْاجِدِ, نَوْعَانِ: الأولُ: عِمَارَةٌ حِسِّيَّةُ, بِبِنَائِهَا وَتَشْيِيدِهَا وتهيئَتِهَا. وهذا فَضلُهُ عظيم, قَالَ النَّبِيُّ r: «مَنْ بَنَى مَسْجِدًا يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللهِ بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ». والمثلية الواردة في الحديث لإيضاح أن الجزاء من جنس العمل، فهي كَمَّاً لا كيفاً؛ لأن موضِعَ شبرٍ في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها. وهذا الجزاء يشمَلُ كُلَّ مسجدٍ صغيرًا كان أم كبيرًا، أو كان بعضَ مسجد، فالمُسَاهِمُ مع غيرِهِ في بناءِ مسجد, والمُجدِّدُ له, ومَنْ أدخَلَ توسعةً عليهِ يكونُ داخلاً في الحديثِ, ويؤيّدُ هذا المعنى ما وَرَدَ في الحديث الصحيح«مَنْ بَنَى مَسْجِدًا لِلَّهِ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ، أَوْ أَصْغَرَ، بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ». الْقَطَاةُ طائرٌ صَغِيْرُ الْحَجْمِ، وَمَفْحَصُهُ مَحَلُّ عُشِّهِ وَبَيْضِهِ, وهو مكانٌ صغيرٌ جدًا، فَدَلَّ عَلَى أنَّ أيَّ تَبَرُّعٍ يُسهِمُ في بناءِ مسجد, موعودٌ صاحبه ببيت في الجنة.
والنوع الثاني من عِمَارَةِ الْمَسْجِدِ, عِمَارَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ، بِالْصَّلاةِ وَالْذِّكْرِ وَالْدُّعَاءِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآَنِ وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ والقرباتِ. وهي المرادَةُ في قولِهِ تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}, قَالَ الحافِظُ ابنُ كثير رحمه الله: «وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ عِمَارَتِهَا زَخْرَفَتَهَا وَإِقَامَةَ صُورَتِهَا فَقَطْ، إِنَّمَا عِمَارَتُهَا بِذِكْرِ اللَّهِ فِيهَا, وَإِقَامَةِ شَرْعِهِ فيها، ورفعها عن الدنس والشرك». إنَّ اللهَ تعالى امتدَحَ رِجَالاً بيوتُهُم المَسَاجِدُ, هي في قلوبِهِم, لا دنيا عنها تُشغِلُهُم ولا مَالٌ عنها يُلهيهم, قال تعالى في شأنهم: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ..ما جزاؤهم؟{لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}. قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ:«إِنَّ لِلْمَسَاجِدِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ أَوْتَادًا، جُلَسَاؤُهُمُ الْمَلَائِكَةُ، فَإِنْ فَقَدُوهُمْ سَأَلُوا عَنْهُمْ، فَإِنْ كَانُوا مَرْضَى عَادُوهُمْ، وَإِنْ كَانُوا فِي حَاجَةٍ أَعَانُوهُمْ».
هذا جزاءُ عُمَّارِهَا, ومَنْ يَرتادُهَا, ويَغدو ويروحُ إليها, بل أكثر, قَالَ النبيُّ r: «مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ، أَوْ رَاحَ، أَعَدَّ اللهُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ نُزُلًا، كُلَّمَا غَدَا، أَوْ رَاحَ». وَعَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ t قَالَ: أَدْرَكْتُ أَصْحَابَ النَّبِيِّ r وَهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْمَسَاجِدَ بُيُوتُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، وَإِنَّهُ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكْرِمَ مَنْ زَارَهُ فِيهَا. قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ t لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ، لِيَكُنِ الْمَسْجِدُ بَيْتَكَ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ r، يَقُولُ: «إِنَّ الْمَسْجِدَ بَيْتُ كُلِّ تَقِيٍّ، وَقَدْ ضَمِنَ اللَّهُ لِمَنْ كَانَتِ الْمَسَاجِدُ بُيُوتَهُمْ بِالرَّوْحِ وَالرَّحْمَةِ وَالْجَوَازِ عَلَى الصِّرَاطِ إِلَى رِضْوَانِ اللَّهِ واَلْجَنَّة».
بارك الله لي ولكم في الكتابِ والسنة, ونفعنا وإياكم بما فيهما من الآياتِ والهُدَى والحكمة, وثبَّتَنا وإياكم على ما كانَ عليهِ سَلفُ الأمَّة, وأقول قولي هذا .. إِلِخ
عباد الله خَصَّكُمُ اللهُ تعالى في هَذِهِ البُقْعَةِ من أرضِ الحرم, بهذا الجامِعِ المبارك, فَمَا المطلوبُ مِنَّا؟ ما واجِبُنَا؟ أولاً: أن نَشْكُرَ اللهَ تعالى أن هَيئَ لنَا ولَكُم مِثْلَ هذا الجامع ثُمَّ نُترجِمَ شُكرَنَا إلى واقعٍ عملي, بأن نرعى حرمةَ هذا المسجد, ونصونَه, ونعتنيَ به, ونحرِصَ على نظافتِهِ وتطهيرِه, وصيانتِهِ عن الأقذارِ الحِسيَّة, عَنْ أَنَسٍ t, أَنَّ النَّبِيَّ r رَأَى نُخَامَةً فِي المَسْجِدِ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَتَّى رُئِيَ فِي وَجْهِهِ. وَلَمَّا بَالَ أَعْرَابِيٌّ فِي طَرَفِ الْمَسْجِدِ، قَالَ لَهُ النبيُّ r: «إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ، وَلَا الْقَذَرِ, إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللهِ U، وَالصَّلَاةِ, وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ». كَمَا يَجِبُ أن يُطَهَّرَ المسجدُ عن الروائِحِ الكريهة, مِمَّا يُنَفِّرُ المصلين, ويؤذي ملائكةَ الرحمن, وإذَا كَانَ النَّبِيُّ r أَمَرَ مَنْ أكَلَ ثُومَاً أو بَصَلاً أن يَعْتَزِلَ المَسْجِد،  وَيَقْعُدَ فِي بَيْتِهِ, فكيفَ بِمَنْ يَتَعَاطَى مَا هُو أخبثُ مادةً, وأنتَنُ ريحاً؟ كَمَا يُصَانُ المسجدُ عن الأمورِ الدنيوية, من تجارةٍ, ورَفْعِ صوتٍ بكلامٍ دنيوي, سَمِعَ أَبُو الدَّرْدَاءِ t رَجُلًا، يَقُولُ لِصَاحِبِهِ فِي الْمَسْجِدِ: اشْتَرَيْتُ وَسَقَ حَطَبٍ بِكَذَا، فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: «إِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُعَمَّرْ لِهَذَا». وعَنْ خَلَفِ بْنِ أَيُّوبَ أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ، فَأَتَاهُ غُلَامُهُ يَسْأَلُهُ عَنْ شَيْءٍ، فَقَامَ فَخَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ ثُمَّ أَجَابَهُ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: مَا تَكَلَّمْتُ فِي الْمَسْجِدِ بِكَلِمِ الدُّنْيَا مُنْذُ كَذَا سَنَةٍ, فَكَرِهْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ الْيَوْمَ.
فاتقوا الله عباد الله, واعرفوا لبيوتِ اللهِ حُرمتَها, وعظّمُوا ما عظَّمَ الله, عظِّمُوا بيوتَه, ومواطِنَ عبادتِهِ, {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق