عباد الله, احْتُبِسَ رَسُولُ اللَّهِ r يوماً عن أصحابِهِ في صَلَاةِ الصُّبْحِ وهم ينتظرونه, حَتَّى كادوا يرون الشمس, فَخَرَجَ r عليهم سَرِيعًا, فأقاموا الصَّلَاةَ، فَصَلَّى بِهِم, وَتَجَوَّزَ فِي صَلَاتِهِ، يعني خَفَّف, فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ لأصحابِهِ: «عَلَى مَصَافِّكُمْ كَمَا أَنْتُمْ» يعني إبقوا في أماكنكم, ثُمَّ قَالَ: «أَمَا إِنِّي سَأُحَدِّثُكُمْ مَا حَبَسَنِي عَنْكُمُ: أَنِّي قُمْتُ مِنَ اللَّيْلِ فَتَوَضَّأْتُ فَصَلَّيْتُ مَا قُدِّرَ لِي فَنَعَسْتُ فِي صَلَاتِي فَاسْتَثْقَلْتُ نَوْمًا, فَرَأَيْتُ رَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ. فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ. قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَبِّ، قَالَ: فِيمَ يَخْتَصِمُ المَلَأُ الأَعْلَى؟ قُلْتُ: لَا أَدْرِي رَبِّ. قَالَ r: فَوَضَعَ كَفَّهُ بَيْنَ كَتِفَيَّ حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ أَنَامِلِهِ بَيْنَ ثَدْيَيَّ، فَتَجَلَّى لِي كُلُّ شَيْءٍ, وَعَلِمْتُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ.فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَبِّ، قَالَ: فِيمَ يَخْتَصِمُ المَلَأُ الأَعْلَى؟ قُلْتُ فِي الكَفَّارَاتِ قَالَ: مَا هُنَّ؟ قُلْتُ: مَشْيُ الأَقْدَامِ إِلَى الجَمَاعَاتِ، وَالجُلُوسُ فِي المَسَاجِدِ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ، وَإِسْبَاغُ الوُضُوءِ فِي المَكْرُوهَاتِ، قَالَ: ثُمَّ فِيمَ؟ قُلْتُ: وَالدَّرَجَاتِ, قَالَ: مَا هُنَّ؟ قُلْتُ: إِطْعَامُ الطَّعَامِ، وَلِينُ الكَلَامِ، وَالصَّلَاةُ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ. وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَاشَ بِخَيْرٍ، وَمَاتَ بِخَيْرٍ، وَكَانَ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ، ثم قَالَ: سَلْ. فَقَالَ r: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ المُنْكَرَاتِ، وَحُبَّ المَسَاكِينِ، وَأَنْ تَغْفِرَ لِي وَتَرْحَمَنِي، وَإِذَا أَرَدْتَ فِتْنَةً فِي قَوْمٍ, فَتَوَفَّنِي غَيْرَ مَفْتُونٍ، وَأَسْأَلُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ، وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُ إِلَى حُبِّكَ، ثُمَّ قَالَ r: «إِنَّهَا حَقٌّ فَادْرُسُوهَا ثُمَّ تَعَلَّمُوهَا».
عباد الله, هذه الرؤية لله تعالى كانت في المنام, رآه rفي منامه, والله تعالى لا يُرى يقظةً في الدنيا, هذه هي عقيدة أهل السنة والجماعة, رآه rفي منامه, وَرُؤْيَا الأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ, فرَسُولُ اللَّهِ r تَنَامُ عَيْنُهُ وَلاَ يَنَامُ قَلْبُهُ, رآه rعلى هذه الصورة, لكنها ليست الصورة الحقيقية لله, حاشا ربنا تعالى, فجواز رؤية الله في المنام بأي صورة, لا تدل على أنه هو على حقيقته بهذا الشكل, تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً, فاللهُ تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير}.
وفي الحديث, يسأل اللهُ تعالى نبيَّنَا r: فِيمَ يَخْتَصِمُ المَلَأُ الأَعْلَى؟ يعني في أي شيء, يتباحث ويتناقش الملائكةُ المقربونَ من رَبِّ العزة, إنهم يتكلمون في أعمالٍ صالحةٍ, لهَا فضلُها ومكانتُها وعظيمُ أجرِها, لكن يغفَلُ كثيرٌ من الناس عنها, ولا يُلقونَ بَالاً لهَا, ولا يَحرصونَ عليها, مع أنَّ الملائكةَ المقربين, في الملأ الأعلى, يختصمون فيها لفضلِها.
الأول: الكَفَّارَاتِ، وهي: مَشْيُ الأَقْدَامِ إِلَى الجَمَاعَاتِ، يعني التردد على المساجد, لشهود الصلاة مع الجماعة, وعبَّرَ بالمشي لِعظم الفضل, وكبيرِ الأجر, فإن الماشي للمسجد له بكل خطوة يرفعها حسنة وبكل خطوة يحطها سيئة. فخطواتكم إلى المساجد آثارُكُم, يَكتُبُهَا اللهُ لَكُم, عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ t, قَالَ: كَانَتْ بَنُو سَلِمَةَ فِي نَاحِيَةِ المَدِينَةِ, فَأَرَادُوا النُّقْلَةَ إِلَى قُرْبِ المَسْجِدِ, فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةَ: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي المَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r:«إِنَّ آثَارَكُمْ تُكْتَبُ فَلَا تَنْتَقِلُوا» وفي الحديث الصحيح:«مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ، أَوْ رَاحَ، أَعَدَّ اللهُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ نُزُلًا، كُلَّمَا غَدَا، أَوْ رَاحَ».
قال: وَالجُلُوسُ فِي المَسَاجِدِ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ، يعني المكثُ في المسجد لذكر الله تعالى, ولانتظارِ الصلاة الأخرى, وفي حديثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ r الْمَغْرِبَ، فَرَجَعَ مَنْ رَجَعَ، وَعَقَّبَ مَنْ عَقَّبَ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ r مُسْرِعًا، قَدْ حَفَزَهُ النَّفَسُ، وَقَدْ حَسَرَ عَنْ رُكْبَتَيْهِ، فَقَالَ: «أَبْشِرُوا، هَذَا رَبُّكُمْ قَدْ فَتَحَ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ السَّمَاءِ، يُبَاهِي بِكُمُ الْمَلَائِكَةَ، يَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي قَدْ قَضَوْا فَرِيضَةً، وَهُمْ يَنْتَظِرُونَ أُخْرَى».
قال: وَإِسْبَاغُ الوُضُوءِ فِي المَكْرُوهَاتِ, يعني إتمامُ الوضوء وإكمالُه وإنقاءُ العضو على المكاره يعني في شِدَّةِ البرد. أعمال يسيرة ثوابُها عظيم, قال: مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَاشَ بِخَيْرٍ، وَمَاتَ بِخَيْرٍ، وَكَانَ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ قال r: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عِنْدَ الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ. فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ». بارك الله لي ولكم ..
عباد الله, أمَّا الدَّرَجَاتِ, فهي, إِطْعَامُ الطَّعَامِ، وَلِينُ الكَلَامِ، وَالصَّلَاةُ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ. قال: إِطْعَامُ الطَّعَامِ، قال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا}. إِطْعَامُ الطَّعَامِ هي الصدقة بأي صورة, طعاماً أو شراباً أو كِساءً أو مالاً أو دواءً, كلها من أبواب الخير, التي يتقبلها الله من عبده إذا أنفقها خالصا لوجهه تعالى{وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ},{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}.
قال: وَلِينُ الكَلَامِ، قال تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا}. كم من كلمة طيبةٍ ليّنةٍ فتَحت قلباً, وأورثت حباً, وأدامت وداً, وداوت جُرْحَاً, ودَفَنَت بُغضاً. وَلِينُ الكَلَامِ هنا، مُفسَّرٌ في رواياتٍ أخرى بإفشاءِ السلام. وقد قَالَ النَّبِيُّ r: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُوا الجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَفَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِمَا يُثَبِّتُ ذَلِكَ لَكُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ».
قَالَ: وَالصَّلَاةُ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ. قال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} فلن يقومَ لصلاةِ الليل إلا موفَّقٌ عالِمٌ بفضلِ الله تعالى, ولن يتركَه إلا جاهلٌ لا يعرف فضلَه, قيل لأحدِ السلف: كيفَ أستعين على قيام الليل؟ قال: «لا تعصه بالنهار يُقِمك بالليل» إذا رأيت قيامَ الليل ثقيلاً عليك فاعلم أنك محروم مُكبَّل, كبلتك خطاياك, مُكتَّف, قيَّدَتك ذنوبُك, فاتركها, وتُب منها, ليَحيَا قلبُك.
عباد الله, سَمَّى هذه الأعمال درجات, لأنها سببُ ارتفاع العبد في درجات الجنة, والدرجة الواحدة في الجنة, كم تظنون ارتفاعها؟ خمسون سم؟ أو ستون سم؟ الدرجة الواحدة كما بين السماء والأرض, فلا تزهدوا رحمكم الله في هذه الأعمال, التي ترفعكم الدرجات تلو الدرجات, فإنها سبب لدخول الجنات, قَالَ النبيُّ r: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ».
بل لمن فعل هذه, منازل ومساكن وغرف, ليست كغرف الدنيا, وبيوت الدنيا, وصفها النبيُّ الصادِقُ r بقوله: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ غُرُفَاً يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا، وَبَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا» قيل: لِمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «لِمَنْ أَلَانَ الْكَلَامَ، وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَبَاتَ لِلَّهِ قَائِمًا وَالنَّاسُ نِيَامٌ».
هذا وصلوا وسلموا على سيدِ الأنام, وبَدرِ التمام, ومِسكِ الختام, فقد أمركم بذلك الملكُ العلام, فقال في أفصحِ كلام, وأصدَقِ بيان: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق