السبت، 1 فبراير 2014

خطبة بـ عنوان: "احترام كتب العلم"

عباد الله, مَاتَ رسولُ اللهِ r ولَمْ يُوَرِّث دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، إِنَّمَا وَرَّثَ الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ, وهذا العلم يُتلقى ويؤخذ ويُطلب بوسيلتين, الأولى: من أفواه العلماء والمشايخ والمعلمين مباشرة, سواءً حضوراً في حِلَقِهِم وفصولِهِم أو استماعاً لأصواتهم وتسجيلاتِهِم, والثانية: من بطون الكتب, قراءةً ومطالعةً وتكرارَ نظر.
ولأجل هذا العلم الذي في صدور المشايخ عَظُمَت حُرمتُهم, وارتفعت درجتُهُم, قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}, وقَالَ رَسُولَ اللهِ r: «لَيْسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيَعْرِفْ لِعَالِمِنَا حَقَّهُ». وقَالَ عُمَرُ t: «ثَلَاثَةٌ لَا يَسْتَخِفُّ بِحَقِّهِنَّ إِلَّا مُنَافِقٌ: إِمَامٌ مُقْسِطٌ، وَمُعَلِّمُ الْخَيْرِ، وَذُو الشَّيْبَةِ فِي الْإِسْلَامِ». وقال الفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: «عَالِمٌ عَامِلٌ مُعَلِّمٌ يُدْعَى كَبِيرًا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ» وَقَالَ الإمامُ أحمد: «لحوم العلماء مسمومة، من شَمَّها مَرِض، ومن أكلها مات».
ولأجل هذا العلم الذي في سطور الكتب, وعلى ورقاتها, عَظُمَت حُرمَتُها, ووَجَبَت صِيَانَتُهَا, لكن الناس ومع هذه الثورة المعلوماتية والتقنية في استخدام الحاسبات والأجهزة الذكية أصبح الكتاب وحيداً فريداً مهجوراً مركوناً, لا يُطالع ولا يُناظر ولا يُنظَّف, بل قد تصدموا إذا قلتُ لكم: إن بعض الناس يرمي الكتب, دون النظر إلى حرمتها, وحرمة ما فيها من علم وأدب.
عباد الله, لقد كان سلفنا الصالح يُعظّمون الكتبَ ويصونونها, ويَحرصونَ عليها, وعلى جمعِها, أشدَّ من حرصِهِم على جمعِ الدنانير والدراهم, كان الزهري رحمه الله جمع من الكتب شيئاً عظيماً، وكان يلازمها ملازمة شديدة حتى قالت زوجتُهُ: والله إن هذه الكتب أشدُّ عليّ من ثلاث ضرائر. كانوا يجمعون الكتب ليقرؤوها, ويشغلوا أوقاتهم بما فيها من العلم, لا أنهم يزينون بها مجالسهم, ورفوفهم, ومكاتبهم. كلا, رُوِيَ عن بعضهم أنه قال: لقد غَبَرَت لي أربعون عاماً ما قُمتُ ولا نُمتُ إلا والكتابُ على صدري. ويقولُ ابنُ الجوزي رحمه الله عن نفسه: ما أشبَعُ من مطالعة الكتب، وإذا رأيتُ كتاباً لم أره فكأني وقعتُ على كنز، فلو قلتُ: إني قد طالعتُ عشرين ألف مجلد لكان أكثر، وأنا بعد في الطلب.
كانت الكتبُ جليسَهم الذي لا يُمَلّ، وسميرَهُم في الليل, ورفيقَهُم في السفر, ومائدتَهُم في الجلسات، وأنيسَهُم في الخَلَوَات. لماذا كل هذا الِاهتمام؟ لأن هذه الكتب حوت علماً يُزكّي أرواحَهم, وأدباً يسمو بأخلاقِهِم, وأخباراً وسيراً تُعيّشُهُم جواً إيمانياً مع النبي r وصَحبِهِ وأتباعه, قيل للإمام عبدالله ابنِ مبارك: أما تستوحِشُ من مُقامِكَ مُنْفَرِداً ببيتك؟ فَقَالَ: كَيفَ يستوحِشُ من يُجَالسُ النَّبيَّ r وَأَصْحَابَه؟ يعني النظرُ في كتب الحديث والسيرة. وقيل له مرّةً: إذا صليتَ معنا لِمَ لا تجلس معنا؟ قال: أذهبُ فأجلسُ مع التابعين والصحابة. قلنا: فأين التابعون والصحابة؟ قال: أذهب فأنظرُ في علمي فأدرِكُ آثارَهم وأعمالَهم. ما أصنَعُ بكم؟ أنتم تجلسونَ تغتابون الناس!!
أرسل أحدُ الخلفاء لعالِمٍ يطلبُهُ, فاعتذرَ إليه، بأن عنده قوماً من الحكماء يحادِثُهُم، ولَم يكن عندَهُ أحد, فَعَرَفَ الخليفةُ أنه لا أحدَ عندَه، فعاتبَهُ, فسَأله: من كان عندَك؟ فَقَالَ العالِمُ:
لَنَا جُلَسَـــــــــاءُ مَـا نَمَلُّ حَدِيثَهُمْ       أَلِبَّاءُ مَأْمُونُونَ غَيْبًا وَمَشْهَــدَا
يُفيدوننا من علمِهِم علـمَ ما مضَى      وعَقلاً وتأديبًا ورَأيًا مُسَــــدَّدا
بِلا فتنةٍ تُخشَى ولا سوءِ عِشْرةٍ       ولا يُتَّقَى منهم لسانًا ولا يـَـدَا
من يَقصِد؟ يَقصِدُ الكتب. فانظروا كيف كانوا يعظمون الكتب العلمية ويهتمون بها ويحرصون عليها, ويستفيدون منها, فما مكانةُ الكتب عندنا؟ وما وزنُها؟ وما أهميتُها؟ وما مدى استفادتِنا منها؟ لماذا لا يكون الكتابُ صديقًا لنا روحاً ومَضموناً ومعنىً؟ نستفيدُ منه، ونرتقِي به, ونرفَعُ مكانته، كَمَا قدَّرَهُ أسلافُنَا، يقولُ المتنبي:
أَجَلُّ مَكَانٍ رُمْتَهُ سَرْجُ سَابِحٍ      وَخَيْرُ جَلِيسٍ فِي الزَّمَانِ كِتَابُ
أما علمتم أننا في ذيل الأمم في القراءة؟ مع أننا أمةَ اقرأ, فهل تبقى علاقتُنا بالكتب صوريّةً جماليّةً مجرد إهداءات, تُجمِّلُ الرفوف, والمَجالس؟ بارك الله لي ولكم ..
عباد الله, ظاهرةٌ سلبيةٌ تنتشر أيام الِامتحانات على أبوابِ المدارسِ والمنازِلِ وفي الطرقات وفي مرمى النفايات أكرمكم الله وأكرم بيته, ألا وهي رميُ الكتبِ الدراسية والمذكرات والمختصرات, وإهانتُها, وتمزيقُها والعبثُ بأوراقها بطريقة توحي بعدم احترام العلم, وأدواتِهِ ووسائله, مع أنها تحوي اسمَ الله تعالى, وفيها آياتُه, وأحاديثُ رسولِه r, والحقُّ يا عباد الله, أن الكلَّ مسئولٌ عن انتشار هذه الظاهرة, لكن للآباء, الجُزءَ الأكبر, فعليهم أن يُربوا أولادَهُم ابتداءً على احترامِ الكتب, وصيانتِهَا؛ لِحُرمةِ ما فيها من كلامِ اللهِ U, وكلام رسوله r, قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} رَمَى رجلٌ بِكِتَابٍ عِنْدَ الإمام أَحْمَدَ فَغَضِبَ مِنهُ, وَقَالَ: أَهَكَذَا يُفْعَلُ بِكَلَامِ الْأَبْرَارِ؟
ربوا أولادكم على تعظيمِ حُرمةِ الكتاب, وأفهموهم أن هذه الكتب الدراسية نعمةٌ من الله لَهم, يجب علينا شكرُها باحترامِها وصيانتِهَا, فالدولة أعزها الله تنفق المليارات في طباعة هذه الكتب. فكيفَ تُرمى وتُهان وتُبتذل بهذه الطريقة المحرمة المؤلِمة؟ النعمةُ إذا لَم تُشكَر تُسلَب. وهناك وسائل لعلاج هذه الظاهرة: إمَّا أن تُعادَ تلك الكتب للمدرسة عند استلام النتيجة. أو يُنشِئ الأبُ مكتبةً خاصة في بيته, خزانةً تكون مَجمَعَاً لكتب أبنائه الدراسية. أو تُهدى لمكتبة مسجد الحي إن وجدت فيه مكتبة. وإلا إن كان ولابد فتُوضَعُ في حاوياتٍ خاصَّةٍ للكتبِ والأوراق. أو تُدفَنُ في مكانٍ طيّبٍ طاهِرٍ محترَم بعيدٍ عن ممرِّ النّاس. أو تُحرَق؛ لفعلِ عثمان t؛ فقد أمَرَ t بتحريقِ الصُحُفِ والمصاحِفِ الأخرى حين جَمَعَ القرآنَ في المصاحف المعتمدة؛ إكراماً لَهَا, وصيانَةً عن الوطءِ بالأقدام, وكَانَ طَاووسُ بنُ كَيْسان يَحرِقُ الصُحُف إذا اجتمعَت عنده, وفيها بسم الله الرحمن الرحيم، وحَرَق عروةُ بنُ الزبير كتبَ فقهٍ كانت عندَه يوم الحرة.
فيجوز إتلافُ الكتب الدراسية إذا لم يُنتَفَع بها, خشيةَ امتهانِهَا، ومع وجودِ آلةِ تمزيقِ الأوراقِ الكهربائية أضحت عمليةُ إتلافِهَا سهلةً وبعيدة عن الِامتهان, فلا يبقى معها أثرٌ للكلمات والحروف.
فاتقوا الله عباد الله, وعظِّمُوا ما عظَّمَ الله, ثم صلوا وسلموا على خيرِ خلق الله ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق