عباد الله, ولأنَّ الدنيا ناقصةٌ, فلذَّاتُها يشوبُها كَدَر, وكُلُّ ما فيها من نعيمٍ يعترِيهِ نقص, فصحةُ الأجساد, وعافيةُ الأبدان, لا تدومُ وإن دامت فناقصة حيث تُصيبُها الأسقامُ والأمراضُ بين الفينة والأخرى, ولا يسلم من ذلك بشر,
ثمانيةٌ لابُدَّ منها على الفَتَى ولابُدَّ أن تَجريَ عليهِ الثمانيه
سرورٌ وهمٌّ واجتماعٌ وفرقةٌ ويُسْرٌ وعُسْرٌ ثم سُقْمٌ وعافية
المسلم لن يسلم في الدنيا من المرض والبلاء, وهذه حكمةٌ ماضية, وسُنةٌ جارية, عن كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ r: مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الْخَامَةِ مِنَ الزَّرْعِ، تُفِيئُهَا الرِّيحُ، تَصْرَعُهَا مَرَّةً وَتَعْدِلُهَا أُخْرَى حَتَّى تَهِيجَ، وَمَثَلُ الْكَافِرِ كَمَثَلِ الْأَرْزَةِ الْمُجْذِيَةِ عَلَى أَصْلِهَا، لَا يُفِيئُهَا شَيْءٌ، حَتَّى يَكُونَ انْجِعَافُهَا مَرَّةً وَاحِدَةً. فالمسلم كالزرع أوَّل ما يَنبتُ يكون غضًّا، تُميلُهُ الريحُ مع كلِّ جِهة, وهذه كناية, عَلَى أَنَّ المؤمنَ كثيرُ الآلام في بَدَنه أو أهْله أو ماله، بخلاف الكافر, فهو قليل المصائب كالشجرة الصُّلبة تميلُ مَيْلة واحدةً فيها مَوتُها.
عباد الله, لولا هذه الأسقام والأمراض التي تصيبنا مع احتسابنا وصبرنا لوردنا القيامة مفاليس, فهي في ظاهرها ألم وشدة, وفي باطنها تخفيف ورحمة, في ظاهرها مشقة, وفي باطنِها رفعة مرض المسلم كفَّارةٌ لسيِّئاته، ورِفعةٌ لدرجاته, وزيادةٌ في حسناته, قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ r وَهُوَ يُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا، فَمَسِسْتُهُ بِيَدِي فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا؟ فَقَالَ r: أَجَلْ، إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلاَنِ مِنْكُمْ. فَقُلْتُ: ذَلِكَ أَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ؟ قَالَ: أَجَلْ. ثُمَّ قَالَ r:مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى، مَرَضٌ فَمَا سِوَاهُ، إِلَّا حَطَّ اللَّهُ لَهُ سَيِّئَاتِهِ، كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا.
فالأمراض وإنْ قَلَّتْ يؤْجَرُ المسلمُ عليها، وتُكَفَّرُ عنه بِهَا خطاياه؛ حتى يمشيَ على الأرضِ وليستْ عليه خطيئة. عَنْ أُمِّ الْعَلَاءِ قَالَتْ: عَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ r وَأَنَا مَرِيضَةٌ، فَقَالَ: أَبْشِرِي يَا أُمَّ الْعَلَاءِ، فَإِنَّ مَرَضَ الْمُسْلِمِ يُذْهِبُ اللَّهُ بِهِ خَطَايَاهُ، كَمَا تُذْهِبُ النَّارُ خَبَثَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. واشتدادُ المرضِ ودوامُهُ خيرٌ لصاحبه، وليسَ في ذلك دليلٌ على أنَّ به هوانًا على ربِّه, كلا, سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ r: أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟ قَالَ: الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ البَلَاءُ بِالعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ.
فالمرضُ ليس شرّاً كُلَّه, بل فيهِ خير, وخيرٌ كثير, إن صبرَنا ورضيَنا, فهو سببٌ من أسبابِ تطهيرِنا قبل قُدومِنا على ربِّنا, دَخَلَ النبيُّ r عَلَى أُمِّ السَّائِبِ فَقَالَ: مَا لَكِ؟ يَا أُمَّ السَّائِبِ تُزَفْزِفِينَ؟ قَالَتْ: الْحُمَّى، لَا بَارَكَ اللهُ فِيهَا، فَقَالَ: لَا تَسُبِّي الْحُمَّى، فَإِنَّهَا تُذْهِبُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ، كَمَا يُذْهِبُ الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ.
فالحرارةُ المتكرِّرة التي تَعرِضُ لنا في الصيفِ وفي الشتاء من منافعِهَا: تكفيرُ السيِّئات؛ قال أبو هريرة t: ما مِن وَجَعٍ يُصيبني أحبَّ إليّ من الْحُمَّى, إنَّها تَدخُلُ في كُلِّ مَفْصِلٍ من ابن آدمَ، وإنَّ الله ليُعْطِيَ كلَّ مَفْصِل قِسْطًا من الأجْر.
تِلكُم من ثمراتِ المرضِ, ولا يعني ما ذكرناهُ, أن يتمناهُ المرءُ لنفسِهِ قبلَ وقوعِهِ, كَلَّا, بل إنَّ الشارِعَ الحكيمَ علَّمَنَا أن نسألَ اللهَ العافية, وأنّها خيرُ عطاءٍ بعدَ اليقين ففي الحديث: سَلُوا اللَّهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فَإِنَّهُ مَا أُوتِيَ عَبْدٌ بَعْدَ يَقِينٍ شَيْئًا خَيْرًا مِنَ الْعَافِيَةِ, قَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ ابْنُ أَبِي بَكْرَةَ لِأَبِيهِ: يَا أَبَتِ, إِنِّي أَسْمَعُكَ تَدْعُو كُلَّ غَدَاةٍ, اللَّهُمَّ عَافِنِي فِي بَدَنِي، اللَّهُمَّ عَافِنِي فِي سَمْعِي، اللَّهُمَّ عَافِنِي فِي بَصَرِي، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، تُعِيدُهَا ثَلَاثًا، حِينَ تُصْبِحُ، وَثَلَاثًا حِينَ تُمْسِي. فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ r يَدْعُو بِهِنَّ, فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَسْتَنَّ بِسُنَّتِهِ.
قَالَ أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ: سَمِعْتُ عُثْمَانَ ابْنَ عَفَّانَt، يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ r يَقُولُ: مَنْ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ الَّذِي لَا يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَيْءٌ، فِي الْأَرْضِ، وَلَا فِي السَّمَاءِ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، لَمْ تُصِبْهُ فَجْأَةُ بَلَاءٍ، حَتَّى يُصْبِحَ، وَمَنْ قَالَهَا حِينَ يُصْبِحُ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ، لَمْ تُصِبْهُ فَجْأَةُ بَلَاءٍ حَتَّى يُمْسِيَ. فَأَصَابَ أَبَانَ بْنَ عُثْمَانَ الْفَالِجُ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ الَّذِي سَمِعَ مِنْهُ الْحَدِيثَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: مَا لَكَ تَنْظُرُ إِلَيَّ؟ فَوَاللَّهِ مَا كَذَبْتُ عَلَى عُثْمَانَ, وَلَا كَذَبَ عُثْمَانُ عَلَى النَّبِيِّ r, وَلَكِنَّ الْيَوْمَ الَّذِي أَصَابَنِي فِيهِ غَضِبْتُ فَنَسِيتُ أَنْ أَقُولَهَا.
فاللهم لك الحمد على ما تأخُذُ وما تُعطِي, وعلى ما تُعَافي وما تَبتلي. أقول قولي هذا
عباد الله, التوقي من الأمراض والعملُ على دَفْعها قبلَ وقوعها مُباح فمثلاً اللِّقَاحات التي تُعْطَى عن أمراضٍ مُحتملة مُباحة إذا اعْتُقِد أنَّها مجرَّدُ سببٍ من الأسباب, وأنَّ دافِعَ البلاء هو الله وحده, وقد جاء في السُّنة ما يدل على جواز ذلك, قَالَ النَّبِيُّ r: مَنْ تَصَبَّحَ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعَ تَمَرَاتٍ عَجْوَةً، لَمْ يَضُرَّهُ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ سُمٌّ وَلاَ سِحْرٌ. فالتصبُّح بسبعٍ من عَجْوة المدينة سببٌ لدَفْع مرضٍ مُحْتمَل لَم يَقَعْ. فكأنها لِقَاحٌ, لا يُعتقَدُ فيهِ, لكنَّه سبب, {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
اللَّهُمَّ اشف مرضانا ومرضى المسلمين, اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ مُذْهِبَ الْبَأْسِ، اشْفِهم أَنْتَ الشَّافِي، لَا شَافِيَ إِلَّا أَنْتَ، اشْفِهِم شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا يا أرحم الراحمين,
هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق