الاثنين، 27 مايو 2013

خطبة بـ عنوان : "سورة الكهف ومعالجتها للفتن"

عباد الله, موضوعُنا اليوم مهم جداً, لأنه يهم كلَّ فردٍ منا, كُلُّ فرد مِنَّا ينالُهُ من هذا الموضوعِ نصيب, الفتن وما أدراكم ما الفتن؟ نعوذُ باللهِ من الفتن. الفتن واردةٌ على كل مسلم, هذه حقيقة مسلَّمةٌ يقررها القرآن قال تعالى {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} الحكمة من الفتن ليعلمَ اللهُ الصادِقَ في إيمانِهِ من الكاذِبِ فيه. لكن المسلم العاقل هو الذي يلتمس نورَ المخرج وحبلَ السلامة ووسيلةَ النجاة, والحمد لله أنَّ هذا بين أيدينا, نعم بين أيدينا أعظمُ وسائل النجاة من الفتن, إنه القرآن الكريم, بتدبر آياته, واستلهام عِظَاتِهِ, الْقُرْآنُ حَبْلُ اللَّهِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ، عِصْمَةٌ لِمَنِ اعْتَصَمَ بِهِ، وَنَجَاةٌ لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ، القرآن نجاةٌ من المِحَن, ومَخرجٌ من الفِتن, ونُورٌ في الظُلَم.
وفي القرآن، سورة عظيمة, يشرع قراءتها كاملةً والإكثارُ منها, خصوصاً يومَ الجمعة, تحرّيَاً لفضلِها, وطلباً لنورِها, فهل عرفتموها؟ إنها سورةُ الكهف, في حديثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مرفوعاً وموقوفاً: مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ أَضَاءَ لَهُ مِنَ النُّورِ مَا بَيْنَ الْجُمُعَتَيْنِ. هل تعلمون ما هذا النور؟ نور النجاة من الفتن. فما العلاقةُ بين سورةِ الكهف والفتن؟ سورةُ الكهف عالجت الفتن, عرضت لأربع قِصص, كُلّ قصة عالَجت فتنةً من أمَّهاتِ الفتن التي يَسقُطُ فيها كثيرٌ من الناس, ثم بينت المخرجَ منها ..
الأولى: قصة أصحاب الكهف أشارت لفتنة عظيمة هي فتنةُ الشرك بالله تعالى, فِتْيَةٌ شبابٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وسط بيئة مشركة, ومجتمع مشرك, وقيادة مشركة فكان ذلك سبباً لفتنتِهِم في دينِهِم, فما استسلموا، ولم يتبعوا قومهم في ضلالهم، ولا وافقوهم على كفرهم؛ بل أعلنوا توحيد الله، وبراءتهم من الشرك {فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا. هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} فتصاحبوا وترافقوا واعتزلوا المشركين وفروا بدينهم منهم فَنَجَوْا. عرضت هذه القصة لفتنةِ الشركِ باللهِ والمَخرجُ منها أمورٌ ثلاثة: الأول الإلتجاء بالله تعالى {فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا}. الثاني: صحبةُ الصالحين {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}. الثالث: مجانبةُ أهلِ الغفلةِ والهوى {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}.
القصةُ الثانية: قصة صاحب الجنتين، أشارت لفتنةٍ عظيمة هي فتنة المال, رجلٌ أنعم الله عليه بالمال, فانغمس فيه, ونَسِيَ المُنعم، وتكبر على مَنْ حولَه, وتجرأ على ثوابتِ الإيمان: {قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا. يعني لن تنتهِيَ أموالي .. وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً .. يعني لن تكون آخرة مِن فَرْطِ إعجابِهِ بماله .. وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي .. يعني لو كان هناك آخرة .. لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا .. كأنه ضمن الجنة} انظروا كيف فَتَنَهُ المال؟ لَمَّا صَارَ المالُ في نفسِهِ غَايَةً ألغَى كل القيم والأخلاق والمبادئ, فكانت النتيجة: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} كأن لَم يَكُن, ذهب مالُهُ من حيثُ أتى, جعله الله عبرةً لغيره {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا}. عرضَت هذه القصة لفتنة المال, والمَخرَجُ منها في أمور:
أحدها: أن نعلم حقيقة الدنيا, وأنها ظلٌّ زائل, وعاريةٌ مُستردَّة {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا}. الثاني: شكرُ اللهِ بالاستعانة بالمال على طاعته, وإنفاقِهِ فيما يرضيه, فبهذا يتحقق معنى كونِهِ زينة {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}. الثالث: أن لا يطغى حبُّ المالِ على حُبّ اللهِ ورسوله, ولا يُشغل عن طاعةِ اللهِ ورسوله {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} هل تعلمونَ ما الباقياتُ الصالحات؟ إنها سُبْحَانَ اللَّهِ, وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ, هذه الكلمات خيرٌ من كنوز الدنيا وأموالِها. الرابع: أن يتذكَّرَ العبدُ أنه مهما كان غنياً مُترَفاً فستأتي اللحظة التي يخرُجُ من هذا كُلِّه, وسيَقدُم عَلَى اللهِ كَمَا خَلَقَهُ أولَ مرَّةٍ عارياً لا يملك شيئاً, وسيَجِدُ بين يديهِ كتاباً {لَاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا}فإما ثواب وإما عقاب
القصةُ الثالثة: قصة موسى مع الخَضِر، أشارَت هذه القصة لفتنة عظيمة هي فتنة العلم قوم موسى سألوا موسى عن أعلم أهلِ الأرض فظَنَّ أنَّهُ هُوَ فأوحى اللهُ إليه أنه يوجد من هو أعلَمُ منك، ودلَّهُ عليه, فذهب يبحث عنه هو وفتاه, قال تعالى: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا. قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} فصاحَبَهُ ليتعلَّمَ مِنهُ في رحلةٍ كلُّها دروسٌ وحِكَم فالسفينة خَرَقَهَا, لماذا؟ لِتَبْقَى لأهلِها، وتسلَمَ من الملكِ الظالِم، والغلام قتلَهُ, لماذا؟لأنه طُبِعَ كَافِرًا، وَلَوْ عَاشَ لَأَرْهَقَ أَبَوَيْهِ طُغْيَانًا وَكُفْرًا، والجدار أقامَهُ من غيرِ أجرٍ, لماذا؟ ليحفَظَ كنزَ الغلامينِ اليتيمين. عرضت هذه القصة لفتنةِ العلم, والمخرج منها التواضع لله كما تواضع موسى للخَضِر: {قَاَلَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَاَ أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} وموسى أفضلُ من الخضر وأعلَمُ باللهِ منه، لكنْ عند الخضر علمٌ لا يعلمه موسى، فتعلم منه بلا كِبْرٍ وتعالي. فمن فُتِنَ مِنَّا بعلمِهِ فليتواضَع للهِ وليعلم أنَّ {فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} فلا يمنعه ما وصل له عن التواضع والسؤال. فالبعض يفتَحُ اللهُ عليهِ في العلم فيقودُهُ علمُهُ إلى التعالي والتكبرِ واستصغارِ الناس, وتهميشِهم وإعجابِهِ برأيهِ دونَهُم, هذا سَيُردِيهِ عِلمُهُ, ويوردُهُ المهالك.
القصةُ الرابعة: قصة ذي القرنين الملك الصالح، أشارت قصتُهُ لفتنةٍ عظيمةٍ هي فتنةُ السلطان والحكم, مكَّنَ الله له, فدانت له الأقطارُ والأمصار, وهيأ الله له من كل شيء سباباً، فَلَم يتجبر, ولَم يستعل, ولَم يستغل سُلطانَهُ وسُلُطاتِهِ في مصالِحِهِ الشخصيّةِ كلا, بل على العكس سَخَّرَ قوتَهُ في مرضاةِ اللهِ فنشرَ العدل ونصر المظلومين ودفع الظالمين, وبعد كل هذا نَسَبَ الفضلَ للهِ فقال: {هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي}. عَرَضَت قصتُهُ لفتنةِ السلطة والولاية, أيَّا كانت صغيرةً أم كبيرة, عامَّةً أم خاصة, فهي غالباً تقودُ إلى التعالي والظلم واستغلال النفوذ, والمخرج منها ما فعله ذو القرنين.
فاتقوا الله عباد الله, واعرفوا لهذه السورة قدرَها، وتدبروا آياتِها، لا سيما أنكم تكررونها في كل جمعة، واعلموا أنها تبين لكم النجاة من فتنٍ كبرى, فتنة الشرك والمال والعلم والسلطة، فقد يجتهِدُ إبليسُ ويوقِعُ المسلمَ بإحدى هذه الفتن، ولذلك حذَّرَ الله من ولايته والركونِ لَهُ في وسطِ السورةِ, وفي وسطِ حديثِهِ عن القصص الأربع والفتن الأربع, فقال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا}
اللهم نجنا من الفتن ما ظهر منا وما بطن, اللهم لا تفتنا في ديننا ولا في دنيانا, اللهم لا تردنا على أعقابنا بعد إذ هديتنا ..
عباد الله, أعظم الفتن التي ستصيب الأمة والتي حذَّرَ منها النبيُّ r هي فتنةُ الدجال, اجتمعت في الدجالِ الفتنُ الأربعُ التي ذُكرت في سورةِ الكهف, فهو يفتن الناس في دينهم، فيدعوهم للشركِ بالله، ويقول: أنا ربكم, فَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَجِيبُونَ لَهُ. ويفتنهم بالمال يَمُرُّ بالأرضِ الجرداء، فَيَقُولُ لَهَا: أَخْرِجِي كُنُوزَكِ، فَتَتْبَعُهُ كُنُوزُهَا, ويَأْمُرُ السَّمَاءَ فَتُمْطِرُ، ويَأْمُرُ الْأَرْضَ فَتُنْبِتُ. ويفتنهم بالعلم فيخرج ومعه تقنيةٌ متطورةٌ, ويطأ الأرض في لحظات, ويُخبِرُ الرجلَ عن أبيه وأمه ويتمثَّلُ الشيطانُ له بصورتِهِمَا، ويقطَعُ الرجلَ بسيفِهِ حتى يمشي بين نصفيه ثُم يدعوه فيلتحِمُ كَمَا كان. ويفتنهم بسلطانه فيَعيثُ في الأرضِ فساداً, وما من بلدٍ إلا يبلُغُهَا سلطانُهُ خَلَاَ مكةَ والمدينة، ويَفِرُّ الناسُ إلى الجبالِ خَوفاً من بطشِهِ.
عباد الله, هل تعلمونَ من السالِمونَ من فتنةِ الدجال؟ إنهم أهلُ سورة الكهف, إنهم من يقرؤوها ويتدبروها, ويحفظ عشرها الأولى, هؤلاء سيَسلمون من فتنة الدجال, ولن يُسَلَّطَ عليهم, ولن تَنطَلِيَ عليهم أفعالُهُ وفتنتُهُ, بل لا تزيدُهُم فتنتُهُ إلا بصيرةً بشرِهِ ودَجَلِهِ وكَذِبِهِ, يقول النبيُّ r: مَنْ أَدْرَكَهُ مِنْكُمْ يعني الدجال فَلْيَقْرَأْ عَلَيْهِ فَوَاتِحَ سُورَةِ الْكَهْفِ. وقَالَ r مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ عُصِمَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ. وفي رواية: مِنْ خَوَاتِيمِهَا. يقولُ الإمامُ الشافعيُّ رحمه الله: بَلَغَنَا أَنَّهُ مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ وُقِيَ فِتْنَةَ الدَّجَّالِ, وقال رحمه الله: وَأُحِبُّ قِرَاءَةَ الْكَهْفِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ وَيَوْمَهَا لِمَا جَاءَ فِيهَا.
فاتقوا الله عباد الله, واحفظوا سورةَ الكهف, فإن عجزتم فاحفظوا منها ما يَعصِمُكُم من فتنةِ الدجال؛ فإنه شر غائب ينتظر, وتدبروا آياتها التي تَقيكُم من الفتن.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَمِنْ عَذَابِ النَّارِ، وَمِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا وَالمَمَاتِ، وَمِنْ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ.

الاثنين، 20 مايو 2013

خطبة بـ عنوان : "موعظة مع بداية العام الهجري"

عباد الله, وُلِدَ هِلَالُ المُحرَّمِ من العَامِ الهَجرِيِّ الجَديد, فَفَرِحَ بِمَولِدِهِ خَلْقٌ كثيرٌ من عِبَادِ الله, فَرِحُوا لِقُربِ تَحَقُّقِ أُمنِيَاتِهِم ومَوَاعِيدِهِم المُفرِحَة, وَهَكَذَا يَفرَحُونَ دَائِمَاً بِمُرُورِ الَأيَامِ والشُّهورِ والَأعوَام لِكِنَّ الْحَقَّ أَنْ يُقَال: كَيْفَ يَفْرَحُ مَنْ يَوْمُهُ يَهْدِمُ شَهْرَهُ، وَشَهْرُهُ يَهْدِمُ سَنَتَهُ وَسَنَتُهُ تَهْدِمُ عُمْرَهُ، كَيْفَ يَفْرَحُ مَنْ يَقُودُهُ عُمْرُهُ إِلَى أَجْلِهِ وَتَقُودُهُ حَيَاتُهُ إِلى مَوْتِهِ. يَا مَنْ يَفرَحُ بِكثرَةِ مُرورِ السنينِ عَلْيهِ إنَّمَا تَفرَحُ بِنَقْصِ عُمُرِك وَقُرْبِ أَجَلِك, فَمَا أَنتَ إِلَّا أَيَّامٌ, كُلَّمَا مَضَى يَوْمٌ مَضَى بَعْضُكِ.
الدقائِقُ تَفْنِي السّاعَات, والسّاعَاتُ تَفْنِي الَأيَّام, وَالَأيامُ تَفْنِي الشهور, وَالشُّهورُ تَفْنِي الَأعوام, وَالَأعوَامُ تَفْنِي الَأعمار, وَفَجأةً نَجِدُ أنفسَنَا قَدْ بَلغَنا الثلَاثينَ والَأربعينَ والخمسينَ والسِّتين, فَمَاذَا أعدَدْنَا للقَاءِ الله؟ الغَفلَةُ خَطيرةٌ, وَلِقَاءُ اللهِ مُتَحَتِّمٌ.
قَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ لِرَجُلٍ: كَمْ أَتَتْ عَلَيْكَ؟ قَالَ: سِتُّونَ سَنَةً قَالَ فَأَنْتَ مُنْذُ سِتِّينَ سَنَةً تَسِيرُ إِلَى رَبِّكَ يُوشِكُ أَنْ تَبْلُغَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، فَقَالَ الْفُضَيْلُ: أَتَعْرِفُ تَفْسِيرَهُ؟ تَقُولُ: أَنَا للهِ عَبْدٌ وَإِلَيْهِ رَاجِعٌ، فَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ للهِ عَبْدٌ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ رَاجِعٌ فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ وَمِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مَسْئُولٌ وَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَسْئُولٌ فَلْيُعِدَّ لِلسُّؤَالِ جَوَابًا فَقَالَ الرَّجُلُ:فَمَا الْحِيلَةُ؟ قَالَ: يَسِيرَةٌ تُحْسِنُ فِيمَا بَقِيَ يُغْفَرُ لَكَ مَا مَضَى, فَإِنَّكَ إِنْ أَسَأْتَ فِيمَا بَقِيَ أُخِذْتَ بِمَا مَضَى وَبِمَا بَقِيَ.
عباد الله, بَدَأَ العامُ الجديدُ, ولَاَ نَدرِي أنستكْمِلُهُ أم لَاَ؟ فَكَم فَقدْنَا مِن حَبيبٍ وَقريبٍ في العَامِ الماضِي الذي اِستكمَلنَاهُ أوّلَ أَمْس, مَا اَستكْمَلُوهُ كَمَا اَستكمَلْنَاه, حَالَ بَيْنَهُم وبينَ خِتَامِهِ الْمَوتُ, فَكَذَلِكَ نَحنُ لَاَ ندري أنستكمِلُ هَذَا العامَ الذي بَدَأ أمس أم لَاَ؟ قَالَ ابنُ رجب رَحِمَهُ الله موعظَةً بَليغة: يَا أَبْنَاءَ العشرين كَمْ مَاتَ من أقرَانِكُم وتَخَلَّفتُم, يَا أبناءَ الثلَاَثين أَصَبْتُم بالشَّبابِ عَلَى قُرْبٍ من العَهدِ فَمَا تَأسّفتُم, يَا أبناءَ الَأربعين ذَهَبَ الصِّبَا وأنتُم على اللَّهو قد عَكَفتُم, يا أبناءَ الخمسين تنصّفتُم المائةَ ومَا أنصَفتُم يا أبناءَ السّتين أنتُم عَلَى مُعتَرَكِ المَنَايَا قَدْ أشرَفتُم أتلهُونَ وتَلعبُون؟ لقد أسرَفتُم.
  أَعَيْنَايَ هَلَّا تَبْكِيَانِ عَلَى عُمْـرِي         تَنَاثَرَ عُمْرِي مِنْ يَدِي وَلَا أَدْرِي
  إِذَا كُنْتُ قَدْ جَاوَزْتُ سِتِّينَ حَجَّةً        وَلَمْ أَتَأَهَّبْ لِلْمَمَاتِ فَمَا عُذْرِي؟
 وبَعدُ فَيَا عِبادَ الله, أعْظَمُ وصيةٍ تُبذَلُ في بِدَايةِ أيِّ عَامٍ وأيِّ شهرٍ وأيِّ يومٍ وأيِّ ليلَةٍ الوصيةُ بتقوى اللهِ ثُمَّ بالتوبةِ النصوح ثُمَّ بالعملِ الصالِح ثُمَّ بِالبُعدِ عن أسبابِ سخطِ اللهِ, نُوصِيكُم بِتَعبيدِ أنفسِنَا لَهُ, فنُخلِصُ لَهُ في أعمالِنا, في نياتِنَا, في أقوالنا, في أفعالنا, نَطْلُبُ مَا لَدَيه, نَتَوَكَّلُ عليه, نَقِفُ بينَ يَديه رَغْبَةً ورَهْبَةً إليه وَطِّنُوا أنفسَكُم من بدايةِ العام عَلَى تَطبيقِ هَذِهِ المقاصِدِ حَتَّى تَكونُوا عَلَى استعدادٍ لِلِقَاءِ الله في أيِّ لَحْظَةٍ من حياتِكُم فَكُلُّ لَحظَةٍ تَمُرّ تُدنِي من الَأجلِ,
إِنَّــا لَنَفْـرَحُ بِالْأَيَّـامِ نَقْطَعُـهَا       وَكُـلُّ يَوْمٍ مَضَى يُدْنِي مِنَ الْأَجَلِ
فَاعْمَلْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ الْمَوْتِ مُجْتَهِدًا       فَإِنَّمَا الرِّبْحُ وَالْخُسْرَانُ فِي الْعَمَلِ
اللهم اجعل خَيْرَ أعمالِنَا ..
عباد الله, يَقولُ العَلَّامَةُ ابنُ القَيِّم رحمه الله: السّنةُ شَجَرَة, والشهورُ فروعُها, وَالْأَيَّامُ أَغْصَانُهَا, والساعاتُ أوراقُها, والَأنفَاسُ ثَمَرُهَا, فَمَنْ كَانَت أنفاسُهُ فِي طَاعَةِ اللهِ فثمرةُ شجرتِهِ طيبَة, وَمَنْ كَانَت فِي مَعْصِيّةٍ فثمرتُهُ حَنظَل, وَإِنَّمَا يَكونُ الجَذَاذُ يَوْمَ الْمعَاد, فَعِنْدَ الجَذَاذِ يَتَبَيَّنُ حُلْوُ الثِّمَارِ مِنْ مُرِّهَا.
ألَاَ فَلتَكُن أنْفَاسُنا كُلُّهَا في طَاعَةِ الله لِنَكُنَ مِمَّن طَالَ عُمُرُهُ وحَسُنَ عَمَلُهُ, وَشهرُكُم هَذَا شَهْرُ المُحرَّمِ يُشرَعُ فيهِ الصوم, لِأنَّ النبيَّ r كَانَ يَتَحَرَّى الصومَ فِيه, وآكَدُ صَومِهِ عَاشوراء, العَاشِرُ منه, فصَومُهُ يُكَفِّرُ السَنَةَ الماضية, ومَنْ السُّنَّةِ أن يُصَامَ مَعَهُ يومٌ, يَا قَبْلَه أو بَعدَه, ومَنْ صَامَهُ وحدَهُ أجزئَهُ لَكِنَّهُ تَرَكَ الَأفضل, ومَنْ صَامَ الثلَاثةَ التاسِعَ والعاشِرَ والحادِيَ عَشَر حَقَّق الَأكمَل.
وَفَّقَنَا اللهُ وَإيّاكُم لِمَا يُحِبُّهُ ويَرضَاه.

خطبة بـ عنوان : "مخالفة الكفار"

عباد الله, اليومُ التاسِعُ من المُحرَّم وغداً عاشوراء, وقَدْ عَزَمَ النبيُّ r أن يَصومَ هذا اليومَ مع غَدٍ فَقَالَ r في سَنَةِ وفاتِهِ: إِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ إِنْ شَاءَ اللهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ, يعني مع العاشِر, فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَتَّى تُوُفِّيَ r, لَكِنَّهُ نَدَبَ النَّاسَ بقولِهِ. حَتّى قَالَ ابنُ عبّاسٍ y فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ: خَالِفُوا الْيَهُودَ وَصُومُوا التَّاسِعَ وَالْعَاشِرَ.
لِمَاذَا يُضَافُ مع عاشوراء يَوم؟ هَذِهِ الِإضافَةُ تأصِيلَاً لقاعِدَةٍ عظيمةٍ من قواعِدِ الِإسلَامِ هِيَ مخالفةُ أهلِ الكتابِ وَالمشركين. هَذِهِ القاعدةُ دَلَّت عَليهَا أدِلةٌ كثيرةٌ من كتابِ اللهِ وسُنَّةِ رسولِهِ r, قَالَ تَعَالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} وَيَقولُ النبيُّ r خَالِفُوا الْيَهُودَ, وتَارَةً يَقول: خَالِفُوا أَهْلَ الكِتَاب. وتَارَةً يَقولُ: خَالِفُوا المُشْرِكِين. وتَارَةً يَقول: خَالِفُوا الْمَجُوسَ. بَلْ أورَدَ أهلُ العلمِ أكثرَ من مائةِ دَليل في الَأمرِ بالمخالفة حتى قَالَتِ اليهود: مَا يُرِيدُ هَذَا الرَّجُلُ يعني النبيَّ r .. مَا يُرِيدُ هَذَا الرَّجُلُ أَنْ يَدَعَ مِنْ أَمْرِنَا شَيْئًا إِلَّا خَالَفَنَا فِيهِ. وَهَذَا يَدُلُّ – كَمَا قَالَ ابنُ تَيميّة – عَلَى أنَّهُ r خَالَفَهُم في عَامَّةِ أمورِهِم حتى قالوا هَذِهِ المَقالَة.
عباد الله, لِمَاذَا كُلُّ هَذَا؟ لِمَاذَا هَذِهِ المخالَفَة؟ قَالَ أهلُ العِلم:
أَوْلَاً: تَمييزاً لِلحَقِّ وأهلِهِ عَن الباطِلِ وأهلِهِ, فَمُخَالَفَةُ المشركين فيما هُوَ مِنْ خَصَائِصِهِم يُظهِرُ التبايُنَ بينَ المؤمنينَ والكافرين في الظَّاهِرِ ويَدُلُّ عَلَى هَذِهِ العِلَّةِ أنَّهُ لَمَّا قِيلَ للنبيِّ r إِنَّ الْيَهُودَ تُعَظِّمُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ, وَتَتَّخِذُهُ عِيدًا قَالَ r: صُومُوهُ أَنْتُمْ فُرْقَانَاً بينَنَا وبينَهُم في الهَدْيِ فَهُم يَتَّخِذُونَهُ عِيدًا ونَحْنُ نَصومُهُ, ونَصومُ يَومَاً قَبْلَهُ أو بَعْدَهُ.
ثانياً: هَذِهِ المُخَالَفَة تَربيَةً لِأفرادِ الَأُمَّةِ عَلَى شخصيَّةٍ خَاصَّةٍ بِهِم, وتربيةً لَهُم عَلَى نَبْذِ التبعيَّةِ والتقليدِ, وتَأكيداً لِاستقلَاليَّتِهِم عَنْ غيرِهِم بِمَبَادِئِهِم, فَموافَقَةُ الكفارِ تَنَازُلٌ عن المَبدَأ, وذَوَبَانٌ للشخصيّة, وفيهِ إِذلَالٌ لَنَا, وإِعزَازٌ لِمَا هُم عليهِ, ووَسِيلَةٌ لِافتخارِهِم وعُلوِّهِم حَيثُ يَرونَ المسلمين مُوَافِقِينَ لَهُم مُقَلِّدِين لَهُم لِذَا كَانَ من المُقَرَّرِ أنَّ الَأضعَفَ دائِمَاً يُقَلِّدُ الَأقْوَى, فَهِمَ الصحابَةُ هَذَا المَعنى فَلَمَّا عَلِمُوا صيامَ اليهودِ لِعَاشُورَاء مَعَ صِيَامِهِم مُبَاشَرَةً سَألُوا رسولَ اللهِ r فُقَالُوا: اليهودُ يَصومونَ هَذَا اليوم؟ كَأنَّهُم يقولوا: أنتَ يَا رسولَ الله عَلّمتَنَا مخالفَتَهُم وَهُم الَآنَ يَصومُونَهُ فَكيفَ نُخَالِفُهُم؟ ونَستَقِلُّ عَنهُم بدينِنَا ومَبَادِئِنَا؟ فأمرَهُم r بَأنْ يُصَامَ مع عاشوراء يَوم, قَبلَهُ أو بعدَهُ.
ثَالِثَاً: هَذِهِ المُخَالَفَة قَطْعاً لِمَادَةِ التَّشَبُّهِ بِهِم الذي يُؤدِّي إلى مُوَالَاتِهِم والميلِ لَهُم فَالموافَقَةُ في الظاهِرِ تَجُرُّ إلى مَحبَّتِهِم وتَعظيمِهِم والشُّعورِ القلبي بأنَّهُ لَاَ فَرْقَ بينَنَا وبَينَهُم لِذَا قَالَ النَّبِيُّ r: مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُو مِنهُم. قَالَ شيخُ الِإسلَامِ أقَلُّ أحوالِ هَذَا الحديث التحريم وإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ يَقتَضِي كُفرَ المُتَشَبِّهِ بِهِم. كَانَ الِإمامُ أحمدُ بنُ حنبل إذا نَظَرَ إلى نصرانِيٍّ أغمَضَ عَيْنَيهِ فَقِيلَ لَهُ في ذلك فَقَالَ: لَاَ أقدِرُ أَنْ أنظُرَ إلَى مَنْ اِفترَى عَلَى اللهِ وكَذِبَ عَليه. فَإِذَا كَانَ هذا مُجرَّدُ النَّظَرِ فَكيفَ بِمَنْ يَتَشَبَّهَ بِهِم ويُقَلِّدُهُم ويُحَاكِهِم ويَستَضِيفُهُم ويُبَاهِي بِهِم؟ لِيَحذَر مَنْ ابْتُلُوا بالتَّشبُّهِ بِهِم, واَبتُلُوا بالسيرِ في رِكَابِهِم, وابتُلُوا بالِإعجابِ بِمَا عِندَهُم ومُحَاكَاتِهِم فيهِ, لِيَحذَرُوا, ولِيَتَّقُوا اللهَ, وَليَعتَزُّوا بدينِهِم ولِيَحْمَدُوا اللهَ عَلَى نِعمَةِ الِإسلَام ولِيُطَبِّقُوا أحكامَهُ وتعاليمَهُ على أنفسِهِم فوالله لو طبّقنا دينَنَا كَمَا هُوَ, وكَمَا أرادَهُ اللهُ مِنَّا, وعَمِلنَا بأحكامِهِ, وربّينا أنفُسَنَا وأولَادَنَا عليه لَأعزَّنا الله, ولَبَلَغنَا القِمَّةَ في كُلِّ شيء, ولتصدَّرنَا الَأُمَمَ كُلَّهَا ولَكُنَّا أمَّةً قائِدَةً مُهَابَة وَكَانَ أعدائُنا تَبَعَاً لنَا, لَكن لَمَّا تَخلَّى المسلمونَ عن دينِهِم صَارُوا في المؤخِّرَة, وَصَارَت أمَّتُنَا مُنقَادَةً تابِعَةً لَا مَتبوعَة وحَسبُنَا اللهُ ونِعمَ الوكيل وَلَاَ حَولَ ولَا قوّةَ إلَّاَ باللهِ العليِّ العظيم
عباد الله, يَومُ عَاشوراء دَليلٌ أَنَّ اِتِّخَاذَ المُنَاسِبَاتِ أعيادَاً عَادَةٌ لليهودِ مِنذُ القِدَم, ولِذَلك اتَّخَذُوا عَاشوراء عِيداً كَمَا فِي حديثِ أَبِي مُوسَى قَالَ كَانَ أَهْلُ خَيْبَرَ يَصُومُونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ يَتَّخِذُونَهُ عِيدًا وَيُلْبِسُونَ نِسَاءَهُمْ فِيهِ حُلِيَّهُمْ وَشَارَتَهُمْ. رَواهُ مسلم. هَذَا عِندَهُم أمَّا هَذِهِ الَأُمَّة فَجَعَلَ اللهُ لَهَا عِيدينِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا, ومِنْ هُنَا تَعلمونَ أنَّ كُلَّ صورِ الَأعيادِ التي دَخَلَت عَلَى الَأُمَّةِ اليومَ هِيَ مِنْ وَاقِعِ التَّشَبُّهِ بالغير, فَليسَ من دينِنَا عيدُ الَأم ولَاَ عيدُ الحب ولَاَ عيدُ الميلَاد ونَحوُهَا, لَيسَتْ هَذِهِ من دِينِنَا فِي شَئ هِيَ ثَقَافَاتٌ مُستَورَدَة, وَبِدَعٌ مُحدَثَة {مَاَ أَنْزَلَ الَلَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ}.
فَاتّقوا الله عباد الله واَستلهِمُوا من عاشوراء دَرسَ مُخَالَفَةِ الكفار وَرَبُّوا أولَادَكُم عَلَى مُخَالَفَتِهِم, وَحُرْمَةِ التَّشَبُّهِ بِهِم وإلَّا كَانُوا بِهِم مُتَشَبِّهِين ولَهُم مُحبِّين, والمَرءُ يُحشَرُ مَعَ مَنْ أَحَب يومَ القيَامَةِ. فهَل يَرضَونَ أن يُحشَرُوا مَع مَنْ حَكَمَ رسولُ اللهِ r عَليهِم بالنَّار؟ ظَنِّي أَنَّهُم يَقولونَ: لَاَ نَرْضَى ..
اللهم احشرنا مع نبيِّنا وحَبيبِنَا مُحمَّدٍ, واجعلنا تَحتَ لِوَائِهِ, اللهم كَمَا جَمَعتَنَا فِي هَذَا المَكان فَاَجْمَعنَا عَلَى حَوضِهِ, واَسقِنا مِنهُ بِيدِهِ شربةً هنيئةً ..

خطبة بـ عنوان : "الحذر من الإستهزاء بالسنة"

       عباد الله,
مُحمَّـدٌ زِينَةُ الدنيَـا وبَهجَتُهَـا         فَاضَت عَلَى النَّاسِ والدُّنيَا عَطَايَاهُ
مُحَمَّـدٌ رَحْمَـةُ الرحْمَنِ نَفحَتُهُ          مُحمَّدٌ كَمَ حَـلَاَ فِي اللَّفْظِ مَعنَاهُ
المُصطَفَى المُجتَبَى المُحمودُ سِيِرَتَهُ           حَبيبُ رَبِّـكَ يَهوَانَـا ونَهْـوَاهُ
اللهم صل وسلم على سيدِنَا محمد وآلِهِ وصَحبِه.
عباد الله, عَظّم الله شأن نبيَّهُ مُحمَّداً r, وَعَظَّمَ شَأنَ مَا جَاءَ بِهِ, وَنَحنُ نَتَشَرَّفُ بانتمائِنَا لِحزْبِ مُحَمَّدٍ r وهَدي مُحمَّدٍ r وَهَذَا الِانتماءُ لَهُ حَقٌّ, هو حَقُّ التوقيرِ والمتابعة, فمَنْ جَمَعَ بينَ الحُبِّ وَالمتابَعَةِ فقد أدّى حَقَّ هَذَا الِانتماء وإلّا كَانَ انتماؤُهُ اِدِّعَاءَاً, وَكَانَ مُقصِّرَاً, وهناك أقوامٌ بَينَنَا لَا يُتَابِعُ مُحمَّدَاً r ولَاَ يتَّخِذهُ قُدوَةً مع أنَّ اللهَ تعالى قَالَ{لَقَدْ كَانَ لَكُم فِي رَسُولِ اِلَلَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَة} وَقَالَ{وَمَا آتَاكُم الرّسولُ فَخُذُوه وَمَا نَهَاكُم عَنهُ فَانتَهُوا} ولَا يَكتفي الهَاجِرُ لِمُحمَّدٍ r بهَذَا بَل تَرَاهُ يَسخَرُ من سنتِهِ, ويسخَرُ من أتباعِ مُحمَّدٍ, المُنتسِبينَ لِمَدرَسَتِهِ, المُتمسِّكينَ بِسُنتِهِ.
وتَأمَّلُوا قولَ الحقِّ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ. وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ. وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ. وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ} هُم لَم يَنتَقِصُوا أشخَاصَ المؤمنين وإنَّمَا انتقَصُوا استقامَتَهُم على الِإيمانِ والسنّة, فهم يَسخَرونَ من الوحي الذي جَاءَ من عِندِ اللهِ {وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ. فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ. هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}ومَوقِفٌ أُخرويٌّ آخَر يُبيِّنُ لنَا عَاقبةَ الساخرين بأهلِ الِإيمانِ والسنّةِ, أهلُ النَّارِ وَهُم يَصطَرِخُون فيهَا يَقولونَ {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ – فيُجيبُهُم اللهَ – : اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ – لِمَاذَا يَا رَبّ – : إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ: رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ. فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ – هم يَسخَرُونَ مِنْ حَالَةِ المؤمنينَ حِينَ يَتَّخِذُونَهُم سِخْرِيَّاً, يهزؤون بِحَالِهِم حينَ يرونَهُم يَدعونَ رَبَّهُم فَقَالَ اللهُ: إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} هَذَا الجزاءُ حَقٌّ لَاَ رَيبَ فِيه فاختاروا عباد الله أَيَّ الفريقين؟ فريقَ المستهزئينَ الساخرينَ المُعَذَّبين أم فريقَ المؤمنينَ المتأدبينَ المُتَّبِعِين؟
عباد الله, والبعضُ لَم يَكتَفِ بعدمِ المتابعَةِ والتجرؤِ على المُلتَزِمِينَ بَل تَجرّأَ إلى انتقاصِ الوحيِّ الذي جَاءَ بِهِ صَاحِبُ السُّنّةِ r, فيَهزَأُ بالسنَّةِ القوليةِ الثابِتَةِ عَنِ رسولِ اللهِ, ويَسخَرُ من أحاديثِهِ, وهَذَا سَبَبٌ لنقمةِ اللهِ العاجلة, وتَأمَّلُوا هذِهِ القصة:
كَانَ في أصحابِ الحديثِ رَجلٌ خليعٌ سَمِعَ حديثَ النبيِّ r: إنَّ الملَائِكَةَ لتضَعُ أجنِحَتَهَا لطالِبِ العِلمِ رِضَاً بِمَا يَصنع فَجَعَلَ الماجِنُ في عَقِبَيه مساميرَ حديد وقَالَ: أريدُ أن أطَأَ أجنحةَ الملَائكة, فَأصابَهُ اللهُ بِأَكَلَةٍ في رِجليه, شُلَّت بِهَا رِجلَاهُ ويَدَاهُ وسائِرُ أعضائِهِ. وَمِثلُهُ رَجُلٌ سَاخِر خَرَجَ مَعَ بعضِ المُحدِّثينَ في البصرةِ فَقَالَ: اِرفعُوا أرجلَكُم عن أجنحَةِ الملَائِكَةِ لَا تَكسِرُوهَا كَالمُستهَزِئِ بِحَديثِ النبيِّ r فَمَا تَمَّ كَلَامَهُ حَتى جَفَّت رِجلَاهُ وسَقَط {وَالَّذِينَ يُؤذُونَ رَسُولَ الَلَّهِ لَهُم عَذَابٌ أَلِيم}.
ذَكَرَ هذه القصةَ أبو عبدِالله التيميُّ في شَرحِهِ على مُسلِم, وَذَكَرَ أيضاً أنَّ بعضَ المبتدعةِ سَمِعَ قولَ النبيِّ r: إذا استيقَظَ أحدُكُم من نَومِهِ فَلَا يَغمِس يَدَهُ في الِإِناءِ حتى يَغسِلَهَا فإنَّهُ لَاَ يَدري أينَ باتت يدُهُ؟ فَقَالَ المُبتدع مُتَهَكِّماً: أنَا أَدرِي أينَ بَاتَت يَدِي في الفِراش. قَالَ: فأصبَحَ يَومَاً وَقَدْ أَدْخَلَ يَدَهُ في دُبُرِهِ إلى ذِرَاعِهِ. قَالَ التّيمي: فَليَتَّقِ المرءُ الِاستخفافَ بالسُّنَنِ, ومواضِعِ التوقيف, وانظُر كيفَ وَصَلَ إليهما شؤمُ فِعلِهِمَا.
وَهَكَذَا يَا عباد الله مَنْ يُحَاوِلُ إعمالَ عَقلِهِ القاصِرِ في استيعابِ نُصوصٍ غيرِ معقولَةِ المعنى هَذَا غيرُ مطلوبٍ مِنك, المطلوبُ الَأدبُ مع الوحيِّ فتُؤمِنُ وتُسَلِّمُ وتَقول: سَمِعنَا وَأَطَعنَا غُفرَانَكَ رَبَّنَا وَإِليكَ المَصير. فَاللهم ارزقنا الَأدَبَ مع سيدِنا رسولِ الله, والَأدبَ مع سنتِهِ, والَأدبَ مع أمرِهِ ونَهيهِ, اللهم ارزقنا متابعتَهُ ومَحبَّتَهُ ..
عباد الله, في خِضَمِّ هذِهِ التقنيةِ المُتَسَارِعَةِ في وسائِلِ التواصُلِ يتناقَلُ النّاسُ بينَهُم روابِطَ وَمواقِع ومَقالَاتٍ ومقاطِع, لَاَ يَخلُو بعضُها من رائحةِ الِاستهزاءِ بِسُنَّةِ النبيِّ r وبعضِ أحاديثِهِ وبعضِ أَوَامِرِهِ أو السخريةِ بالمُلتزِمينَ بالسُّنة, واسمَعُوا مَاذَا يَقولُ رَبُّكُم؟ {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} فاحذر يا أخِي إِذَا وَصَلَكَ شَيءٌ مِنْ هَذَا أن تَرتَاحَ لَه أو تَحكِيَهُ لغيرِكَ عَلَى وَجهِ الطُرفَةِ والدُّعَابَةِ أو تَنقُلَهُ لغيرِك, إنَّكَ إن فعلتَ كُنتَ أنتَ والمُصدِّرُ لَهُ سَواءً في الحُكم والِإثْم {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ. لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}.
إذن مَا المطلوبُ مِنك؟ أنكِر أشدَّ الِإنكار, وحَذِّر مِنه, وكُنَّ ذَابَّاً مُدَافِعَاً عن السنة, وصاحِبِ السنة, وأهلِ السنة حَتى يَحشُرَكَ اللهُ مَعَهُم في مَقعَدِ صِدْقٍ عندَ مَليكٍ مُقتَدِر, اللهم أحينا على الِإسلَام والسنّة, وتوفنا على الِإيمان والسنّة ..

خطبة بـ عنوان : "حسن الخلق"

وَبعد, فأوصيكُم أيُّهَا النَّاسِ ونَفسِي بتقوَى اللهِ رَبِّ العالَمِين.
عباد الله, سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ r عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الجَنَّةَ؟ فَقَالَ r: تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الخُلُقِ. وسأتَحدَّثُ عَنِ الجُزْئِيَّةِ الثانيةِ, حُسْنِ الخُلُق. من أكثرِ الَأعمالِ التي تُدخِلُ الجنَّة. حُسنُ الخُلُقِ ومَا أدرَاكُم مَا حُسنُ الخُلُق؟ لَمَّا مَدَحَ اللهُ نَبيَّهُ r قَالَ تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} ولَمَّا وَصَفَ المتقين قَالَ {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} وَلَمَّا وَصَفَ عِبَادَ الرحمنِ قَالَ تعالى {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} ولَمَّا أرادَ أن يَهَبَ لعبادِهِ أجرَاً لَاَ حَدَّ لَهُ قَالَ: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ}.
عباد الله, أَتُصَدِّقُونَنِي لَوْ أخبرْتُكُم أَنَّ رَجُلَاً مُفَرِّطاً لَيسَ لديهِ كثيرُ عَمَلٍ مِنْ صِيَامٍ وَصَلَاةٍ وَمَعَ هَذَا يَرفَعُ اللهُ دَرَجَتَهُ لِيَجعَلَهُ كقائِمِ الليلِ صَائِمِ النهار؟ أَتُصَدِّقُونَنِي؟ إِنَّهُ رجلٌ اتَّصَفَ بالخُلُقِ الحَسَن فَرَفَعَهُ اللهُ لدرجةِ العُبَّادِ الصائمينَ القائمين, هَذَا ليسَ كلَامي بَلْ كلَامُ رسولِ اللهِ r حَيثُ قَالَ إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ. وفي رواية: إِنَّ الْعَبْدَ لَيَبْلُغُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ عَظِيمَ دَرَجَاتِ الْآخِرَةِ وَشَرَفَ الْمَنَازِلِ وَإِنَّهُ لَضَعِيفُ الْعِبَادَةِ.
عباد الله, قدوتُنَا رسولُ اللهِ r قَالَ بِلِسَانِهِ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ القِيَامَةِ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا وَكَانَ r بِحَالِهِ أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا قَالَ أَنَسٌ خَدَمْتُ النَّبِيَّ r عَشْرَ سِنِينَ فَمَا قَالَ لِي: أُفٍّ قَطّ, وَلَاَ لشيءٍ فَعَلتَهُ: لِمَ فَعَلْتَ؟ وَلَاَ لشيءٍ لَمْ أفعَلْه أَلَّا فَعَلْتَ. وحينَ يُعَامِلُ رسولَ اللهِ r ألَدَّ أعدائِهِ وأنكَدَ خُصُومِهِ يَسَعُهُم خُلُقُهُ وتَعُمُّهُم طِيبَتُهُ. ثُمَامَةُ بنُ أَثَالٍ سَيِّدُ أهلِ اليمامة, تاجِرٌ يُغذِّي المشركينَ بمالِهِ ضِدَّ النبيِّ r وكَانَ مُبغِضَاً لَهُ r ولدينِهِ وللَأرضِ التي يمشي عليها r. تَمكّن منهُ r, فَكيفَ عامَلَه؟ لِأنَّهُ r القِمَّةَ في كُلِّ شِيءٍ اِنظروا مَاذا صَنَعَ بِهِ: رَبَطَهُ في ساريةِ المسجدِ وَتَركَهُ مَربُوطَاً ثلَاثةَ أيامٍ, هَلْ أرسلَ عليهِ السفهاءَ لِيؤذُونَهُ؟ كَلَّا, هل حَرَمَهُ الطعامَ والشراب؟ كَلَّا هل آذاهُ في عِرضِهِ وأهلِهِ ومَالِهِ؟ كَلَّا, هل جَرَحَهُ في شَخصِهِ؟ كلّا, هَل أهانَهُ؟ كَلَّا, عَلَى العكس, أمَرَ أصحَابَهُ وأهلَ بَيتِهِ أن يُحسِنُوا لَهُ ويُطعِمُوهُ ويَحتَرِمُوا إِنسَانيَّتُه, وَكَانَ r يَمُرُّ عَليهِ كُلَّ يَومٍ فَيَقُولُ لَهُ مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ فَيَقول: عِنْدِي خَيْرٌ يَا مُحَمَّدُ، إِنْ تَقْتُلْنِي تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ المَالَ فَسَلْ مِنْهُ مَا شِئْتَ فَيَترُكُهُ ثُمَّ يأتيهِ من الغَدّ فَيَقولُ لَهُ: مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ فيقول: عِنْدِي خَيْرٌ يَا مُحَمَّدُ، إِنْ تَقْتُلْنِي تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ المَالَ فَسَلْ مِنْهُ مَا شِئْتَ تأمَّلُوا كَلَامَهُ كَلَامَ رَجُلٍ واثِقٍ من نَفسِهِ مُصِرٍّ عَلَى كُفرِهِ إِنْ تَقْتُلْنِي تَقْتُلْ ذَا دَمٍ, أي إِنْ قَتلتَني فوَرَائِي أهلٌ وعشيرَةٌ سَيَأخُذُوا بِثَأرِي لرياسَتِي كأنَّهُ يُهَدِّدُهُ. وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ, أي سأشكر أي معروفٍ تُقَدِّمُهُ لِي يَعني ستُنعِم عَلَى كريمٍ صاحِبِ مَعدِنٍ أصيل. كأنَّهُ يُزَكِّي نَفسَه. وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ المَالَ فَسَلْ مِنْهُ مَا شِئْتَ, يعني إِنْ قَبَضتَ عَلَيَّ لِأجلِ المال فخُذ من مالِي ما شئتَ فأنا غَنِيّ عَدوٌ يُزَكِّي نَفسَه ويُهَدِّد ويَتَوَعَّدُ وهو بينَ يَدي رسولِ اللهِ, لَكِن كَمَا قُلنَا لِأنَّهُ رسولُ الله r ولِأنَّهُ القدوةُ ولِأنَّ خُلُقَهُ القرآن, ولِأنَّهُ نَبيُّ الرحمة, نَبيُّ الَأدب نبيُّ العَفو, نبيُّ الحلم, نبيُّ الصّفح اِلتَفَتَ إلى أصحَابِهِ فَقَالَ لَهُم: أَطْلِقُوا ثُمَامَة هَكَذَا, بِدُونِ أيِّ مُقَابِل بدونِ أيِّ جزاء بدونِ أيِّ فِدَاء بدونِ أيِّ عِقَاب بدونِ أَيِّ أذَىً أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ, لَا يَفعَلُ هَذَا العَملَ إلَّا محمداً r.
هل تظنونَ أنَّ هذه الَأخلَاقَ والمَكارِمَ ستَذهَبُ هَكَذَا سُدًى؟ كَلَّا واللهِ, ظَهَرَ أثرُ حُسنِ خُلُقِهِ وتعامُلِهِ r في ثلَاثِ ثمراتٍ متتابعات الَأولى خَرَجَ ثُمَامَةُ من المسجد فَذَهَبَ فاغتسَلَ ثُمَّ دَخَلَ وأعلَنَ إسلَامَهُ فَوْرَاً بين يَدَي النبيِّ r, هَذِهِ الثمرَةُ الَأُولى: أسلَم, أولُ النَّهَارِ كَانَ كافراً, وآخِرُ النهارِ صَارَ مُسلِمَاً, إِنَّهُ الخُلُقُ الحَسَن وأثرُهُ وثَمَرَتُهُ. وثَمَرَةٌ ثانية تَغيَّرَ تَغَيُّرَاً نَفسيَّاً جذريَّاً مُفَاجِئَاً حَيثُ قَالَ مَقولَتَهُ المشهورة: يَامُحَمَّدُ, وَاللهِ مَا كَانَ عَلَى الَأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ فأَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الوُجُوهِ إِلَيَّ, وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيَّ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ البِلَاَدِ إِلَيَّ. ثَمَرَةُ حُسْنِ الخُلُقِ والمُعَامَلَة, صَارَ مُحِبَّاً للهِ ولرسولِهِ ولدينِهِ ولِأرضِهِ بَلْ اِنظرُوا للثمرَةِ الثالِثَةِ حِينَ يُسَخِّرُ ويُجَنِّدُ كُلَّ مَا يَملِكُهُ بينَ يدي رَسُولِ اللهِ في خِدمةِ دينِ اللهِ, فَقَطَعَ عَنْ المشركينَ الدعمَ الغذائِيِّ والتموينَ السنويّ الذي يُرسِلُهُ لَهُم كُلَّ عام حَتى استنجَدَ المشركونَ برسولِ اللهِ r يَسألونَهُ باللهِ والرحم أن يَتَوَسَّطَ عِندَ ثُمَامَةَ لِيُفْسِحَ لَهُم مَا كَانَ مَنَعَهُ عَنهم.
عباد الله, هَذَا حُسْنُ الخُلُق وتِلْكُم ثَمَرَاتُهُ فَتَأسَّوْا بِنَبيِّكُم r في أخلَاقِهِ, فَمَا مِنْ شَيءٍ أثقَلُ في ميزانِكُم يومَ القيامة من حُسنِ الخُلُق. اللهم ارزقنا التأسّيَ بأخلَاقِ نبيِّنَا محمدٍ r والِاهتداءَ بِهديه, اللهم اهدنا لِأحسَنِ الَأخلَاقِ ..
عباد الله, حُسْنُ الخُلُقِ بِاختِصَارٍ طَلَاقَةُ الوجهِ وبَذلُ النَّدَى وكَفُّ الَأذَى فَخَالِقُوا النَّاسَ بذلك, كَانَ بعضُ السلفِ يقول: لَئِن يَصحَبَنِي فاجِرٌ حَسَنُ الخُلُق أحبَّ إليَّ من أن يَصحَبَنِي عَابِدٌ سَيءُ الخلق. الكُلُّ مَيِّت ولن يَبقَى للعبدِ إلَّا الثناءُ الحَسَن والذكرُ الجميل, وفي المُقَابِلِ تَحمَّلُوا من النَّاسِ زَلَّاتِهِم وعَثَرَاتِهِم, واطلبوا الثوابَ من رَبِّكم,
مَنْ عَاشَرَ النَّاسَ لَاقَى مِنهُمُ نَصَبَـاً       لِأنَّ أخلَاقَهُـم بَغـيٌّ وعُـدْوَانُ
فأحسِن إلَى النَّاسِ تَستَعبِد قُلوبَهُمُ        فَطَالَمَـا اِستعبَدَ الِإنسانَ إِحسَانُ
وإِنْ أسَـاءَ مُسـيءٌ فَليكُنْ  لَكَ        في عُروضِ زَلَّتِهِ صَفْـحٌ وَ غُفْرَانُ
اللهم حَسّن أخلَاقَنا, وَقَوِّ إيمانَنا, وزَكِّ نفوسَنَا, واشرَح صدورَنا, ويَسِّر أمورَنَا, واكفِنَا مَا أهَمَّنا, وألْهِمنَا يا ربَّنَا رُشدَنا, واصرِف عَنَّا مَا يَضُرُّنَا, يا رَبَّ العالَمِين.

خطبة بـ عنوان : "أصول في الصدقة"

وَبعد, فأوصيكُم أيُّهَا النَّاسِ ونَفسِي بتقوَى اللهِ رَبِّ العالَمِين.
تأمَّلُوا هذه القصةَ العجيبة, قصةَ الصدقة التي قَبِلَهَا اللهُ والتي أثرت في إصلاح المجتمع, رجلٌ من بني إسرائيل قَالَ لنفسِهِ: لَأَتَصَدَّقَنَّ اللَّيْلَةَ بِصَدَقَةٍ, فَخَرَجَ ليلَاً بِصَدَقَتِهِ, فَوَضَعَهَا فِي يَدٍ ولَا يدري ما هذه اليد, وضعَهَا في يدٍ وانصرَف, فكانت اليدُ الَآخِذَةُ يَدَ زَانِيَةٍ، وَضَعَ الرجلُ صَدَقَتَهُ في يدِ زانية فَأَصْبَحَ الناسُ يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ اللَّيْلَةَ عَلَى زَانِيَةٍ، فَقَالَ الرجل: اللهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ؟ لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ ليلةً ثانية بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدٍ ولَا يدري ما هذه اليد, فكانت يدَ غَنِيٍّ، فَأَصْبَحَ الناسُ يَتَحَدَّثُونَ: تُصُدِّقَ عَلَى غَنِيٍّ، فَقَالَ: اللهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى غَنِيٍّ؟ لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدٍ ولا يدري ما هذه اليد, فكانت يَدَ سَارِقٍ فَأَصْبَحَ الناسُ يَتَحَدَّثُونَ: تُصُدِّقَ عَلَى سَارِقٍ، فَقَالَ: اللهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ، وَعَلَى غَنِيٍّ، وَعَلَى سَارِقٍ، فَأتاه ملك في صورة رجل, فَقَالَ لَهُ: أَمَّا صَدَقَتُكَ فَقَدْ قُبِلَتْ، قبلها الله تعالى, أَمَّا الزَّانِيَةُ فَلَعَلَّهَا تَسْتَعِفُّ بِصدقتك عَنْ زِنَاهَا، وَلَعَلَّ الْغَنِيَّ يَعْتَبِرُ فَيُنْفِقُ مِمَّا أَعْطَاهُ اللهُ يَتَصَدَّقُ مِثلَ مَا تصدَّقْتَ, وَلَعَلَّ السَّارِقَ يَتوبُ بِصدقَتِكَ عَنْ سَرِقَتِهِ, هذه القصةُ ذَكَرَهَا النبيُّ في حديثٍ صحيحٍ رواهُ عنه أبوهريرة.
هذه القصة لتدلنا على ثلَاثةِ أصولٍ مهمة في الصدقة: الَأُول: الإخلاص سببُ القبول الثاني: الصدقةُ على العصاة الثالث: فضلُ صدقةِ السِّر. فلنستعرضها على عجالة. الَأصل الَأول: الِإخلَاصُ سبب القبول: صلَاح النية في إخراج الصدقة سبب قبولها, وكيف عرفنا أن هذا الرجل أصلح نيته؟ بأمور: الَأول: أن الله قبلها, المَلَك قال للرجل: أَمَّا صَدَقَتُكَ فَقَدْ تَقَبَّلَها الله. قَالَ الحافِظُ ابن حجر: نِيَّةُ الْمُتَصَدِّقِ إِذَا كَانَتْ صَالِحَةً قُبِلَتْ صَدَقَتُهُ وَلَوْ لَمْ تَقَعِ الْمَوْقِعَ, يعني ولو لَم يصب فيها مستحقها قال تعالى {ويطعمونَ الطعامَ على حُبّهِ مسكيناً ويتيماً وأسيراً} والَأسير في الغالب كَافِرٌ حَربِيٌّ, ومع هذا أثنى الله على من يطعِمُهُ ويتصدَّقُ عليه. الثاني: أنها صدقة سر, لَا يريد أن يعرفها أحدٌ إلَّا الله فخرج في الليل ووضعها في أيدٍ لا يدري أهي محتاجة أم لَاَ؟ الَأمر الثالث: تكراره لَهَا, فلما عرف الناس أن صدقته وقعت في يد سارق كررها وقال: لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ غير الأولى, ولَمّا عرف الناس أن صدقته وقعت في يد زانية كررها أيضاً, فتكراره دليل على صلَاحِ نيته, فأنفقوا من أموالكم متذكرين قول الله تعالى: {إِنَّمَا نطعمكم لوجه الله لَا نريد منكم جزاء ولَاَ شكوراً} وأبشرو يا من تنفقون ابتغاء وجه الله أبشرو بالقبول.
الَأصل الثاني: الصدقة على العصاة وأثرها, الصَّدَقَةُ كَانَتْ في بني إسرائيل مُخْتَصَّةً بِأَهْلِ الْحَاجَةِ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ الطائعين أمّا العصاةُ فلَا يُتصدق عليهم, لذلك أنكروا وقوع صدقة الرجل في يدِ زانيةٍ وسَارِقٍ فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ عَلَى سَارِقٍ تُصُدِّقَ عَلَى زانية, والرجلُ يَقول: اللهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ؟ وَعَلَى سَارِقٍ؟فهذا الحديث أصلٌ في توظيف الصدقة في سبيل الله لصالِحِ المجتمع, كيف ذلك؟ بإنفاق المال في سبيل الله ولو على عُصَاة مرتكبين لبعض الخطايا, فما أدرانا ربما كان سببَ وقوعهم في المعصية الفقرُ وقلةُ المال وهَذَا يحدث كثيراً فقد تزني امرأةً لِأجل أن توفر مالَاً لَهَا ولِأولَادِهَا, وقد يسرق سارق لأجل الفقر والحاجة, وأنا لا أبرر للسرقة والزنا لكن مَا دورُنَا؟ ما واجبنا تجاه حماية مجتمعنا من المعاصي؟ إننا بالصدقة على أمثال هؤلَاء مع النية الصالحة نرحم مجتمعنا من ويلَات المعاصي, وهذا ما أبانته هذه القصة, فتاب السارق لِأجل الصدقة عليه, وتعففت الزانية لأجل الصدقة عليها. ولقد فرض رب العزة والجلال سهماً للمؤلفة قلوبهم في أصناف الزكاة, ليتولفهم على الإسلام, ويحببهم فيه, ويستميل قلوبهم له, وأعطاهم رسولُ اللهِ عطاء من لا يخشى الفقر.  فلماذا لَاَ نوظف مالنا في هداية الناس وجذبهم للدين والِاستقامة والتوبة إلى الله؟ نعطيهم وننصح لهم, لماذا لَا نعطي الفقراء ولو كانوا عصاةً ثم نحببهم في المساجد ثم نهدي لَهم شريطاً في مراقبة الله نهدي لَهم مطويةً في التوبة النصوح, نهدي لَهم شريطاً في شَأنِ الصلَاة, نهدي لَهم كتيباً في شؤم المعاصي؟ نتصدق عليهم ونذكرهم بالله. نتصدق عليهم ونذكرهم بعاقبة أعمالِهِم. نتصدق عليهم وندلهم على باب التوبة إلى الله.
اِجعلوا هذا الحديث منهجاً لكم في إنفاقِكُم, تصدقوا وَلَا تتحروا الطائعين فقط بل تصدقوا ولو وقعت في يدِ عصاة, فلربما مع صلَاحِ نيتِكُم وإخلَاصِكُم تَمنعُهُم صَدَقَتُكُم عن عِصيانِهِم ومعصيتِهِم. فتكونوا سَاهَمتُم بأموالكم في إصلَاحِ مجتمعكم وحمايتِهِ من ويلَاتِ المعاصي وشؤمِها. اللهم طهّر مجتمعَنَا من الكفرِ والفسوقِ ..
عباد الله, والَأصلُ الثالِثُ الذي دَلَّت عليهِ القِصّة: فضلُ صدقةِ السِّر, قَالَ تَعَالى{إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} إبداءُ الصدقةِ خيرٌ في حَقِّ ذوي الهيئاتِ والوجاهات, ليُقتَدَى بِهِم فيها {فَنِعِمَّا هِيَ} وإخفاؤُها خَيرٌ في حَقِّ المتصدق ذاته {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} وقال بعض العلماء: الأفضل في زكاة المال أن تُعلَن, والأفضل في صدقة التطوع أن تُسَرّ. وإِنَّ مِنْ اَلْسَبْعَةِ الَّذِينَ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَاَ ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ رَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ. أخفاها عن بعض جوارحه, اليسرى لا تعلم ما تنفق يمينه. مبالغةً في أخفاها. وَمِمَّنْ يُحِبُّهُمُ اللَّهُ رَجُلٌ كَانَ فِي قَوْمٍ فَأَتَاهُمْ سَائِلٌ فَسَأَلَهُمْ فَبَخِلُوا فَخَرَجَ مِنهم رَجُلٌ وَذَهَبَ للسائِل من غير عِلْمِ قَومِهِ وَلَا يرَاهُ أحَدٌ إِلَّاَ الَلَّهُ فَأعْطَاهُ صدقةً. صَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ ويُنالُ بها رضا الله, ولها أثرٌ عجيبٌ في حسن الخاتمة.
زَيْنُ الْعَابِدِينَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَانَ يُخفِي صَدَقَاتِهِ, يَحْمِلُ عَلَى ظَهْرِهِ بِاللَّيْلِ جِرَابَ الْخُبْزِ فَيتَصَدَّقُ بِهِ وَيَقُولُ: صَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ. فَكَانَ فقراء الْمَدِينَةِ يَعِيشُونَ لَا يَدْرُونَ مِنْ أَيْنَ كَانَ مَعَاشُهُمْ يَجدونَ طعامَهُم كُلَّ ليلةٍ, فَلَمَّا مَاتَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ فَقَدُوا مَا كَانُوا يُؤْتَوْنَ بِهِ فِي اللَّيْلِ فقَالُوا: واللهِ مَا فَقَدْنَا صَدَقَةَ السِّرِّ حَتَّى مَاتَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ. وَلَمَّا مَاتَ رَحِمَهُ اللهُ وهم في تَغْسِيلِهِ وَجَدُوا آثَرَاً أسْوَداً بِظَهْرِهِ قَالُوا: مَا هَذَا؟ فَقِيلَ: كَانَ يَحْمِلُ جُرُبَ الدَّقِيقِ لَيْلًا عَلَى ظَهْرِهِ يُعْطِيهِ فُقَرَاءَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَجَدُوهُ يَعولُ مِئَةَ أَهْلِ بَيْتٍ بِالْمَدِينَةِ ولا أحد يدري, حِرصَاً مِنهُ عَلَى صَدَقَةِ السِّر.
فَتَشَبَّهوا إِن لَم تَكونوا مِثلَهُم        إِنَّ التَشَبُّهَ بِالكِرامِ فَـلَاحُ
اللهم هيئ لمجتمعنا أمثالَ زينِ العابدين عليِّ بن الحسين, اللهم هيئ لنا كِرَامَاً مُنفقين, وعبّادَاً محسنين, اللهم ألّف بين قلوبِنا, وأغنِ فقيرَنا, وتُب على عاصينا, واغفِر لِمُذنِبِنَا, وارحم ضعيفَنَا, واجبُر كسيرَنا, يا أرحمَ الراحمين..

خطبة بـ عنوان : "مفاتح الغيب"

عباد الله, أصلٌ عظيمٌ من أصولِ ديننا يَجبُ على كل مسلم أن يعتقده وهو أنه لا يعلم الغيب إلا الله, يقول الحق تبارك وتعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَاَ يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ}. فما المراد بمفاتح الغيب في الآية؟ يخبرنا عنها نبينا فيَقولُ في الحديثِ الصحيح: مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله {إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ وَيُنَزّلُ ٱلْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِى ٱلاْرْحَامِ وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَيمٌ خَبِيرٌ} أصل من أصول ديننا, الغيب لا يعلمه الإ الله. وهناك قضية مهمة لابد أن تعلموها أن المتدبّر لآيات القرآن يجد أنه لا جدوى من محاولة معرفة الغيب، إذ هذا علمٌ مختص بالله علّام الغيوب، ولا سبيل لمعرفته بأي طريقة كانت قال تعالى:{قُلْ لَاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ ٱلَّذِى كَفَرَ بِـئَايَـٰتِنَا وَقَالَ لاَوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً. أَطَّلَعَ ٱلْغَيْبَ أَمِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحْمَـٰنِ عَهْداً} في هاتين الآيتين دليل قاطع على عدم إمكانية الإنسان الإطلاع على الغيب لكن لحكمةٍ يعلمها الله قد يُطلِعُ اللهُ بعضَ رسله على بعض الغيب كما قال تعالى: {عَـٰلِمُ ٱلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَداً. إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ}.
عباد الله, كما تقدم مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله {إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ وَيُنَزّلُ ٱلْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِى ٱلاْرْحَامِ وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىّ أَرْضٍ تَمُوتُ} هذه الآية كلنا يقرؤها ويرددها ويعرفها الصغارُ قبل الكبار لكن ما معناها؟ ومامقتضاها؟ وما أثرُها على سلوكنا وإيماننا؟ لو عقِلنا معناها وآمنا بمقتضاها لَمَا سمعنا من يجادل في آيات الله فيقول: تمكن العلم من تحديد وقت نزول المطر، وتمكن الطب من تحديد نوعية الجنين ذكر أم أنثى فكيف يقول الله: {وَيُنَزّلُ ٱلْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِى ٱلاْرْحَامِصدق الله {ومِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَـٰدِلُ فِى ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَـٰبٍ مُّنِيرٍ}. لنرجع إلى الآية قوله تعالى: {إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ} أي أنَّ علمَ وقتِ الساعة مختص بالله سبحانه فلا يعلم أحدٌ بوقتها سواه تعالى لا مَلَكٌ مقرّب ولا نبيٌ مرسل، كما قال تعالى: {يَسْـئَلُكَ ٱلنَّاسُ عَنِ ٱلسَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ ٱللَّهِ} وقال في موضع آخر: {لاَ يُجَلّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ}.
ونحن نعلم أن الله تعالى بعد خَلقِهِ للسموات والأرض خلق الصور فأعطاه إسرافيل عليه السلام فوضعه على فمه وشخص ببصره إلى العرش ينتظر متى يؤمر بالنفخ فيه, فإذا كان إسرافيل المَلك المكلَّف بالنفخ بالصور إيذاناً ببدء القيامة لا يعرف موعدها، إذا كان هذا هو حاله فكيف بأي منجم أو دجال أو أفاك أو أي حضارة قديمة أو حديثة تقول: إن الساعةَ ستقوم في يوم كذا في شهر كذا في عام كذا أو نهايةَ العالم في يوم كذا في تاريخ كذا كلها والله أكاذيبٌ ودَجَل.
قوله تعالى:{وَيُنَزّلُ ٱلْغَيْثَ} يختصّ الله تعالى بمعرفة وقتِ إنزال المطر ومكانه المعيّن. أما نشرة الأرصاد الجوية في أيامنا فتعتمد على بعض الحسابات, وما ترصده بعض الأجهزة المخصصة لمعرفة نسبة الرطوبة وسرعة الرياح فليس ذلك غيباً. هو تخمينٌ وظن. وقد يحدث نقيضه كما أن معرفته تكون قبل مدة قريبة, يُلاحَظُ فيها اتجاهاتُ الرياح والمنخفضاتُ وغيرُها. ورغم هذا فنحن نسمع دائماً.. يتوقع الفلكيون نزول الأمطار، ويقولون الفرصة مهيأة لنزول الأمطار. وتتجمع الغيوم في السماء، وتُنذرُ الحالة بأن المطر سينزل ويستنفر الناس والأمن ولكن في اللحظات الأخيرة يأمر الله الرياح كيف يشاء فتذهب بهذه الغيوم القاتمة دون أن تنزلَ منها قطرةً واحدة. فنزول المطر لا يعلم وقتَهُ إلا اللهُ وحده, حتى قال بعض العلماء: من قال : إن الغيثَ ينزل غدا وجزم به فهو كافر. المطر لا يستطيع أحدٌ أن يتنبأ بنزوله جزماً, أو أن يقوم بإنزالِهِ مهما بلغ علمُه. وأيضاً في المقابل لو اجتمعت البشريةُ كُلُّها على منع نزوله في مكان ما لم ولن يستطيعوا أبداً.
قوله تعالى: {وَيَعْلَمُ مَا فِى ٱلاْرْحَامِ} بعض الناس يقولون الطب توصل إلى تحديد نوع الجنين ذكراً كان أو أنثى، ومن قال إن هذا هو المقصودُ بالآية؟ علماء المسلمين من المفسرين لم يقولوا بهذا، بل الإمام القرطبي المفسر ومنذ مئات السنين قال: قد يُعرف بطول التجارب أشياء من ذكورة الحمل وأنوثته إلى غير ذلك. إذن فمعنى ما في الأرحام ليس المقصود منه هل المولود ذكر أم أنثى بل معناه أوسع من ذلك بكثير, معنى: ما في الأرحام حياةُ المولود من لحظة ولادته إلى لحظة وفاته هل هو شقي أم سعيد؟ طويل أم قصير؟ ما لونه؟ هل هو صحيح أم مريض؟ ما عمره؟ كم سيعيش؟ ماذا سيفعل؟ ما الأحداث التي ستقع له؟ بمن سيتزوج؟ ما رزقه؟ وهكذا.. فمن يعلم مثل هذه الأمور غيرَ الله؟ هل يستطيع أحد من البشر أن يدعي هذا العلم؟ لا يستطيع ولكن اللهَ يستطيعُ ذلك, وقد فعل, فالله كتب مقادير الخلق وأرزاقهم وآجالهم قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة {إِنَّ ذٰلِكَ فِى كِتَـٰبٍ إِنَّ ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ}.
قوله تعالى: {وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً} أي لا تعلم نفس ماذا تكسب في الغد من خير أو شر في دنياها وأخراها. لماذا قال الله: ماذا تكسب غدا؟ ولم يقل ماذا تعمل؟ لأن كل إنسان يعلم ماذا سيعمل في غده, كل إنسان يرسم له جدول أعمال, لكنه لا يدري أيكسب فيه أم لا؟ أيحصله أم لا؟ فقال تعالى{وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً}
قوله تعالى: {وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىّ أَرْضٍ تَمُوتُ} من يعلم عن ساعة موته؟ وأين ستكون؟ لا علمَ لأحدٍ بذلك. رُوي أن مَلَكَ الموتِ مَرَّ على سليمانَ فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه يديمُ النظرَ إليه. فقال الرجل لنبي الله سليمان: من هذا؟ قال: مَلَك الموت، فقال الرجل: كأنه يريدني، وسأل سليمان أن يحملَهُ على الريح لبلادِ الهند ففعل. ثم قال مَلَكُ الموت لسليمان: كان دوامُ نظري إلى الرجل تعجباً منه، لأني أُمرتُ أن أقبِضَ روحَهُ بالهند، وهو عندك.  لهذا يقولُ النبيُّ: إذا أراد اللهُ قبضَ عبدٍ بأرضٍ جعل له إليها حاجة.
اللهم قو يقيننا وإيمانَنا, اللهم ثبت قلوبنا على الإسلام والسنة, ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة ..
عباد الله, ورغم هذه الآيات الصريحة في أن علم الغيب مختص بالله تعالى إلا أن هناك من يصادِمُهَا صراحةً ببعض كلامِ الكهنة والعرافين والدجالين الأفاكين ممن يُلبَّسُ على الناس بمهنِهِم وشهاداتِهِم فيقولون: قال الدكتور, وقال البرفسفور, وقال المفكر, وقال العالم الفلكي, يخدعون الناس بمسمياتِ وظائفهم وهم في الحقيقة كهنة دجالون مشعوذون مدعون الغيب. تقول أمنا عائشة: من زعم أن رسول الله يخبر بما يكون في غدٍ فقد أعظمَ على الله الفِرية, والله تعالى يقول: قُلْ لَاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ. فإذا كان رسول الله لا يعلم الغيب وهو من هو, فكيف بمن دونه ودونه ودونه؟ كيف نصدق هؤلاء الكذبة؟ من يصدقهم بادعائهم الغيب على خطر عظيم, إذ بمجرد سؤاله لهم والتماسِهِ مكانَهم لا تقبل صلاتُهُ أربعين ليلة, وبمجرد تصديقه انسلخ من دينه. قال: من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاةٌ أربعين ليلة. وقال: من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد. وقال: من أتى كاهناً، أو امرأةً في دبرها، أو كاهناً فصدقه. فقد برئ مما أنزل على محمد.
فاتقوا الله عباد الله واحذروا متابعة تلك الأكاذيب التي تدعي الغيب مما يرميه الأفاكون, ثِقوا بالله وحده, وصُونوا عقيدتكم وحافظوا عليها من الفساد أكثر مما تحافظون على صحة أبدانكم من الأمراض. فماذا يستفيد الإنسان إذا عاش سليم الجسم مريض العقيدة؟ صحة البدن مع فساد العقيدة خسارة في الدنيا والآخرة.
اللهم طهر قلوبنا من الشرك والشك والشقاق والنفاق وسيء الأخلاق.