عباد الله, إننا في زمان يجبُ أن نغرِسَ في قلوبِ النَّاسِ تعظيم ما عظمه الله تعالى وإن مما عظمه الله بيوتَهُ المساجد, قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا}, وإن من وسائلِ تعظيمِها واحترامِها قلةَ اللَّغطِ فيها, وعدمَ رفعِ الصوتِ بالكلامِ في أمورِ الدنيا وأخبارِ الناس, فالمساجد ما بُنيت لهذا, المساجد إنما بُنيت لطاعة الله تعالى وذكره ودعائه, قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ}. لأجل هذا فالمساجد تُصان عن الحديثِ في أمورِ الدنيا, لأنها أماكنُ الطاعة والعبادة، وفيها يُقبِلُ العبدُ على صلاته وأورادِه ويُحضِرُ قَلبَه ويَخشَعُ لربّهِ فكيف ترتفع فيها الأصواتُ المزعجة بالأحاديث الفارغة والأقوالِ السيئة؟ إنَّهُ متى سمِعَ المصلي أو التالي الأصوات المزعجة انشغَلَ قلبُهُ، وَتشوَّشَ فِكرُهُ، وتشتَّتَ ذِهنُهُ، وغَفَلَ عن ذكرِ اللهِ, ومن هنا لَزِمَ احترامُ المساجد، ولو كانت خاليةً من المصلّين والتالين، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ t قَالَ: كُنْتُ قَائِمًا فِي المَسْجِدِ فَحَصَبَنِي رَجُلٌ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا عُمَرُ t فَقَالَ: اذْهَبْ فَأْتِنِي بِهَذَيْنِ، فَجِئْتُهُ بِهِمَا، قَالَ: مِنْ أَيْنَ أَنْتُمَا؟ قَالاَ: مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ قَالَ: لَوْ كُنْتُمَا مِنْ أَهْلِ البَلَدِ لَأَوْجَعْتُكُمَا، تَرْفَعَانِ أَصْوَاتَكُمَا فِي مَسْجِدِ النبيّ r الذي يَظهَرُ أنَّهُمَا تَكَلَّمَا كَلَّاَمًا عادياً يَسمَعُهُ عمرُ t وهو في جانب المسجد فزجرهما عن رفعِ الصوت مطلقاً, وهَمَّ بتأديبِهِمَا, لكن كَفَّ عنهما, بسببِ جَهلِهِمَا.
وفي صحيح مسلم قَالَ رَسُولُ اللهِ r: إِيَّاكُمْ وَهَيْشَاتِ الْأَسْوَاقِ.
قال النووي: معنى هَيْشَاتِ الْأَسْوَاقِ: اختلاطُها والمنازعَةُ والخصوماتُ وارتفَاعُ الأصواتِ واللغَطُ والفتنُ التي فيها. وهذا عامٌ في وقت الصلاة وغيرها. فالمساجدُ تُنزَّهُ عن أن يكونَ فيها ما يكونُ في الأسواق, يقولُ سعيدُ بنُ المسيّب رحمه الله: مَنْ جَلَسَ في المسجد فإنما يُجالِسُ رَبَّهُ، فحقُّهُ ألّا يقولَ إلَّا خَيراً. وهذا ما جَعَلَ عُمَرُ t يَبْنِي رَحْبَةً فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ، تُسَمَّى الْبُطَيْحَاءَ، وَقَالَ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَلْغَطَ أَوْ يُنْشِدَ شِعْرًا، أَوْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ، فلْيَخْرُجْ إِلَى هَذِهِ الرَّحْبَةِ. لِمَاذا؟ لأن المساجد لها حُرمتُها وعظمتُها, فما بُنِيَت للقيل والقال, وقالوا وقلنا, والسوالفِ والأخبار, وإذا كان الكلامُ الذي له سببٌ مَنهِيَّاً عنهُ فيها, فكيفَ بِمَا دونَهُ مِمَّا ليسَ له سببٌ أصلاً؟ سَمِعَ النَّبِيُّ r رَجُلًا يَنَشُدُ ضَالَّتَهُ في المسجِد فَقَالَ لَهُ r: لَا وَجَدْتَ، إِنَّمَا بُنِيَتِ الْمَسَاجِدُ لِمَا بُنِيَتْ لَهُ. أي لذكرِ اللهِ تعالى والصلاةِ والدعاءِ والعلم, لا لنَشْدِ الضَّالَّةِ, والتجارة, والبيع والشراء, وإعلان العقارات ونحوِها من أمورِ الدنيا, ولقد وجه النبيُّ r أصحابَهُ فَقَالَ لَهُم: إِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ أَوْ يَبْتَاعُ فِي المَسْجِدِ، فَقُولُوا: لَا أَرْبَحَ اللَّهُ تِجَارَتَكَ، وَإِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَنْشُدُ فِيهِ ضَالَّةً، فَقُولُوا: لَا رَدَّ اللَّهُ عَلَيْكَ.
ويدخُلُ في رفعِ الصوتِ المنهي عنهُ في المسجدِ الحديثُ في أجهزة الاتصال والهواتف النقالة, فإن تشويشَها وإيذائَها عمَّ وطَمَّ مساجدَ المسلمين, فقَطَعَ خشوعَ الخاشعين, وسكونَ العابدين, وروحانيةَ الذاكرين, خصوصاً ما يَصدُرُ عن تِلْكَ الأجهزةِ من مقاطع غنائيّة ونغماتٍ موسيقيّة وأصواتٍ مُطرِبَة آذَت المسلمين أيَّمَا إيذاء فعَلَى كُلِّ مسلم يخشى ربَّه ويخاف عقوبتَه أن لا يُدنِّسَ بيوتَ الله بهذه النَّغَماتِ المُحرمة والأجراسِ الشيطانيّة, وعليه أن يسارع في محوِها والتخلُّصِ من شرِّها وإثمها, أو على الأقل كتمُ صوتها إذا دخل المساجد
جعلني الله وإيّاكم من الهداة المهتدين المتَّبعين لسنّة سيد المرسلين وأقولُ قولي ..
عباد الله, يُستثنَى مِنْ رفعِ الصوتِ في المساجِدِ رفعُ الصوت بالذكرِ الواردِ بعدَ انقضاءِ الصلاة المكتوبة بالاستغفار ثلاثًا وقولِ: اللهم أنت السلام .. وقولِ لا إله إلا الله وحده .. إلخ، عن ابْنِ عَبَّاسٍ t أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ حِينَ يَنْصَرِفُ النَّاسُ مِنَ الْمَكْتُوبَةِ كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ r, وَقَالَ t: كُنْتُ أَعْرِفُ انْقِضَاءَ صَلاَةِ النَّبِيِّ r بِالتَّكْبِيرِ. أي الذكر بعد الصلاة فهو مِمَّا يُستَثنَى شَرعاً في رفْعِ الصوتِ في المساجد.
وكذلك يُستثنَى رفعُ الصوتِ بالتلاوةِ والدعاءِ مَا لَم يُؤْذِ مَنْ بِجَانِبِهِ, في السنَّةِ أنَّ النبيَّ r اعْتَكَفَ فِي الْمَسْجِدِ، فَسَمِعَ الصحابةَ يَجْهَرُونَ بِالْقِرَاءَةِ فَكَشَفَ السِّتْرَ وَقَالَ: أَلَا إِنَّ كُلَّكُمْ مُنَاجٍ رَبَّهُ, فَلَاَ يُؤْذِيَنَّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا, وَلَاَ يَرْفَعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْقِرَاءَةِ، أَوْ قَالَ: فِي الصَّلَاةِ. فيجوزُ ما لَم يؤذ غيره.
فاتقوا الله, وعِظِّمُوا مَا عظَّمَهُ اللهُ تعالى {فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق