الاثنين، 20 مايو 2013

خطبة بـ عنوان : "أصول في الصدقة"

وَبعد, فأوصيكُم أيُّهَا النَّاسِ ونَفسِي بتقوَى اللهِ رَبِّ العالَمِين.
تأمَّلُوا هذه القصةَ العجيبة, قصةَ الصدقة التي قَبِلَهَا اللهُ والتي أثرت في إصلاح المجتمع, رجلٌ من بني إسرائيل قَالَ لنفسِهِ: لَأَتَصَدَّقَنَّ اللَّيْلَةَ بِصَدَقَةٍ, فَخَرَجَ ليلَاً بِصَدَقَتِهِ, فَوَضَعَهَا فِي يَدٍ ولَا يدري ما هذه اليد, وضعَهَا في يدٍ وانصرَف, فكانت اليدُ الَآخِذَةُ يَدَ زَانِيَةٍ، وَضَعَ الرجلُ صَدَقَتَهُ في يدِ زانية فَأَصْبَحَ الناسُ يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ اللَّيْلَةَ عَلَى زَانِيَةٍ، فَقَالَ الرجل: اللهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ؟ لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ ليلةً ثانية بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدٍ ولَا يدري ما هذه اليد, فكانت يدَ غَنِيٍّ، فَأَصْبَحَ الناسُ يَتَحَدَّثُونَ: تُصُدِّقَ عَلَى غَنِيٍّ، فَقَالَ: اللهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى غَنِيٍّ؟ لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدٍ ولا يدري ما هذه اليد, فكانت يَدَ سَارِقٍ فَأَصْبَحَ الناسُ يَتَحَدَّثُونَ: تُصُدِّقَ عَلَى سَارِقٍ، فَقَالَ: اللهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ، وَعَلَى غَنِيٍّ، وَعَلَى سَارِقٍ، فَأتاه ملك في صورة رجل, فَقَالَ لَهُ: أَمَّا صَدَقَتُكَ فَقَدْ قُبِلَتْ، قبلها الله تعالى, أَمَّا الزَّانِيَةُ فَلَعَلَّهَا تَسْتَعِفُّ بِصدقتك عَنْ زِنَاهَا، وَلَعَلَّ الْغَنِيَّ يَعْتَبِرُ فَيُنْفِقُ مِمَّا أَعْطَاهُ اللهُ يَتَصَدَّقُ مِثلَ مَا تصدَّقْتَ, وَلَعَلَّ السَّارِقَ يَتوبُ بِصدقَتِكَ عَنْ سَرِقَتِهِ, هذه القصةُ ذَكَرَهَا النبيُّ في حديثٍ صحيحٍ رواهُ عنه أبوهريرة.
هذه القصة لتدلنا على ثلَاثةِ أصولٍ مهمة في الصدقة: الَأُول: الإخلاص سببُ القبول الثاني: الصدقةُ على العصاة الثالث: فضلُ صدقةِ السِّر. فلنستعرضها على عجالة. الَأصل الَأول: الِإخلَاصُ سبب القبول: صلَاح النية في إخراج الصدقة سبب قبولها, وكيف عرفنا أن هذا الرجل أصلح نيته؟ بأمور: الَأول: أن الله قبلها, المَلَك قال للرجل: أَمَّا صَدَقَتُكَ فَقَدْ تَقَبَّلَها الله. قَالَ الحافِظُ ابن حجر: نِيَّةُ الْمُتَصَدِّقِ إِذَا كَانَتْ صَالِحَةً قُبِلَتْ صَدَقَتُهُ وَلَوْ لَمْ تَقَعِ الْمَوْقِعَ, يعني ولو لَم يصب فيها مستحقها قال تعالى {ويطعمونَ الطعامَ على حُبّهِ مسكيناً ويتيماً وأسيراً} والَأسير في الغالب كَافِرٌ حَربِيٌّ, ومع هذا أثنى الله على من يطعِمُهُ ويتصدَّقُ عليه. الثاني: أنها صدقة سر, لَا يريد أن يعرفها أحدٌ إلَّا الله فخرج في الليل ووضعها في أيدٍ لا يدري أهي محتاجة أم لَاَ؟ الَأمر الثالث: تكراره لَهَا, فلما عرف الناس أن صدقته وقعت في يد سارق كررها وقال: لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ غير الأولى, ولَمّا عرف الناس أن صدقته وقعت في يد زانية كررها أيضاً, فتكراره دليل على صلَاحِ نيته, فأنفقوا من أموالكم متذكرين قول الله تعالى: {إِنَّمَا نطعمكم لوجه الله لَا نريد منكم جزاء ولَاَ شكوراً} وأبشرو يا من تنفقون ابتغاء وجه الله أبشرو بالقبول.
الَأصل الثاني: الصدقة على العصاة وأثرها, الصَّدَقَةُ كَانَتْ في بني إسرائيل مُخْتَصَّةً بِأَهْلِ الْحَاجَةِ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ الطائعين أمّا العصاةُ فلَا يُتصدق عليهم, لذلك أنكروا وقوع صدقة الرجل في يدِ زانيةٍ وسَارِقٍ فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ عَلَى سَارِقٍ تُصُدِّقَ عَلَى زانية, والرجلُ يَقول: اللهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ؟ وَعَلَى سَارِقٍ؟فهذا الحديث أصلٌ في توظيف الصدقة في سبيل الله لصالِحِ المجتمع, كيف ذلك؟ بإنفاق المال في سبيل الله ولو على عُصَاة مرتكبين لبعض الخطايا, فما أدرانا ربما كان سببَ وقوعهم في المعصية الفقرُ وقلةُ المال وهَذَا يحدث كثيراً فقد تزني امرأةً لِأجل أن توفر مالَاً لَهَا ولِأولَادِهَا, وقد يسرق سارق لأجل الفقر والحاجة, وأنا لا أبرر للسرقة والزنا لكن مَا دورُنَا؟ ما واجبنا تجاه حماية مجتمعنا من المعاصي؟ إننا بالصدقة على أمثال هؤلَاء مع النية الصالحة نرحم مجتمعنا من ويلَات المعاصي, وهذا ما أبانته هذه القصة, فتاب السارق لِأجل الصدقة عليه, وتعففت الزانية لأجل الصدقة عليها. ولقد فرض رب العزة والجلال سهماً للمؤلفة قلوبهم في أصناف الزكاة, ليتولفهم على الإسلام, ويحببهم فيه, ويستميل قلوبهم له, وأعطاهم رسولُ اللهِ عطاء من لا يخشى الفقر.  فلماذا لَاَ نوظف مالنا في هداية الناس وجذبهم للدين والِاستقامة والتوبة إلى الله؟ نعطيهم وننصح لهم, لماذا لَا نعطي الفقراء ولو كانوا عصاةً ثم نحببهم في المساجد ثم نهدي لَهم شريطاً في مراقبة الله نهدي لَهم مطويةً في التوبة النصوح, نهدي لَهم شريطاً في شَأنِ الصلَاة, نهدي لَهم كتيباً في شؤم المعاصي؟ نتصدق عليهم ونذكرهم بالله. نتصدق عليهم ونذكرهم بعاقبة أعمالِهِم. نتصدق عليهم وندلهم على باب التوبة إلى الله.
اِجعلوا هذا الحديث منهجاً لكم في إنفاقِكُم, تصدقوا وَلَا تتحروا الطائعين فقط بل تصدقوا ولو وقعت في يدِ عصاة, فلربما مع صلَاحِ نيتِكُم وإخلَاصِكُم تَمنعُهُم صَدَقَتُكُم عن عِصيانِهِم ومعصيتِهِم. فتكونوا سَاهَمتُم بأموالكم في إصلَاحِ مجتمعكم وحمايتِهِ من ويلَاتِ المعاصي وشؤمِها. اللهم طهّر مجتمعَنَا من الكفرِ والفسوقِ ..
عباد الله, والَأصلُ الثالِثُ الذي دَلَّت عليهِ القِصّة: فضلُ صدقةِ السِّر, قَالَ تَعَالى{إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} إبداءُ الصدقةِ خيرٌ في حَقِّ ذوي الهيئاتِ والوجاهات, ليُقتَدَى بِهِم فيها {فَنِعِمَّا هِيَ} وإخفاؤُها خَيرٌ في حَقِّ المتصدق ذاته {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} وقال بعض العلماء: الأفضل في زكاة المال أن تُعلَن, والأفضل في صدقة التطوع أن تُسَرّ. وإِنَّ مِنْ اَلْسَبْعَةِ الَّذِينَ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَاَ ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ رَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ. أخفاها عن بعض جوارحه, اليسرى لا تعلم ما تنفق يمينه. مبالغةً في أخفاها. وَمِمَّنْ يُحِبُّهُمُ اللَّهُ رَجُلٌ كَانَ فِي قَوْمٍ فَأَتَاهُمْ سَائِلٌ فَسَأَلَهُمْ فَبَخِلُوا فَخَرَجَ مِنهم رَجُلٌ وَذَهَبَ للسائِل من غير عِلْمِ قَومِهِ وَلَا يرَاهُ أحَدٌ إِلَّاَ الَلَّهُ فَأعْطَاهُ صدقةً. صَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ ويُنالُ بها رضا الله, ولها أثرٌ عجيبٌ في حسن الخاتمة.
زَيْنُ الْعَابِدِينَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَانَ يُخفِي صَدَقَاتِهِ, يَحْمِلُ عَلَى ظَهْرِهِ بِاللَّيْلِ جِرَابَ الْخُبْزِ فَيتَصَدَّقُ بِهِ وَيَقُولُ: صَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ. فَكَانَ فقراء الْمَدِينَةِ يَعِيشُونَ لَا يَدْرُونَ مِنْ أَيْنَ كَانَ مَعَاشُهُمْ يَجدونَ طعامَهُم كُلَّ ليلةٍ, فَلَمَّا مَاتَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ فَقَدُوا مَا كَانُوا يُؤْتَوْنَ بِهِ فِي اللَّيْلِ فقَالُوا: واللهِ مَا فَقَدْنَا صَدَقَةَ السِّرِّ حَتَّى مَاتَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ. وَلَمَّا مَاتَ رَحِمَهُ اللهُ وهم في تَغْسِيلِهِ وَجَدُوا آثَرَاً أسْوَداً بِظَهْرِهِ قَالُوا: مَا هَذَا؟ فَقِيلَ: كَانَ يَحْمِلُ جُرُبَ الدَّقِيقِ لَيْلًا عَلَى ظَهْرِهِ يُعْطِيهِ فُقَرَاءَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَجَدُوهُ يَعولُ مِئَةَ أَهْلِ بَيْتٍ بِالْمَدِينَةِ ولا أحد يدري, حِرصَاً مِنهُ عَلَى صَدَقَةِ السِّر.
فَتَشَبَّهوا إِن لَم تَكونوا مِثلَهُم        إِنَّ التَشَبُّهَ بِالكِرامِ فَـلَاحُ
اللهم هيئ لمجتمعنا أمثالَ زينِ العابدين عليِّ بن الحسين, اللهم هيئ لنا كِرَامَاً مُنفقين, وعبّادَاً محسنين, اللهم ألّف بين قلوبِنا, وأغنِ فقيرَنا, وتُب على عاصينا, واغفِر لِمُذنِبِنَا, وارحم ضعيفَنَا, واجبُر كسيرَنا, يا أرحمَ الراحمين..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق