الاثنين، 20 مايو 2013

خطبة بـ عنوان : "حسن الخلق"

وَبعد, فأوصيكُم أيُّهَا النَّاسِ ونَفسِي بتقوَى اللهِ رَبِّ العالَمِين.
عباد الله, سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ r عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الجَنَّةَ؟ فَقَالَ r: تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الخُلُقِ. وسأتَحدَّثُ عَنِ الجُزْئِيَّةِ الثانيةِ, حُسْنِ الخُلُق. من أكثرِ الَأعمالِ التي تُدخِلُ الجنَّة. حُسنُ الخُلُقِ ومَا أدرَاكُم مَا حُسنُ الخُلُق؟ لَمَّا مَدَحَ اللهُ نَبيَّهُ r قَالَ تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} ولَمَّا وَصَفَ المتقين قَالَ {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} وَلَمَّا وَصَفَ عِبَادَ الرحمنِ قَالَ تعالى {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} ولَمَّا أرادَ أن يَهَبَ لعبادِهِ أجرَاً لَاَ حَدَّ لَهُ قَالَ: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ}.
عباد الله, أَتُصَدِّقُونَنِي لَوْ أخبرْتُكُم أَنَّ رَجُلَاً مُفَرِّطاً لَيسَ لديهِ كثيرُ عَمَلٍ مِنْ صِيَامٍ وَصَلَاةٍ وَمَعَ هَذَا يَرفَعُ اللهُ دَرَجَتَهُ لِيَجعَلَهُ كقائِمِ الليلِ صَائِمِ النهار؟ أَتُصَدِّقُونَنِي؟ إِنَّهُ رجلٌ اتَّصَفَ بالخُلُقِ الحَسَن فَرَفَعَهُ اللهُ لدرجةِ العُبَّادِ الصائمينَ القائمين, هَذَا ليسَ كلَامي بَلْ كلَامُ رسولِ اللهِ r حَيثُ قَالَ إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ. وفي رواية: إِنَّ الْعَبْدَ لَيَبْلُغُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ عَظِيمَ دَرَجَاتِ الْآخِرَةِ وَشَرَفَ الْمَنَازِلِ وَإِنَّهُ لَضَعِيفُ الْعِبَادَةِ.
عباد الله, قدوتُنَا رسولُ اللهِ r قَالَ بِلِسَانِهِ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ القِيَامَةِ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا وَكَانَ r بِحَالِهِ أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا قَالَ أَنَسٌ خَدَمْتُ النَّبِيَّ r عَشْرَ سِنِينَ فَمَا قَالَ لِي: أُفٍّ قَطّ, وَلَاَ لشيءٍ فَعَلتَهُ: لِمَ فَعَلْتَ؟ وَلَاَ لشيءٍ لَمْ أفعَلْه أَلَّا فَعَلْتَ. وحينَ يُعَامِلُ رسولَ اللهِ r ألَدَّ أعدائِهِ وأنكَدَ خُصُومِهِ يَسَعُهُم خُلُقُهُ وتَعُمُّهُم طِيبَتُهُ. ثُمَامَةُ بنُ أَثَالٍ سَيِّدُ أهلِ اليمامة, تاجِرٌ يُغذِّي المشركينَ بمالِهِ ضِدَّ النبيِّ r وكَانَ مُبغِضَاً لَهُ r ولدينِهِ وللَأرضِ التي يمشي عليها r. تَمكّن منهُ r, فَكيفَ عامَلَه؟ لِأنَّهُ r القِمَّةَ في كُلِّ شِيءٍ اِنظروا مَاذا صَنَعَ بِهِ: رَبَطَهُ في ساريةِ المسجدِ وَتَركَهُ مَربُوطَاً ثلَاثةَ أيامٍ, هَلْ أرسلَ عليهِ السفهاءَ لِيؤذُونَهُ؟ كَلَّا, هل حَرَمَهُ الطعامَ والشراب؟ كَلَّا هل آذاهُ في عِرضِهِ وأهلِهِ ومَالِهِ؟ كَلَّا, هل جَرَحَهُ في شَخصِهِ؟ كلّا, هَل أهانَهُ؟ كَلَّا, عَلَى العكس, أمَرَ أصحَابَهُ وأهلَ بَيتِهِ أن يُحسِنُوا لَهُ ويُطعِمُوهُ ويَحتَرِمُوا إِنسَانيَّتُه, وَكَانَ r يَمُرُّ عَليهِ كُلَّ يَومٍ فَيَقُولُ لَهُ مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ فَيَقول: عِنْدِي خَيْرٌ يَا مُحَمَّدُ، إِنْ تَقْتُلْنِي تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ المَالَ فَسَلْ مِنْهُ مَا شِئْتَ فَيَترُكُهُ ثُمَّ يأتيهِ من الغَدّ فَيَقولُ لَهُ: مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ فيقول: عِنْدِي خَيْرٌ يَا مُحَمَّدُ، إِنْ تَقْتُلْنِي تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ المَالَ فَسَلْ مِنْهُ مَا شِئْتَ تأمَّلُوا كَلَامَهُ كَلَامَ رَجُلٍ واثِقٍ من نَفسِهِ مُصِرٍّ عَلَى كُفرِهِ إِنْ تَقْتُلْنِي تَقْتُلْ ذَا دَمٍ, أي إِنْ قَتلتَني فوَرَائِي أهلٌ وعشيرَةٌ سَيَأخُذُوا بِثَأرِي لرياسَتِي كأنَّهُ يُهَدِّدُهُ. وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ, أي سأشكر أي معروفٍ تُقَدِّمُهُ لِي يَعني ستُنعِم عَلَى كريمٍ صاحِبِ مَعدِنٍ أصيل. كأنَّهُ يُزَكِّي نَفسَه. وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ المَالَ فَسَلْ مِنْهُ مَا شِئْتَ, يعني إِنْ قَبَضتَ عَلَيَّ لِأجلِ المال فخُذ من مالِي ما شئتَ فأنا غَنِيّ عَدوٌ يُزَكِّي نَفسَه ويُهَدِّد ويَتَوَعَّدُ وهو بينَ يَدي رسولِ اللهِ, لَكِن كَمَا قُلنَا لِأنَّهُ رسولُ الله r ولِأنَّهُ القدوةُ ولِأنَّ خُلُقَهُ القرآن, ولِأنَّهُ نَبيُّ الرحمة, نَبيُّ الَأدب نبيُّ العَفو, نبيُّ الحلم, نبيُّ الصّفح اِلتَفَتَ إلى أصحَابِهِ فَقَالَ لَهُم: أَطْلِقُوا ثُمَامَة هَكَذَا, بِدُونِ أيِّ مُقَابِل بدونِ أيِّ جزاء بدونِ أيِّ فِدَاء بدونِ أيِّ عِقَاب بدونِ أَيِّ أذَىً أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ, لَا يَفعَلُ هَذَا العَملَ إلَّا محمداً r.
هل تظنونَ أنَّ هذه الَأخلَاقَ والمَكارِمَ ستَذهَبُ هَكَذَا سُدًى؟ كَلَّا واللهِ, ظَهَرَ أثرُ حُسنِ خُلُقِهِ وتعامُلِهِ r في ثلَاثِ ثمراتٍ متتابعات الَأولى خَرَجَ ثُمَامَةُ من المسجد فَذَهَبَ فاغتسَلَ ثُمَّ دَخَلَ وأعلَنَ إسلَامَهُ فَوْرَاً بين يَدَي النبيِّ r, هَذِهِ الثمرَةُ الَأُولى: أسلَم, أولُ النَّهَارِ كَانَ كافراً, وآخِرُ النهارِ صَارَ مُسلِمَاً, إِنَّهُ الخُلُقُ الحَسَن وأثرُهُ وثَمَرَتُهُ. وثَمَرَةٌ ثانية تَغيَّرَ تَغَيُّرَاً نَفسيَّاً جذريَّاً مُفَاجِئَاً حَيثُ قَالَ مَقولَتَهُ المشهورة: يَامُحَمَّدُ, وَاللهِ مَا كَانَ عَلَى الَأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ فأَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الوُجُوهِ إِلَيَّ, وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيَّ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ البِلَاَدِ إِلَيَّ. ثَمَرَةُ حُسْنِ الخُلُقِ والمُعَامَلَة, صَارَ مُحِبَّاً للهِ ولرسولِهِ ولدينِهِ ولِأرضِهِ بَلْ اِنظرُوا للثمرَةِ الثالِثَةِ حِينَ يُسَخِّرُ ويُجَنِّدُ كُلَّ مَا يَملِكُهُ بينَ يدي رَسُولِ اللهِ في خِدمةِ دينِ اللهِ, فَقَطَعَ عَنْ المشركينَ الدعمَ الغذائِيِّ والتموينَ السنويّ الذي يُرسِلُهُ لَهُم كُلَّ عام حَتى استنجَدَ المشركونَ برسولِ اللهِ r يَسألونَهُ باللهِ والرحم أن يَتَوَسَّطَ عِندَ ثُمَامَةَ لِيُفْسِحَ لَهُم مَا كَانَ مَنَعَهُ عَنهم.
عباد الله, هَذَا حُسْنُ الخُلُق وتِلْكُم ثَمَرَاتُهُ فَتَأسَّوْا بِنَبيِّكُم r في أخلَاقِهِ, فَمَا مِنْ شَيءٍ أثقَلُ في ميزانِكُم يومَ القيامة من حُسنِ الخُلُق. اللهم ارزقنا التأسّيَ بأخلَاقِ نبيِّنَا محمدٍ r والِاهتداءَ بِهديه, اللهم اهدنا لِأحسَنِ الَأخلَاقِ ..
عباد الله, حُسْنُ الخُلُقِ بِاختِصَارٍ طَلَاقَةُ الوجهِ وبَذلُ النَّدَى وكَفُّ الَأذَى فَخَالِقُوا النَّاسَ بذلك, كَانَ بعضُ السلفِ يقول: لَئِن يَصحَبَنِي فاجِرٌ حَسَنُ الخُلُق أحبَّ إليَّ من أن يَصحَبَنِي عَابِدٌ سَيءُ الخلق. الكُلُّ مَيِّت ولن يَبقَى للعبدِ إلَّا الثناءُ الحَسَن والذكرُ الجميل, وفي المُقَابِلِ تَحمَّلُوا من النَّاسِ زَلَّاتِهِم وعَثَرَاتِهِم, واطلبوا الثوابَ من رَبِّكم,
مَنْ عَاشَرَ النَّاسَ لَاقَى مِنهُمُ نَصَبَـاً       لِأنَّ أخلَاقَهُـم بَغـيٌّ وعُـدْوَانُ
فأحسِن إلَى النَّاسِ تَستَعبِد قُلوبَهُمُ        فَطَالَمَـا اِستعبَدَ الِإنسانَ إِحسَانُ
وإِنْ أسَـاءَ مُسـيءٌ فَليكُنْ  لَكَ        في عُروضِ زَلَّتِهِ صَفْـحٌ وَ غُفْرَانُ
اللهم حَسّن أخلَاقَنا, وَقَوِّ إيمانَنا, وزَكِّ نفوسَنَا, واشرَح صدورَنا, ويَسِّر أمورَنَا, واكفِنَا مَا أهَمَّنا, وألْهِمنَا يا ربَّنَا رُشدَنا, واصرِف عَنَّا مَا يَضُرُّنَا, يا رَبَّ العالَمِين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق