الاثنين، 20 مايو 2013

خطبة بـ عنوان : "محاسبة الولاة والمسؤولين"

عباد الله, في الصحيحينِ أنَّ رَسُولَ اللهِ اِسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى الصدقة, فَلَمَّا فَرَغَ من عَمَلِهِ وجَاءَ بالمالِ لرسولِ اللهِ قَالَ: يا رسولَ الله هَذَا لكُمْ، وَهَذَا أهدي لي فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: هَلَّا جَلَسْتَ فِي بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ حَتَّى تَأْتِيَكَ هَدِيَّتُكَ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا ثُمَّ خَطَبَ فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَسْتَعْمِلُ الرَّجُلَ مِنْكُمْ عَلَى الْعَمَلِ مِمَّا وَلَّانِي اللهُ، فَيَأْتِي فَيَقُولُ: هَذَا مَالُكُمْ، وَهَذَا هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي، أَفَلَا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ حَتَّى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ إِنْ كَانَ صَادِقًا، وَاللهِ لَا يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْهَا شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ إِلَّا لَقِيَ اللهَ تَعَالَى يَحْمِلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .. الحديث
عباد الله, يؤصِّلُ النبيُّ في هذا الحديثِ لمبدأ عظيمٍ في إصلاحِ المجتمع والتعاملِ مع مواردِهِ المالية, هو محاسبةُ الولاة. محاسبةُ الولاةِ والمسؤولين الذين يُعيّنُهُم ولي الأمر. هل تعلمونَ مَنْ أولُ مَن طبَّقَ هَذَا المبدأ؟ إنه أميرُ المؤمنينَ عمرُ بنُ الخطاب أول من طبّقَ هذا المبدأ أيامَ خلافتِهِ حين توسعت الفتوحاتُ الإسلامية, وكَثُرَت موارِدُ الدولةِ المالية, فحاسَبَ وُلاتَهُ وعمّالَهُ, وَمَا كَانَ يَغُضُ الطرفَ أبداً عن إنتهاكاتِهِم الغيرِ مقصودة فَضلاً عن المقصودةِ, كَانَ يُحاسِبُهُم بِدِقّة, لأنه يعلمُ أنه مسؤولٌ أمامَ الله عن كُلّ درهم يُصرَف في غيرِ وجهِ حَق, وأنّ هذا المالَ ليسَ مالَه ولا مَالَ أُسرَتِهِ بل مَالُ الله واستخلَفَهُ عليه لينفِقَهُ في حقوقِ الناس ومصالِحِهم. من صور محاسبته لولاتِهِ: أنه كان يراقبُ أموالَهُم قَبلَ الولايةِ وبعدَهَا مَخافةَ أن يستئثِرُوا بشيءٍ من دونِ الناس، فعن الشعبيّ أنَّ عمرَ كَانَ إذا استعمَلَ عَامِلاً كَتَبَ مَالَه. لِيعلَمَ كَم معَه لَمّا وَلّاه, ثُم كم معَه إذا عُزِل. ومن أمثةِ مراقبتِهِ لأموالِ الولاة: أَنَّهُ اسْتَعْمَلَ أَبَا هُرَيْرَةَ عَلَى البَحْرَيْنِ، فَقَدِمَ بِعَشْرَةِ آلاَفٍ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: اسْتَأْثَرْتَ بِهَذِهِ الأَمْوَالِ يَا عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّ كِتَابِهِ؟فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَسْتُ بَعَدُوِّ اللهِ وَعَدُوِّ كِتَابِهِ، وَلَكِنِّي عَدُوُّ مَنْ عَادَاهُمَا. قَالَ: فَمِنْ أَيْنَ هِيَ لَكَ؟ قَالَ: خَيْلٌ نُتِجَتْ، وَغَلَّةُ رَقِيْقٍ لِي، وَأُعْطِيَةٌ تَتَابَعَتْ. فَنَظَرُوا، فَوَجَدُوْهُ كَمَا قَالَ. عمر يُحَاسِبُ مَن؟ يُحَاسِبُ أبا هريرة راويةَ الحديث الصحابيَّ الزاهد إنها الأمانةُ واستشعَارُ المسؤوليةِ, أمامَ هذه المباديء الإيمانية الكُلُّ سواسية.
ومن صور محاسبته لولاته, أنه أمَرَ عمالَهُ فكتبوا أموالَهُم، منهم سعدُ بنُ أبِي وقاص، فَشَاطَرَهُم عمرُ أموالَهُم، فأخَذَ نِصفَهَا وأعطَاهُم نِصفَهَا. فَسّر ابنُ القيّم ذلك بقولِهِ: وَصَادَرَ عُمَّالَهُ، فَأَخَذَ شَطْرَ أَمْوَالِهِمْ لَمَّا اكْتَسَبُوهَا بِجَاهِ الْعَمَلِ، حتى ما يأخذه المسؤولون والوزراء بجاههم يحاسبهم عليه. فَجَعَلَ أَمْوَالَهُمْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ شَطْرَيْنِ. كَتَبَ يوماً رسالةً إلى أحدِ وُلَاتِهِ, فقال: يَا عُتْبَةَ بْنَ فَرْقَدٍ, إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَدِّكَ, وَلَا مِنْ كَدِّ أَبِيكَ، وَلَا مِنْ كَدِّ أُمِّكَ، فَأَشْبِعِ الْمُسْلِمِينَ فِي رِحَالِهِمْ مِمَّا تَشْبَعُ مِنْهُ فِي رَحْلِكَ. قَالَ النووي: مُرَادُهُ أَنَّ هَذَا الْمَالَ الَّذِي عِنْدَكَ لَيْسَ مِنْ كَسْبِكَ وَلَم تتعب في تَحْصِيلِهِ, ولا وَرِثْتُهُ مِنْ أبيكَ وأمك بلْ هو مالُ المسلمين فشارِكهم فيه ولاتَختص عَنْهُمْ بِشَيْءٍ مِنْهُ بَلْ أَشْبِعْهُمْ مِنْهُ وَهُمْ فِي مَنَازِلِهِمْ كَمَا تَشْبَعُ مِنْهُ فِي الجنسِ والقَدْرِ والصفة ولاتؤخْر أرزاقَهُم وتُحوجُهُم يَطْلُبُونَهَا مِنْكَ بَلْ أَوْصِلْهَا إِلَيْهِمْ وَهُمْ فِي مَنَازِلِهِمْ بِلَا طَلَبٍ. عمر يؤكد في رسالتِهِ هذه مسألتين:
الأولى: أن لا يَختص الوالي بشيءٍ دونَ الناس. قَالَ رَجُلٌ لِعُمَرِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ, لَوْ وَسَّعْت عَلَى نَفْسِك فِي النَّفَقَةِ مِنْ مَالِ اللَّهِ. من بيتِ المال فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَتَدْرِي مَا مَثَلِي وَمَثَلُ هَؤُلَاءِ؟ كَمَثَلِ قَوْمٍ كَانُوا فِي سَفَرٍ فَجَمَعُوا مِنْهُمْ مَالًا وَسَلَّمُوهُ إلَى وَاحِدٍ يُنْفِقُهُ عَلَيْهِمْ فَهَلْ يَحِلُّ لِذَلِكَ الرَّجُلِ أَنْ يَسْتَأْثِرَ عَنْهُمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ؟
المسألة الثانية: أنَّ من واجِبِ الوالي أن يُعطِيَ الناسَ مَا يَحتاجونَهُ بِلَا مِنَّة ولا تَقصير, لأنَّ المالَ مالُهُم, وجعلَهُ اللهُ قيمّاً عَليه, يقولُ عمر: أَمَا وَاللَّهِ مَا أَنَا بِأَحَقَّ بِهَذَا الْفَيْءِ مِنْكُمْ، وَمَا مِنَّا أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا وَلَهُ فِي هَذَا الْفَيْءِ حَقٌّ، وَلَئِنْ بَقَيْتُ لَيَبْلُغَنَّ الرَّاعِيَ وَهُوَ فِي جِبَالِ صَنْعَاءَ حَقَّهُ مِنْ فَيْءِ اللَّهِ. يعني أنَّ الكُلَّ يَستفيدُ من مالِ بيتِ المال, ولو كَانَ في أطرافِ الدولةِ في جهةٍ بعيدة. الكل يستفيد, لِأنَّ هَذَا مالُ المسلمين, ويوزَّعُ بينهم, بعدلٍ ومساواةٍ دُونَ تفريقٍ بينَ قريبٍ وبعيد, لَمّا وُلي عِيَاضَ بْنَ غَنْم قَدِمَ عليه نَفرٌ من أهلِ بيتِهِ يطلبونَ صِلَتَه ومعروفَه، فَلقيَهُم بالبِشْرِ وأكرمَهُم، فأقاموا أياماً ثم كلّموه في الصلةِ وأخبروهُ بِمَا تَكَلّفوا من السفرِ إليهِ رجاءَ مَعروفِهِ، فأعطَى كُلَّ رجلٍ منهم عشرةَ دنانير، وكانوا خمسة، فردوها وتَسخّطوا ونالوا مِنه، فقال: أي بني عَم، واللهِ ما أُنكِرُ قرابتَكُم ولا حقَّكُم ولا بُعدَ شُقَّتِكُم، ولكن ما خَلُصتُ إلى ما وَصلْتُكُم بِهِ إلا ببيعِ خَادِمي وبيعِ ما لَاَ غِنًى بِي عنه، فاعذُرُوني؛ باعَ خَادِمَهُ وبعضَ مالِهِ لِيَصِلَهُم, ولا يَأخُذ فِلسَاً من بيتِ المال, قَالُوا: ما عذرَكَ الله، إنك والي نصف الشام وتُعطي الرجلَ مِنّا ما لا يُبلِغُهُ أهلَه. قال: تأمروني أسرِقُ مالَ الله, يعني من بيتِ المال, واللهِ لَأَن أُشَقَّ بالمنشارِ أحبَّ إليَّ من أن أخونَ فِلساً. هؤلاء الرجال وأمثالُهُم هُم من يُعتمَدُ عليهم في توزيعِ الثّروات والميزانيات ويؤتمنون على إنفاقِهَا وصرفِها مراقبينَ اللهَ تعالى قبلَ أن يُرَاقِبُوا الحاكم, فلا غرو يا عباد الله إذا صَلُحَت في زَمَانِهِم البلاد, وطَهُرَت من الفساد, ورَضِيَ عن الراعي العباد, وعَاشُوا في دَعَةٍ وسَعَة فلا تقرأ شاكية, ولا تَسمع لاغية.
اللهم أصلح أحوالَنا, وأرخص أسعارَنا, واقض ديونَنا, وفرج همومَنَا, اللهم اغن فقيرنا, واجبر كسيرنا, وحقّق لنا فيما يرضيك آمالَنَا ..
عباد الله, ومبدأٌ آخَرُ يُؤَصِّلُهُ النبيُّ في حَديثِ جمعِ الصدقة في محاربة الفسادِ المالي والإداري ألا وهو تحريمُ أخذِ أي مالٍ وأنتَ مسؤولٌ في الدولة, لَمَّا جَاءَ الرجلُ بالزكوات وهو من عُمَّالِ النبيّ, جَاءَ معَهُ بمالٍ قَالَ: أُهدي إليّ, أنكَرَ عَليهِ النبيُّ فوراً, لأنه لو لَم يَكُن عَامِلَاً للنبيِّ لَمَا أَهدَى لَهُ أحَد, لَمَا اهتَمَّ بِهِ أحد, فقرَّرَ النبيُّ أنَّ هَذِهِ الهديةَ سُحتٌ, لَا يَجوزُ أخذُهَا فَقَالَ: وَاللهِ لَا يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْهَا شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ، إِلَّا لَقِيَ اللهَ تَعَالَى يَحْمِلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. رسالة تخويف لكل مسؤول أن يحذر تلك الهدايا والشرهات والتي هي في الحقيقةِ رشاوى وسُحت, يُحرَمُ أخذُهَا, بل تُرَدُّ جَميعُهَا لبيتِ مالِ المسلمين, هَذِهِ أيضَاً صورَةٌ حيّةٌ من محاسبَةِ الولاة, ومحاربةِ الفساد.
عباد الله, الحاكم الصالح يحاسبُ ولاتَهُ ووزرائَهُ ومعاونِيه ويحفَظُ مالَ المسلمين بِهَذَا يَثِقُ الناسُ فِيهم, وتلتَفُّ قُلوبُهُم حَولَهُم, وتستَقِم أحوالُهُم وإن حَصَلَ خِلَافَ ذَلِك, فاسمعوا قولَ النبيّ: إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً, أثرة يعني اختصاصٌ بالمالِ لأناسٍ دونَ آخرين, إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً وَأُمُورًا تُنْكِرُونَهَا قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا بِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَدُّوا إلَيْهِمْ حَقَّهُمْ؛ وَاسْأَلُوا اللَّهَ حَقَّكُمْ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق